الأربعاء، يوليو 06، 2011

لمحات بلاغيه فى آيات قرآنيه

1-لمحة في قوله: لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)
لسائلٍ أن يسأل:" لِمَ قدم الصغيرة على الكبيرة"؟ ومقتضى البلاغة أن يجعل في الصدارة نفي الأقوى لا الأضعف!
فإذا كان المقصود هو جمع مخازي القوم وإحصاء ما اجترحوه من السيئات، فإن ذكر تسجيل الكبيرة، بعد ذكر الصغيرة ،ليس فيه فائدة ظاهرة لأنه يُعلم أن الكتاب إذا عد الصغائر عليهم فلا بد أن يكون قد عد الكبائرمن باب أولى ..فيكون في ذكر "هذه" بعد "تلك" شائبة تحصيل الحاصل..ولو ذكر الكبيرة قبل الصغيرة..لجاء العطف أكثر فائدة..فإن المتلقي عندما يسمع:".. هذا الكتاب لا يغادر كبيرة.."لا يكون عنده علم بحال الصغيرة (فلعل الكتاب قد تجاوزها أو لم يسجلها..)فإذا سمع بعد ذلك "..ولا صغيرة ..."استفاد ...
جوابه:
أن المقام هنا ليس لبيان أن الكتاب قد أحاط بكل ما اقترفوه...فيستحسن ذكر الكبائر قبل الصغائر...لكن المقام للتبكيت والتعذيب في العرض...وقد نبهت الآية على هذا المعنى عندما قالت:" مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ" كما نبهت عليه من خلال صرخة الكفار من الضجر والخزي" يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ "وهذا المقام يقتضي ذكر الصغيرة قبل الكبيرة لوجهين:
1-الصغائر عادة تكون أكثر من الكبائر فيشتد الإسهاب ويطول التقصي وهو مراد لتعذيب أصحابها..
2-ذكر الصغائر على كثرتها سيزيد من التوتر على اعتبار أن هذه أهون مما سيأتي...ولو ذكر الكبائر أولا لفات هذا المعنى..بل سيكون في ذلك شيء من التنفيس على المجرمين ...فالمخازي تصعب أكثر عند ترقبها لا عند مرورها..
فانظر إلى قوة التعبير في القرآن!!
2-لمحة في قوله تعالى: " قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ..."
في الآية مطابقة بين "تفرون منه" و"ملاقيكم" ووجه المطابقة أن الفرار يقتضي وجود نقطة في الخلف يبتعد عنها ،والملاقاة تقتضي عكس ذلك أي وجود نقطة في الأمام يقترب منها ...والطباق عندهم محسن معنوي من فن البديع...لكن الحق أنه في هذه الآية من المبينات لا من المحسنات..!
فلنتأمل المقام عن كثب:
هؤلاء يفرون من الموت -على زعمهم-فيترتب عليه من المعاني ما يلي:
1-المحذور موجود خلفهم..
2-أبعد جهة عن المحذور هي الجهة المقابلة أي الأمام..
3-الإمعان في الاقتراب من "الأمام" هو وحده سبيل النجاة..
ثم تاتي بعد ذلك الصدمة البيانية والنفسية: "فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ" ليفجر من المعاني ما يلي:
1-الفرار من الموت كان في الحقيقة إهراعا إليه..
2-رغبتهم في تغييب الموت كان في الواقع إحضارا له..فهم الآن محاصرون: فالموت خلفهم باعتبار وعيهم وأمامهم باعتبار الوجود..
3-الصدمة القاتلة في خيبة الأمل فمكان النجاة هو عينه مكان الهلاك.
4-المفاجأة المذهلة فقد جاءهم الموت من حيث لا يتوقعون..
خلاصة المسالة أن الطباق في الآية أكبر من تحسين في المعنى..بل هو رصد لمفارقة مذهلة ،وتسفيه لسلوك الكافرين،ومحل لبيان الاستدراج،ومناسبة لإظهار مبدأ الجزاء من جنس العمل.فأي اختزان في المعنى وأي اختزال في اللفظ!!
3- لمحة في قميص يوسف:
-وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً
-وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ{26} وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ{27}
-اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ{93}
هي أقمصة ثلاثة :
قميص ادعاء، فقميص براء، ثم قميص دواء.
1-قميص/ ادعاء:
القميص هنا وعاء، فهم ما جاؤوا" بقميص فيه دم كذب" بل جاؤوا "بدم كذب على القميص".. فيتأسس من التركيب أن يكون الدم الكاذب هو بؤرة الاهتمام ،و ليس القميص الذي يشغل موقع الظرف فقط..-ومعلوم أن المفعولية تربو على الظرفية كرتبة العمدة في مقابل الفضلة-ولعل اهتمام الإخوة بالدم باعتباره محل الشاهد كان وراء ذهولهم عن القميص، فلم يؤهلوه للاستدلال- بتمزيقه مثلا-حتى أن يعقوب –-كان يرى أثر الدم، ولا يرى فيه خَرْقًا ، ويقول: يا بني ما كنت أعهدُ الذئب حليمًا؟-حسب ما تناقله المفسرون-
ويستفاد من المقام أن اختلاق الأدلة بصورة تامة غير ممكن، لصعوبة في إحاطة بكل التفاصيل، وانتباه إلى كل اللوازم...ومن ثم اشتهر عند كتاب الرواية البوليسية أن الجريمة المتقنة لا تكاد توجد.
