عندما يحكم السلفيون على الديمقراطية حكما قاطعا بأنها كفر أكبر ، كفر يخرج مرتكبه من ملة الإسلام ، فضلاً عن المؤمن به ، المعتقد به كخيار وحيد ، فإنهم لا يُجرّمون الديمقراطية كنظام سياسي فحسب ، وإنما هم بالضرورة يجرمون الأسس والمبادئ الإنسانية التي تشكلت بها التصورات الديمقراطية على امتداد تاريخها الطويل
أخطر ما تحمله ظاهرة فوز التيار السلفي التقليدي في الانتخابات البرلمانية المصرية ، ليس الفوز بحد ذاته ، ليس الانتصار الذي حققه مُكفّرو الديمقراطية ، بواسطة الديمقراطية ؛ من أجل القضاء على الديمقراطية في النهاية ، وإنما هو عدم الاكتراث الذي طبع عملية تلقي الجماهير لهذا الخبر الكارثي ، بل وطبع عملية تلقي كثير من النخب الفكرية والسياسية لخبر اقتراب النار من الهشيم ! ؛ مع إدراكنا لاختلاف مستويات عدم الاكتراث التي اختلط فيها التبرير والتهوين بالتفسير والتحليل.
ما حدث كارثة بكل المقاييس ، إنه تعرية لراهنية الذات ، وفي الوقت نفسه تحطيم لكل الآمال والطموحات والتطلعات المستقبلية ؛ ما يعني إشاعة مساحة من اليأس الكبير القادر على إحراق كل أوراق المستقبل ، المستقبل القريب والبعيد ؛ ما دام أن المستقبل سيصبح في قبضة هؤلاء الذين لا ينتمون إلى المستقبل إلا بعد إذابته في أسيد الماضي العتيق.
إذن ، مع كل ما تحمله هذه الكارثة من دلالة واقعية صارخة ، ودلالة رمزية محايثة ، إلا أنك تجد كثيراً من البرود واللامبالاة في قراءة أبعادها ، وفي تقرير مستوى خطورتها . إنها يد تمتد من الظلام على حين غِرّة ؛ فتأخذ (أو هي في طريقها لتأخذ!) كل مكتسبات الحرية ، رغم ضآلتها ومحدوديتها ، إلى منصة إعدام الحريات في وضح النهار . يحدث هذا ، بينما الأغلبية (من جماهير ونخب) يتساءلون بغباء أو باستغباء : ماذا سيفعل السلفيون التقليديون فيما لو أمسكوا بمقاليد الحكم في هذا البلد أو ذاك ، وما موقفهم من الحريات ، وإلى أي مدى سيقبلون التعددية ...إلخ؟!
عدم الإدراك لمستوى الخطورة الكامن في فوز السلفيين ، يعني أن الوعي العام على امتداد العالمين : العربي والإسلامي ، لم يفهم ما ينطوي عليه المشروع السلفي من رُؤى مُدمرة فيما لو تحقق له شيء من الهيمنة ، وأنه (= الوعي العام) من جهة أخرى لا يفهم الديمقراطية ، لا من حيث منطلقاتها التي يجب أن تصدر عنها ، ولا من حيث أبعادها الغائية التي تسعى إلى تحقيقها واقعا متجسدا في حياة الناس .
عندما يحكم السلفيون على الديمقراطية حكما قاطعا بأنها كفر أكبر ، كفر يُخرج مرتكبه من ملة الإسلام ، فضلاً عن المؤمن به ، المعتقد به كخيار وحيد ، فإنهم لا يُجرّمون الديمقراطية كنظام سياسي فحسب ، وإنما هم بالضرورة يُجرّمون الأسس والمبادئ الإنسانية التي تشكلت بها التصورات الديمقراطية على امتداد تاريخها الطويل .
التكفير هو أقصى وأقسى حدود التجريم ، كما هو أقصى حدود العداء والاحتراب ؛ وفق ما تحكم به الرؤية السلفية لاستحقاقات وإلزامات واشتراطات الفصل بين الكفر والإيمان . لهذا ، من المُحزن والمُحبط والمقلق ، بل والمُرعب ، أن يتسامح الوعي الاجتماعي (بكل أنواعه : جماهيريا وسياسيا وفكريا) مع ظاهرة صعود السلفية التقليدية إلى واجهة العمل السياسي عبر آلية العمل الديمقراطي ؛ وكأن الأمر مجرد انتصار فريق على فريق ، أو حزب على بقية الأحزاب .
