بعد ثلاثة اعوام يكون قد مضى مائة عام تقريبا على رحيل العبقري ( جورج وستنجهاوس ) المخترع العظيم رائد من رواد التقنية في العالم واحد المساهمين في رفاهية البشرية بابتكاراته واختراعاته وافكاره التي وظفها في خدمة الناس فهاهي حكايته مع ذلك لم يبل الزمن جدة مخترعاته , فتكاد جميعها تكون نافعة اليوم كما كانت يوم صنعها .وقد ظل ثماني وأربعين سنة يسجل مخترعاته بمعدل اختراع في كل شهر ونصف الشهر، فأفضت الى قيام ستين شركة واربع صناعات جديدة . وقد تيسرت لك أسباب الضوء الكهربائي والمعدات الكهربائية التي في بيتك ، لأنه أول من اقام الدليل ، برغم معارضة اديسون القوية على التوسع في نقل التيار الكهربائي نقلا صالحا على مسافات بعيدة .
وقد كان وستنجهاوس يحب الاختراع, ويتذكر احد أصدقائه يوما انه رآه يوم كان في الخامسة والأربعين من عمره ، مرتديا افخر ثيابه ، ومكبا على محرك دوار في ورشته ، في الفترة ما بين اجتماع مجلس الادارة وحفلة الاستقبال :(فقد كان العمل عنده بمنزلة قسط من الراحة يصيبه في لعبة او رياضة) .على ما قاله هذا الصديق .وهذا المحرك الدوار كان الاختراع المخفق الوحيد بين 400 اختراع انتجها ذهنه ولكنه لم ينبذه نبذ النواة فقد كان يقول (اعرف صبيا صنع صورة لرجل فلم يرض عنها فاضاف إليها ذيلا وادعى أنها صورة كلب ) ، وكذلك قلب وستنجهاوس محركه بين يديه , وجعله عدادا للماء . فصار أساسا لصناعة جديدة ولم يطلب وستنجهاوس العلم في جامعة ، وكانت ورشة أبيه أحب المصانع إليه . فلما كان في الثانية والعشرين من عمره اتته الشهرة منقادة ، مصادفة واتفاقا . فقد اصطدم قطاران من قطارات الشحن فتأخر قطار ركاب كان هو مسافر فيه ، وكان اصطدام القطارات كثيرا في تلك الأيام , لان فرامل القطارت كانت تشد باليد , فيتعذر وقف القطار على عجل , ففحص وستنجهاوس حطام القطارين وسأل السواقين ، ومضى إلى بيته وقد عزم أن يستنبط جهازا يمكن المهندس من أن يشد الفرامل على مركبات القطار جميعا في وقت معا .كان غيره قد سبقه إلى بحث هذه الفكرة ، وكان بعضهم قد جرب صناديق من البخار تركب في كل مركبة لشد الفرامل ، فوجدها غير مجدية .
وذات يوم قرأ هذا المستنبط الشاب مقالا في مجلة عن نفق في جوف (مون كنيس) في جبال الالب الفرنسية الايطالية ، وكان النفق قد حفر بأجهزة تثقب الصخر ويحركها هواء مضغوط .فتبين سر الجهاز المطلوب في لمحة عين ، ووضع تصميما لفرملة يحركها الهواء المضغوط، وهذه هي فرملة وستنجهاوس الهوائية التي تعتمد على عليها جميع القطارات في امريكا ومعظم بلاد الأرض.وقد علم بعد ذلك أن غيره قد فكر في الانتفاع بقوة الهواء المضغوط ، ولكن تصميمه امتاز بخاصيتين جديدتين، فتغلب على جميع الذين نازعوه حق الانتفاع به امام القضاء . اما الخاصية الأولى فقطعة من انبوب تصل بين انابيب الهواء المركبة في كل مركبة على حدة , اما الثانية فصمامات اتوماتيكية احكم تركيبها بحيث تشد شدا محكما إذا انفصلت وصلة الانبوب بين مركبتين . فاذا حدث للقطار ما يجعله قسمين منفصلين ، وقف الجزء الخلفي لان الفرامل اتوماتيكية ، وتظل الفرامل في الجزء الامامي عاملة ، لان الصمامات تنسد بعد الانقطاع فلا يفلت الهواء المضغوط من الانابيب.ولم يكد يضع فرملته حتى بدأ جهادا مضنيا ليقنع اصحاب السكك الحديدية بنفع ما صنع فرد عليه كرليليوس فندربلت صاحب شركة (نيويورك سنترال) بكلام كأنه حد السيف :(اتريد أن تقول دون خجل أو حياء أن الهواء يستطيع أن يوقف قطارا متحركا؟) . واخيرا اقنع وستنجهاوس شركة صغيرة بأن تمتحن فرملته فما كادت القاطرة تستجمع قوتها للانطلاق بتقنية مبتكرة تعتمد وتشد الفرامل ، فوقف القطار عن الحركة وقفا عنيفا على غير انتظار ودفع الركاب دفعا قويا . فثارت ثائرتهم على المخترع الشاب ، وجعل هو يعدو ليرى ماذا حدث ، فوجدوا في الخط الحديدي امام القاطرة ، سائق عربة قذف من عربته ساعة اجفل حصانه , ولو لا الفرملة لداسه القطار .