2- قميص /دواء
اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا..جاء تأخير الإشارة حاملا لمعنى التعريض الخفي...وهو مما لا يستشف لو قدم الإشارة أو ألغاها:
-اذهبوا بهذا القميص
-اذهبوا بقميصي وتقدير التعريض -مثلا -:"اذهبوا بقميصي هذا، وليس ذلكم القميص الذي جئتم أباكم به من قبل!"
3- قميص/ براء..استدلال "الشاهد من أهلها "بالقميص في غاية الحصافة العلمية و الذوق الإجتماعي:
أ-طرح النظرية مجردة أولا ثم التحاكم إليها ثانيا:
النظرية:
إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ{26} وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ{27}
التطبيق:
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }يوسف28
والاستدلال على هذا النحو أبعد عن الباطل ..لأن المرء يكون قد قرر في حياد تام قاعدة معينة، فيكون رهينا بها، قاضيا على نفسه بقبول نتيجة الاختبارأيا كانت .على العكس ما لو تفحص الواقعة التجريبية أولا لأنه لا يؤمن أن تخترع النظرية لتمرير الواقعة أو زخرفتها..فكان من حصافة هذا الشاهد –وهو من أهل المرأة- أن قرر القاعدة قبل تفحص القميص قياما بحق النزاهة والحياد.
ب-هذا الشاهد قام أيضا بحق "الإتيكيت" الاجتماعي و"العرف" الارستوقراطي..فهو عندما استعرض الحالين الممكنتين بدأ وفق مقولة "النساء أولا"
فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ.
فبدأ باحتمال صدقها وأخر فرضية صدق غريمها...وفي هذا جبر شكلي لخاطر المرأة باعتبارها أنثى أولا ومن أهله ثانية.
هذه ثلاث وظائف مختلفة للقميص في قصة يوسف...ولنا أن نلاحظ أيضا بديع التقابل فيها:
أولا:التقابل بين حالي القميص من جهة الاستدلال:
القميص في سياق اختلاق الدليل وتزييف الوقائع" وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ"
القميص في سياق الدليل الصادق الحق..الذي يجلي الواقع كما هو لا كما يظهر..فكل الملابسات من شأنها أن تورط يوسف لولا ذلك القميص.
ثانيا:التقابل في الآثار النفسية للقميص :
قميص يأتي بالأحزان وقميص ينهيها.
4 - لمحة في قوله تعالى: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{2} الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ{3} ملِكِ يَوْمِ الدِّينِ{4}
سينصب اهتمامنا على ملاحظة انتظام الأسماء العلية الخمسة في الآيات الثلاث..مع بيان دلالاتها الوجدانية ، وما تبعثه من خاطرات على الشعور،فنقول بإيجاز:
الآية الأولى لاستشعار المحبة،والثانية لاستشعار الرجاءوالثالثة لاستشعار الخوف.
1-أما المحبة فلأنها من مستلزمات الحمد..وسواء أكان الحمد للصفات الاختيارية، أم للصفات الذاتية ، أم للأعم، فإن المحبة لازمة على كل اعتبار...فالنفس مجبولة على الميل إلى الكمال وإلى التعلق بالجمال.فثبتت المحبة على تقدير الحمد للصفات الذاتية..
وعلى تقدير الحمد للصفات والأفعال الاختيارية فالمحبة ثابتة أيضا لأن الإنعام والعطاء سبب المحبة للمنعم والمعطي..ودليله قول الرسول :"تهادوا، تحابوا "
واسم الرب يدور على معنيين :السيادة (الملكية)والتربية،وقد حمله العلامة الزمخشري على المعنى الأول أي معنى المالك، لكن المشهور هو معنى التربية أي"تبليغ الشيء إلى كماله بحسب استعداده الأزلي شيئاً فشيئاً" وهو مختار العلامة الألوسي محتجا-عن حق-أن الحمل على المعنى الأول يؤدي إلى أن يكون { مالك يَوْمِ الدين } تكراراً لدخوله في { رَبّ العالمين } فضلا عن مناسبة المعنى الثاني للمقام " لأن التربية أجل النعم بالنسبة إلى المنعم عليه وأدل على كمال فعله تعالى وقدرته وحكمته ."
2-أما الرجاء في آية" الرحمن الرحيم" فإن القلب يجد ريحه من جهتين:
-من جهة دلالة الصيغتين.