لقد استقبل الوعي الاجتماعي العام فوز السلفيين بفتور أو في أحسن الأحوال برفض حذِرٍ واستنكار خجول ؛ وكأن الأمر لا يعدو فوز تيار متعصب أو جاهل أو عنصري ، بينما هو (= التيار السلفي التقليدي) في الواقع أخطر من كل ذلك بكثير . إنه ليس تيارا متعصبا ولا جاهلا ولا عنصريا فحسب ، وإنما هو إضافة إلى ذلك تيار لا تتحقق هويته إلا من خلال تصور اتباعي / انقيادي / خنوعي / أحادي / دوغمائي مناقض لجوهر الفلسفة الديمقراطية أصلا ، بوصفها (كما في تصوره الخاص) : كفرا بواحا لا يقبل الاضطرار، ولا الجهل ولا التأويل .
إن كل مبادئ الديمقراطية (تلك المبادئ التي لايمكن أن تتجسد حقوق الإنسان كاملة إلا من خلالها) محل عداء من قِبل السلفية التقليدية الاتباعية بكل أطيافها وتشكلاتها . والسؤال الذي لابد أن يُطرح هنا : ما هو مصير تلك المبادئ الديمقراطية / الإنسانية فيما لو استطاع أعداؤها (الذين يعادونها إلى درجة التكفير) الهيمنة على مفاصل السلطة في مجتمع ما من هذه المجتمعات العربية التي لم يتأسس فيها الوعي الحقوقي الإنساني ، بل لا يزال مثل هذا الوعي غريبا ومُهمشا ومُبعدا عن سلم الأولويات ، إن لم يكن مبعدا عن دائرة الاهتمامات أصلا ، فضلًا عن أن يكون محاصرا بفتاوى التحريم والتجريم المتحالفة مع قوى الاستبداد والاستعباد؟
الأدبيات السلفية لا تتحفظ على بعض المبادئ الديمقراطية فحسب ، كما هي حال بعض التيارات الرجعية أو العنصرية ، وإنما هي ترى في الديمقراطية : (الكفر البواح)، و(الهجوم على الإسلام)، و(اتباع سنن من قبلنا) ، و(اتباعاً لأهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا ...) ...إلخ تلك الأدبيات التي تعكس أن عداء السلفية للديمقراطية ليس عداء إجرائيا أو ظرفيا أو تفصيليا ، بحيث يمكن أن يتغير بتغير الظروف أو بتقييد بعض المطلق التحرري فحسب ، وإنما هو عداء وجود ، عداءٌ منطوٍ على إرادة قتل الديمقراطية ذاتها في أقرب فرصة تسمح بها الظروف .
خذ هذه المقاطع التي تتردد بنصها في الأدبيات السلفية التقليدية . وهي تعكس جوهر الموقف السلفي على اختلاف تياراته وتنوع اتجاهاته من الديمقراطية بكل وضوح . يقول أحدهم وهو مقال الجميع : " اعلم أن أصل هذه اللفظة الخبيثة (الديمقراطية) يوناني وليس بعربي " . ويقول : " فالديمقراطية كفر بالله العظيم وشرك برب السماوات والأرضين ومناقضة لملة التوحيد ودين المرسلين " . ويقول : " فلتختر يا عبدالله .. إما دين الله وشرعه المطهر وسراجه المنير وصراطه المستقيم .. وإما دين الديمقراطية وشركها وكفرها وطريقها الأعوج المسدود ... حكم الله الواحد القهار ...أم حكم الطاغوت ..." . ويقول : " وهكذا يظهر إخوة الإيمان لنا أن الديمقراطية نظام كفر ، يحرم أخذها ، والدعوة إليها ، والترويج لها ، وأنها تختلف عن الشورى اختلافا جذريا ...إلخ" .
وكما يعكس هذا موقف السلفية التقليدية من الديمقراطية على مستوى الخطاب الموجه للنخب والمتعلمين من أبناء التيار السلفي ، فإن الدعاة العاميين الشعبويين يسعون إلى تبسيط هذا التصور الرافض للديمقراطية من أجل تعميمه على نطاق شعبي واسع .
ومن هنا ، يطرحون أبسط الأمثلة وأقربها إلى تصور الإنسان العامي ؛ من أجل (تبشيع) الديمقراطية في نظره ؛ ليظفروا بصوته الانتخابي في نهاية المطاف!.
