العلاقات العربية - الغربية تنقسم إلى قسمين القسم الأول ويشمل الولايات المتحدة والقسم الثاني ويشمل أوربا ولكل من القسمين معايير تاريخية لكيفية إدارة علاقتهما مع الشرق الأوسط، ومع الاختلاف الكبير في إدارة السياسة الدولية بين أوربا وأمريكا إلا أن هناك الكثير من نقاط الالتقاء في منطقة الشرق الأوسط فالأمريكان والأوربيون يتمسكون بنفس الموقف تجاه الوجود الإسرائيلي ومصالحهم تدعم هذا الوجود بطريقة خاصة.
هذه الحقيقة السياسية هي احد أهم مصادر العمل المقابل والتي تقوم عليها السياسة العربية خلال عقود مضت حيث تحاول التواجد في منتصف الطريق لتخفيف التدفق الهائل من الدعم المتواصل لدولة إسرائيل ، هذا العمل ظل قائما على مدى الستين سنة الماضية من عمر الكيان الإسرائيلي، ولم تستطع الدول العربية وبكل أسف أن تفعل أكثر من ذلك لكون خياراتها في مراحل مختلفة من القضية الفلسطينية تميزت بالتناقض والانحياز لطرف بعينه.
ففي بداية الاحتلال الإسرائيلي كان تحرير الأرض كلها وطرد اليهود من فلسطين هو العنوان ولذلك لم تلجأ الدول العربية إلى منطقة الحلول الممكنة، ولم تقبل بأي عروض مقابل الفوز ولو بأجزاء من الأرض العربية المحتلة، ومع تقادم السن في القضية الفلسطينية دخلت الدول العربية مرحلة الوقوف في الطرف المقابل بعد عدة حروب انتصرت في معظمها إسرائيل وقد مثلت اتفاقية (كامب ديفيد) المرحلة الثانية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتسابق العالم العربي لخوض تجربة الاعتراف غير المباشر بالحقيقة الإسرائيلية.
الأربعة عقود الماضية كانت محاولة جادة من الغرب بشقيه الأمريكي والأوربي للوصول إلى حلول ترضي الأطراف جميعا فالعالم العربي وبطبيعته الجغرافية والاجتماعية لا يستقل سياسيا وبشكل واضح عن مجتمعه، ولذلك ظل الصوت الشعبي في العالم العربي مسؤولا عن الموقف تجاه إسرائيل ، فقضية فلسطين ببعدها العقدي مرتبطة بالشعوب العربية بطريقة فكرية وليست سياسية كما تديرها الدول، وفي كثير من المراحل التاريخية من عمر القضية الفلسطينية تجاوزت السياسات العربية شعوبها في محاولة تحقيق حلول مقبولة للقضية الفلسطينية.
اليوم وبعد مرور ستة اشهر تقريبا على بداية الثورات العربية بدأ الغرب يلوّح بشكل كبير لمستقبل مختلف للقضية الفلسطينية ودولة حدودها مربوطة بأحداث العام سبعة وستين ولكن : السؤال القائم هل هناك علاقة يمكن البناء عليها سياسيا بين الثورات العربية ومستقبل القضية الفلسطينية من جانب، وقضايا الإرهاب من جانب آخر..؟ وهل سوف تتغير العلاقات الغربية - العربية بعد العام 2011 م ..؟
في إسرائيل هناك أزمة تبدو في الأفق ومع كل الدعم الذي تتلقاه دوليا فخلال الأشهر القادمة سوف تضطر إسرائيل إلى الدخول في دوامة سياسية جديدة حيث ستواجه أزمة الاعتراف بها كدولة يهودية، وذلك مع تقدم الفلسطينيين لانتزاع الاعتراف بدولتهم هذا الاعتراف سوف يواجه الكثير من العقبات، ونسبة نجاحه ضئيلة ولكنه خطوة الأهم فيها المحاولة وليس النجاح في هذه المرحلة.
ستكون الأزمة الأكبر في حياة إسرائيل التي لن تجد سوى المستوطنات التي بنتها لتعلق عليها الإعلانات للتعبير عن هويتها كونها دولة يهودية وليس الاعتراف العالمي الذي حصدته قبل أكثر من ستة عقود كما ترويه الصحف الإسرائيلية نفسها.
الغرب بشقيه الأمريكي والأوربي اليوم ينظر بعينين مفتوحتين ، عين على الديمقراطية العربية الموعودة، وعين على إسرائيل وكلتاهما عين مهمة، ففي الديمقراطية الموعودة يتوقع الغرب أن تذوب اكبر القطع الفكرية من أمامه ألا وهي الإرهاب والتطرف الإسلامي.
