من يقرأ مقدمة مؤسس علم الاجتماع: أبي زيد, عبدالرحمن بن محمد بن خلدون, سيكتشف أن صاحبها إنما كتبها خصيصاً لتحليل نموذج الدولة في التجربة الحضارية الإسلامية. تلك الدولة التي كان أبرز ما يميزها حتى عهد ابن خلدون, مرورها "شبه الحتمي, ولكن الموضوعي" بالدورة التاريخية العصبية, التي كانت لازمة من لوازم الدولة القديمة, والعربية منها تحديدا.
من ضمن ما حملته المقدمة من تحليل اجتماعي سياسي, ما يتعلق بنموذج علاقة الدولة بمحكوميها. لقد رأى ابن خلدون أن هناك ثلاثة أطوار تتحكم بهذه العلاقة, هي ما يمكن التعبير عنها, وفقاً للجابري في كتابه:(فكر ابن خلدون: العصبية والدولة),بالأطوار التالية:
طور التأسيس والبناء.
طور العظمة والمجد.
طور الهرم والاضمحلال.
ويؤكد ابن خلدون أن الطور الأخير, إذا حل بالدولة,( والمقصود هنا العصبة الحاكمة), فإن"هرمها لا يرتفع". تتميز علاقة العصبة الحاكمة ب"رعاياها" خلال الطور الأول, وفقاً لابن خلدون, بعدة خصائص,( يمكن الاستعاضة عن العصبة هنا ب"الحزب الحاكم" في التجربة العربية المعاصرة ), تتمثل في علاقات التسامح والرفق مع "الرعايا". يقول ابن خلدون عن هذه الخاصية: "فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم من الغلب على كثير من النواحي والأمم, وجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله: من الكرم والعفو عن الزلات, والاحتمال من غير القادر, والقرى للضيوف, و حمل الكل, وكسب المعدم, و الصبر على المكاره,والوفاء بالعهد, و بذل الأموال في صون الأعراض, والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه, و إنصاف المستضعفين من أنفسهم, و الانقياد للحق, والتواضع للمسكين, واستماع شكوى المستغيثين, والتجافي عن الغدر و المكر والخديعة ونقض العهد...". وإلى جانب هذه الخلال العامة, فهناك خلال أخرى خاصة بالنواحي المعيشية للرعية. يقول ابن خلدون عن هذه الخاصية:"إن كانت الدولة على سنن الدين فليست تقتضي( = تفرض) إلا المغارم الشرعية من الصدقات و الخراج و الجزية, و هي قليلة الوزائع(= الضرائب الفردية), لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت, و كذا زكاة الحبوب و الماشية, وكذا الجزية والخراج, و جميع المغارم الشرعية. و هي حدود لا تُتَعدى. و إن كانت على سنن التغلب والعصبية, فلا بد من البداوة في أولها كما تقدم, و البداوة تقتضي المسامحة والمكارمة,وخفض الجناح, والتجافي عن أموال الناس, و الغفلة عن تحصيل ذلك, إلا في النادر, فيقل لذلك مقدارالوظيفة الواحدة,( الضريبة الجماعية), والوزيعة, التي تُجمع الأموال من مجموعها. و إذا قلت الوزائع والوظائف على الرعايا نشطوا للعمل, ورغبوا فيه, فيكثر الاعتمار و يتزايد, لحصول الاغتباط بقلة المغرم, و إذا كثر الاعتمار, كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع, فكثرت الجباية التي هي جملتها( جملة الأموال المتجمعة). ويعلق الدكتور:محمد عابد الجابري في كتابه السابق ذكره, على هذا الطور من أطوار الدولة, بما نصه:"والخلاصة أن سياسة الدولة في هذا الطور تقوم على ثلاثة أسس سليمة, وذكر منها:
سلوك سياسة كسب القلوب. وهذا ما يضمن للدولة ولاء مختلف الفئات التي يسري عليها حكمها.
الاقتصاد في النفقات وعدم الغلو في فرض الضرائب والجبايات. وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى خلق جو من الاطمئنان والازدهار, فيزداد ولاء الرعية للدولة, وتمسكهم بعصابتها".