يقول الداعية السلفي التقليدي العامي : وجدي غنيم ، بعاميته الفجة ، مقارناً بين أكل لحم الخنزير و(أكل !) الديمقراطية ما نصه : " إحنا اللحم بتعنا الخرفان والبقر والجاموس والجمال والبط والوز . الخنزير مش بتعنا . أنا عندي بط ووز ولحم بقر كلها . راح يمسك لي في الخنزير . إيه الديمقراطية ؟ أنا مالي ومال الديمقراطية ؟ أنا عندي الشورى .. أروح آخذ حاجة من برا ليه ؟ لمّا ما يكنش في بيتي أكل نظيف وأكل حلو وأكل جميل وامراتي عملاه بإيديها، وامسميَه ربنا عليه اسيب أنا دا وروح أدور على سندوتش تاني معمول بزيت خنزير... الديمقراطية دي قايمة على الكفر والعياذ بالله ، أيوه أي حاجة نعملها ، عاوز راجل يتزوج راجل ، يرفع إيده اللي موافق ، آه خلاص هي الديمقراطية كدا ...إلخ ".
لاحظ أن ما يجمع بين النصين : الفصيح والعامي ، أنهما يصدران عن تصور واحد ، تصور يرى أن الديمقراطية كفر وانحلال واستعمار أجنبي . وفي كلا النصين يظهر بوضوح ذلك الجرح النرجسي الذي يمكن معاينته من خلال البُعد السيكيولوجي ، فالديمقراطية مرفوضة لأنها آتية من الآخر ، الآخر المنافس ، الآخر العدو ، الآخر الذي لا ترى الذات ذاتها إلا من خلاله ؛ بحيث يتحقق عجزها من خلال قدرته ، وانحطاطها وتخلفها من خلال تحضره وتقدمه . أي أن القبول بالديمقراطية وفق هذا التحيز الوجداني السلفي يعني أننا لايمكن أن ننهض بذواتنا ، لايمكن أن نتقدّم بما لدينا ، لا يمكن أن نتحضر بما ورثناه عن أسلافنا ، وإنما لابد من الاستعانة بمنتج أبدعه وطوره الآخر ، العدو التاريخي ، ما يعني الشعور بالصغار إزاءه ، بل وبضرورة الاعتراف بالهزيمة الحضارية التي لا يزال الوجدان السلفي يمانع ويعاند ويُخادع كيما يبتعد عن كل ما يشي بهذا الاعتراف .
كما نلاحظ أيضاً ، ومن خلال النصوص السابقة ، أن الوعي السلفي يُقيم تقابلا ضديّا بين الكفر والإيمان ، بين الحلال والحرام ، وفق ثنائية قطعية : إما أن تقبل الإيمان والحلال ، وهذا لا يتحقق لك إلا برفض الديمقراطية وتجريمها ، وإما أن تقبل الديمقراطية ؛ وحينئذٍ ستجد نفسك متهماً بالكفر والشرك وعبادة الطاغوت واقتراف المحرمات ! .
في سياق توظيف هذه الثنائية إلى أقصى حد ، يتم استحضار أبشع الأمثلة في الوعي العام . يتم عقد تلازم بين المثلية الجنسية (= الشذوذ) والديمقراطية . وهنا يجبرك الطرح السلفي على خيار هو يصنع ملامحه وحدوده ، فإما أن تقبل الديمقراطية مقرونة بإباحة الشذوذ ، وإما أن تكفر بها وتعدها من نواقض الإيمان ومما يستوجب الولاء والبراء ، فتعمد إلى محاربتها وتنفير الناس منها ؛ ليقنَعوا بعد ذلك بما ورثوه من آليات الخنوع والخضوع والانقياد التام .
إن هذا التصور الثنائي الدوغمائي الحاد ، الذي يعكسه هذا الطرح ، والقائم على جملة ادعاءات ، يسكت عن الأسئلة المناكفة التي يمكن أن تخترقه في العمق ، إنه يسكت عن أهم سؤال في هذا السياق ، وهو : لماذا لايكون بعض ما عند الآخر حلالاً طيباً ، كما هو عندنا ، وهل لحم البقر والبط ...إلخ ، خاصٌ بالأنا ، بحيث يرمز إلى هويتها ، بينما الآخر لا طعام لديه إلا لحم الخنزير ؟
وبصورة أخرى ، لماذا تكون الديمقراطية شركاً وكفراً يناقضان حكم الله .. إلخ ؟ ألا يمكن أن تكون القيم الإنسانية العليا ، والتي هي حكم الله ، لا تتحقق بصورتها الأكمل والأشمل إلا من خلال الديمقراطية ، وبهذا تنقلب الديمقراطية من مشروع كفر وشرك إلى مشروع إيمان وتوحيد ، إيمان هو بالتأكيد ليس الإيمان السلبي المعادي للإنسان ، أي الإيمان كما يطرحه التقليديون ؟