الغرب كما يبدو يهمه أن تصل الدول العربية إلى شكل من أشكال الديمقراطية يتحقق فيها الانتصار الذاتي للمتطلعين إلى إدارة بعض الدول العربية حتى وإن كانوا من الإسلاميين المتشددين، لذلك يتوقع الغرب وبقناعة تامة أن تساهم الديمقراطية في التخفيف من عنف الإسلاميين تجاه الغرب عبر انشغالهم بالحكم وخصوصا أن الغرب يدرك أن الشأن الداخلي الإسلامي سيظل هو المستهلك الوحيد للطاقة الديمقراطية المتوقع أن تشتعل في بعض الدول العربية، فالغرب يدرك أن ثمن الديمقراطية هو ثمن زمني وليس ثمناً تنظيمياً فالزمن هو اللاعب الوحيد للوصول إلى تطبيق أمثل للديمقراطية.
الغرب يرى أن أزمة عدم توفر الديمقراطية بشكل مناسب في العالم العربي بجانب تصاعدٍ في التيار الإسلامي وحصده الكثير من التأييد الشعبي جعلت الفكر المتطرف يجد له مخرجا في انتهاج الإرهاب كبديل مهم للتعبير عن سخطه السياسي ضد السياسة في العالم العربي، وضد الغرب الذي لا يوفر القدر الكافي من دعم الديمقراطية وهذه فلسفة يتبناها الغرب بقوة.
العين الثانية تنظر إلى إسرائيل التي تصل إلى مرحلة أكثر حساسية بوجود الثورات العربية فخطأ بسيط قد يقلب المعادلة من ثورة شعبية عربية إلى حرب ضد إسرائيل، ففي الداخل الإسرائيلي يسود اعتقاد بأن الغرب بشقيه الأمريكي والأوربي ساهم خلال السنوات التي تلت الحادي عشر من سبتمبر في إضعاف الوجود الإسرائيلي ولغته السياسية التي لا تقبل التنازلات. والمتابع للأحداث يلحظ أن ردود الفعل الإسرائيلية خلال العشر سنوات الماضية على الخطوات السياسية الأمريكية أو الأوربية أصبحت انفعالية وخاصة في قضية بناء المستوطنات التي أصبحت الهوية السياسية الوحيدة للكيان الإسرائيلي؛ فالمستوطنات تحل بشكل مادي كبديل عن الحق التاريخي لليهود في فلسطين، وذلك بسبب التباطؤ الشديد وانحسار الحماس الدولي بشكل تدريجي في دعم الدولة اليهودية.
المعادلة الأصعب فيما بعد الثورات العربية تتمثل في أن القادمين إلى السلطة هم الإسلاميون كما يبدو من الترتيبات القائمة في الدول التي حققت الثورات فيها انتصارا، كما أن تجربة الجماعات الإسلامية ذات الشكل الديمقراطي مثل الإخوان المسلمين وبعد أحداث سبتمبر تعتبر تجربة قاسية حيث ظلت هذه الجماعات تدافع عن نفسها تارة، وتدافع عن الإسلام تارة أخرى ما اضطرها لأنْ تدافع عن أعدائها وتجد لهم العذر في كثير من الأحيان عندما يعبرون عن موقف سلبي تجاه الإسلام.
فيما بعد الثورات العربية من المنتظر أن يتغير شكل العلاقات العربية - الغربية بسبب تغير المتطلبات فحماية الفلسطينيين وتكوين دولتهم يوازيان حماية الاسرائيلين وتحديد دولتهم جغرافياً، وفي ذات الوقت لدى الغرب بشقيه الأمريكي والأوربي مهمة فكرية تتمثل في اختبار مدى تراجع موقف الشعوب العربية من الوجود الإسرائيلي، هناك إمكانية كبرى لتنامي القبول للدولة الإسرائيلية، كما أن هناك نفس الإمكانية أن يحدث العكس وخاصة مع الجيل الجديد الذي يتواصل فيما بينه عبر مواقع التواصل الاجتماعي بطريقة تكاملية قد تنتج مواقف غير متوقعة حول القضية الفلسطينية وإسرائيل.
الغرب قد يدفع ثمن تبعات أحداث الحادي عشر من سبتمبر بطريقة فكرية وليس سياسية أو عسكرية، فاللغة الليّنة التي يستخدمها الغرب اليوم تجاه الديمقراطية مطلوب منها أن تستمر عندما تدخل قضايا الديمقراطية مرحلة النقاش حول موقف العالم الغربي من الإسلام والمسلمين.