لكن الالتذاذ بالسلطة, إلى جانب تراكم المال في أيدي العصبة الحاكمة, نتيجة للسياسة المالية الحكيمة التي اتبعتها الدولة في طور التأسيس, لا بد وأن يحضانها, سيكولوجياً وحضارياً,(وفقاً لمراد ابن خلدون من مصطلح الحضارة), على الانخراط سريعاً في قيم الاستبداد, بما فيها من إثقال على الرعية في أرزاقهم,جنباً إلى جنب, مع التضييق عليهم في حرياتهم, مما ستكون نتيجته وقوع الدولة في طور الهرم الذي لا مفر منه. وهذا ما يقرره ابن خلدون في فصل هام من مقدمته, جعل عنوانه:"فصل في كيفية طروق الخلل إلى الدولة", يشير فيه إلى أن أهم دعامتين تقوم عليهما الدولة, ويقوم عليهما كيانها, هما: العصبية, والمال. وأن "الخلل إذا أصاب الدولة, طرقها في هذين الأساسين". ثم يتحدث عن كيفية"طروق الخلل إلى الشوكة والعصبية, ثم إلى طروقه إلى المال والجباية". ثم يتحدث عن كيفية استئثار صاحب الدولة في هذا الطور: طور الهرم, بالسلطة بعيداً عن عصبيته(= زمرته التي قامت بالثورة معه), (قارن: علاقة رئيس الحزب الحاكم ببقية أعضاء الحزب في التجارب العربية المعاصرة). ثم لاحقاً, كيف يستبد صاحب الدولة ومن معه من ثلة قليلة من أصحابه الخلص, ب"الرعية", واحتجابه عنهم, وفوق ذلك, الإثقال عليهم بالمغارم المالية. يشرح ابن خلدون هذه المسألة, فيرى أن صاحب الدولة عندما يذهب به الاستبداد إلى أقصى مداه. وعندما يذهب إلى الإكثار من الضرائب والمغارم( نتيجة زيادة الإنفاق على الحاشية الأقربين, والمرتزقة), إلى الحد الذي لا مزيد عليه, تتفكك عرى العصبية وتضعف لحمتها, ويضجر السكان ويتقاعسون عن العمل وتكون النتيجة ضعف الدولة بفساد عصبيتها, ودخولها في طور الهرم, نتيجة الأزمة الاقتصادية المحتومة التي يتسبب فيها تجاوز النفقات للمداخيل.
ثمة "تطور" آخر سيصاحب الدولة في طور هرمها. إذ سيعمد رئيس الحزب الحاكم( = رأس العصبة بلغة ابن خلدون), إلى الاستعانة بمن سماهم ابن خلدون "الموالي والمصطنعين ومرتزقة الجند". إذ يقول, في فصل جعل عنوانه:( فصل في استظهار صاحب الدولة على قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين),:" فإذا جاء الطور الثاني و ظهر الاستبداد عنهم و الانفراد بالمجد, احتاج في مدافعتهم عن الأمر و صدهم عن المشاركة, إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم, يستظهر بهم عليهم, و يتولاهم دونهم, فيكونوا أقرب إليه من سائرهم, وأخص به قرباً و اصطناعاً, و أولى إيثارا و جاهاً, لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم, والرتبة التي ألفوها في مشاركتهم, فيستخلصهم صاحب الدولة, و يخصهم بمزيد من التكرمة والإيثار, و يقسم لهم ما للكثير من قومه..". قارن هذا الاستظهار من قبل صاحب الدولة في النموذج الخلدوني, بما فعلته وتفعله بعض الأنظمة العربية المعاصرة, والتي دخلت في طور الهرم, من الاستعانة بنماذج معاصرة من " الموالي والمصطنعين", ك"البلطجية في مصر, والشبيحة في سوريا, والمرتزقة الأفارقة في ليبيا!".
يقول الجابري في الكتاب نفسه:" هذه الوضعية, وضعية ضعف السلطة, ونشوب أزمة اقتصادية هي ما يقصده ابن خلدون بحالة هرم الدولة. وهي حالة توازي ما نعبر عنه نحن اليوم ب(الوضع الثوري)". وإذا كان الوضع الثوري لا يعني حتمية قيام الثورة, إلا أنه يعني أن الوضع العام في المجتمع بات قابلا للانفجار والثورة في أي لحظة.
بيننا وبين ابن خلدون أكثر من ستمائة سنة على رحيله, ومن يقرأ تحليله لأطوار الدولة,خاصة طور الهرم, ثم يقارنه مع وضعية كثير من الأنظمة العربية المعاصرة,( أخص هنا الدول ذات الأنظمة الجمهورية تحديدا), سواء منها تلك التي سقطت, أو تلك التي لا تزال تنتظر, لا يملك إلا أن يخلع قبعته لهذا العالم الفذ الذي يبدو وكأنه لا يزال يعيش بين ظهرانينا اليوم!