نظام دقيق
وقد بدأت شركة وستنجهاوس لفرامل الهواء تصنع الجهاز الجديد سنة 1869, يوم أن كان المخترع في الثالثة والعشرين من عمره . كانت القطارات التي زادت سرعتها في حاجة إلى نظام تقني دقيق سريع من الاشارة واساليب تحويل القطار . فوجه وستنجهاوس اهتمامه إلى هذه الناحية ، فابتاع المخترعات المسجلة التي كانت معروفة يومئذ، وضم إليها ما ابتكره هو ، حتى تم له هذا النظام المحكم ، فانشأ لاستغلاله شركة (يونيون سويتش وسيجنال) التي لا تزال في طليعة الشركات .واهتمامه بالاشارة افضى به إلى اهتمامه بالكهرباء , ففي العقد التاسع من القرن الماضي كان المشتغلون بالكهرباء يتناقلون الحديث عن مخترعات جولارد وجيز في فرنسا , والتي تمكن من اراد أن ينقل تيارا كهربائيا متقطعا في الاسلاك مسافة بعيدة – وهو ما كان متعذرا في التيار الثابت المستمر . فارسل وستنجهاوس رجلا إلى فرنسا , وامره أن يشتري (حقوق) مخترعات جولارد وجيز (بأي ثمن) . وقد فعل , وقد كلفه ذلك 50 ألف ريال ، فاعاد وستنجهاوس تصميم جهازهما , وصنع محولا جديدا أفضل من محولهما ، ليزيد الضغط الكهربائي العالي أو يخففه، وانشأ مركزا صغيراً للتجارب في مدينة بتسبرج.
التيار المتقطع
وقد بدأ نضال دام عشر سنوات بين وستنجهاوس الداعي الى الانتفاع بالتيار المتقطع ، وبين الذين لا يرضون عن التيار الثابت بديلا . وكان مدار (حرب التيارين) ان التيار المتقطع يصعق من يمس الأسلاك التي يجري فيها اذا ما زيد ضغطه الزيادة اللازمة لنقله مسافات بعيدة . ولما اتفق ان لمس صبي احد هذه الأسلاك وصعق فمات ، حملت الصحف على ما استحدثه وستنجهاوس ، وصدرت قوانين تحظر مد الأسلاك التي يجري فيها تيار عالي الضغط في شوارع كثير من المدن .وكتب اديسون أعظم المشتغلين بالكهربائية في عهده فقال: (ليس ثمة ما يسوغ استعمال التيارات المتقطعة , ولا في العلم ولا في العقل, أما أنا فاود ان يحظر استعمالها) .فرد عليه وستنجهاوس :(ان التيار الكهربائي سيقتل بعض الناس ولا ريب وكذلك الديناميت , وكثير وغيرها , ولكن عندنا وسيلة تمنع الكهرباء المدمرة في التيار المتقطع من ان تؤذي أحدا)، وقد جنى وستنجهاوس ثمرة ايمانه بالتيار المتقطع يوم نافس اديسون على اضاءة معرض شيكاغو العالمي في سنة 1893 وظهر عليه ، ولكن اديسون كان يسيطر على الشركة الوحيدة التي تصنع مصابيح كهربائية جيدة , فداب وستنجهاوس على خلال ثلاثة اشهر على الاختراع والامتحان حتى وفق الى صنع مصباح جيد، فأضاء به ارض المعرض ، وظفر بحفاوة الناس جميعا بما وضعه من نظام كهربائي .