-ومن جهة الاقتران.
فأنت ترى أنه من مادة واحدة"رحم" اشتق اسمان ،تدل الصيغة في كليهما على المبالغة في ثبوت الرحمة وإيصالها..
فصيغة "فعلان" توحي بالامتلاء، و الزيادة في بناء الصيغة يوازيها زيادة في المعنى.
وصيغة "فعيل "معدودة عند سيبويه من أمثلة المبالغة، غير أن صاحب «الكشاف» والجمهور لم يثبتوا في أمثلة المبالغة هذا الوزن فالرحيم عندهم صفة مشبهة مثل مريض وسقيم. والحق ما ذهب إليه سيبويه كما قال العلامة ابن عاشور.
وقد اختلف الأعلام في أي الصيغتين تكون الدلالة فيها على الرحمة أشد وأبلغ ..وعلى كل حال فمجيء الصيغتين مقترنتين بدون فصل ليرفع الدلالة على الرحمة إلى أوجها...مانِحًا بذلك القلب منتهى الشعور بالرجاء .
3-أما الخوف فمستفاد من التركيب الإضافي "مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ" وإنك واجد هذا الشعور في كل مفردة فيه..
الملك:
صورة الملك متجذرة في المخيال البشري مشوبة بالخوف..فلا زالت ملوك الأرض إلى يومنا هذا تدعى "أصحاب الجلالة" و"أصحاب المهابة"
ولم يجد النابغة شبيها للملك إلا أخوف ما يخافه الإنسان بالغريزة:
*فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِى هُوَ مُدْرِكي * وَإِنَ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ*يوم:
يقترن "اليوم" في الاستعمال العربي بالشدة والبأس، فسموا معاركهم" أياما" وسمَّى القرآن البعث "يوم القيامة" إشارة إلى عسره وشدته.
الدين:
الدين الجزاء والحساب والاقتصاص...وهي معاني تولد التوجس والترقب..إن انتظام الأسماء السنية في مطلع الفاتحة من شأنه أن يرسم الصورة لما ينبغي أن تكون عليه العبادة الحقة..وقد شبه الأئمة من قبل العبادة بطائر رأسه المحبة وجناحاه الخوف والرجاء...فالعبادة بالرجاء وحده تضييع للشرائع والتكاليف ،والعبادة بالخوف وحده مآلها إلى اليأس والقنوط ،والعبادة بالمحبة وحدها يفضي إلى ضلال النصارى ، والعبادة بدون خوف من الحساب يشجع الفسق والفجور.." ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه "
5 - لمحة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }الفاتحة5
ذهب غير واحد من أهل البلاغة والتفسير إلى أن العطف في الآية هو من باب عطف الآلة على المقصود، أو عطف السبب على المسبب،فالمطلوب هو العبادة أما الاستعانة فسبيل إليها ووسيلة لتحصيلها..
وقد اقتضى هذا المذهب تأويل الترتيب وتوجيهه،لأن السبب في الوجود متقدم على نتيجته ،فكان من حقه التقدم في الذكر أيضا..
وقد عللوا هذا العدول بأمور منها :
- أن فواصل السورة مبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان، والترتيب في الآية يفي بهذا الغرض.أن العبادة تقرُّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة ، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك..أن السبب وإن كان متقدما في الوجود فهو متأخر في الوعي..فالمرء يتصور مراده ، أولا ،ثم يتصور ما به تحقيقه من أسباب وشروط..
-أن الترتيب ،كما يكون باعتبار الوجود، يكون باعتبار الشرف ، وهو هنا من هذا الباب..فالمقاصد أشرف من الوسائل..والتحقيق أن الترتيب في الآية ليس من باب ما ذكروا من سبب ومسبب ، أو من وسيلة ومقصد، وإنما هو من باب عطف الخاص على العام الذي من شأنه التنويه بالخاص، والتنبيه إليه، والتأكيد عليه..فالاستعانة من العبادة قطعا،واعتبارها وسيلة فقط يخرجها من مفهوم العبادة.لأن من بدائه العقول أن سبب الشيء ليس هو ذلك الشيء...
فيكون معنى الآية تقرير جنس العبادة على الإجمال، وتقرير فرد منها على الخصوص هو الدعاء..وما ذلك إلا تعريضا بالمشركين الذين يدعون مع الله آلهة أخرى ،وتنويها بمكانة الدعاء في التوحيد..كما قال : "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ"عِنْدَمَا يعْرِفُ النَّاس منْ فرحةِ خُطاكَ أنّكَ ذاهبٌ إلى المسجد أويعرفون منْ نبرةِ صوتك أنَّك كنتَ تقرأ القرآن لا داعي بعد هذا أن تُعْلِنَ التزامَكَ الدِّيني لأنَّ روائحَ العُطورِ المُركزة هي وحْدها التي تُعْلنُ عن أطايِبِ أصُولها .