توليد الكهرباء
وقد ظفرا باهتمام كبير آخر في تلك السنة يوم ان منح حق توليد الطاقة من شلالات نياجرا , فاقام ثلاثة مولدات لم تزل عاملة الى يومنا هذا , ففي ليلة العاشر من نوفمبر سنة 1896 احتشدت الجماهير في شوارع مدينة بفالو التي تبعد 30 ميلا عن الشلالات، فلما انتصف الليل اضاء محافظ المدينة مفتاحا فغمرها ضياء باهر – ولدته قوة كهربائية نقلت الى المدينة من الشلالات , أما اليوم فان 95 في المائة من الطاقة الكهربائية تنقل بطريقة التيار المتقطع . والقوة المحركة الرئيسة التي اتاحها (تيار وستنجهاوس)، قد زادت قدرة المصانع على الانتاج زيادة لا تقدر ، فكان ذلك بدء ثورة صناعية جديدة – بدء عصر القوة الكهربائية .لم يكد يشرف على ترويض شلالات نياجرا ، حتى صرف عنايته الى شيء آخر – الغاز الطبيعي ، فقد كشف الباحثون فجوات كبيرة تحت الأرض زاخرة بهذا الغاز قرب مدينة بتسبرج حيث يقيم . فامر بحفر بئر في فنناء داره , فلما صار عمقها 1500 قدم اصاب الحفارون الغاز الذي انطلق انطلاقا قويا فنسف غطاء الالة ودمر سائرها , ثم اشتعل الغاز , وظل لسان النار الهادر الذي بلغ ارتفاعه مئة قدم يضئ المنطقة أسابيع عدة , فضايق ذلك جيرانه مضايقة شديدة .
الغاز الوقود
وأخيرا نمكن من سد البئر , وإذا وستنجهاوس لقى نفسه مشتغلا بتجارة الغاز الطبيعي , واقبل على هذا العمل بما عهد فيه من نشاط واقدام , فلم تكد تنقضي سنة واحدة حتى كان قد سجل 28 اختراعا خاصا بالغاز والانتفاع به، وبفضل براعته صار الغاز وقودا نافعا مامون المغبة، وكان الناس ينسون ان يغفلوا انبوب الغاز حين ينقطع ورده , فإذا ورد في الانابيب وقعت حوادث الاختناق والانفجار وشبوب النار فصنع لهم جهازا يدرأ هذا الشر ، فيمنع من تلقاء نفسه انسياب الغاز من الأنبوب حين يقل ضغطه ، حتى يعود غير صالح للاشتعال . واخترع سلسلة تقنية من الانابيب ، كل حلقة منها اكبر قطرا من الحلقة االسابقة , فتكفل هبوط ضغط الغاز هبوطا مطردا حتى تبلغ درجة تصلح للاستعمال في الدور و وبهذه الانابيب نقل الغاز من الآبار الى المستهلكين . وقرب مدينة بتسبرج صناعة مزدهرة اشتهرت بها هي صناعة الزجاج التي تحتاج الى الغاز وسبب نجاحها يعود على الأكثر الى نجاح انابيب وستنجهاوس في نقل الغاز إليها من ابار بعيدة .
العمل والرسم
كان وستنجهاوس مهيب الطلعة ، فهو مديد القامة مفتول العضل ، اشيب الشعر مرسل الشاربين ، له في نفوس الناس اثر قوي وسحر . وقد روي انه في أثناء مفاوضات مالية اقترح احدهم على (شيف) المالي ان يلقاه فقال :(لا أريد ان القاه , فهو خليق ان يقنعني) . كان يحب معاشرة الناس وينعم بها . وقد ظل سنين كثيرة يقيم مادبة عشاء في بيته كل ليلة .وكان يداب على العمل في بيته ومكتبه على السواء , وقد فتن كثيرون من الذين عرفوه بأساليبه في العمل والرسم . فهو في بيته يرسم رسومه جالسا على حافة مائدة , أما حجر الرسم في مصنعه فكان من دابه ان يدخل إحداها على غير انتظار , ويجلس الى منضدة ويشغل نفسه بأي رسم يلفيه ملقى عليها .
الطاقة الكهربائية
كان وستنجهاوس قد جاوز الخمسين قليلا حين اقدم على أعظم اعماله – صنع التربين البخاري الذي استغرق معظم جهده في ثماني سنوات . لم يكن هو الذي اخترع التربين ولكنه كان في طليعة الذين اتخذوه للانتفاع به في السفن، وفي توليد الطاقة الكهربائية في المدائن والقرى. ثم نزلت النازلة . ففي الذعر المالي الذي حل بالناس سنة 1907 احيلت شركاته الى الحراسة القضائية ، وفقد سيطرته عليها، لان براعته في تدبير المال لم تكد تضارع براعته في الاختراع – فاختلت اموره . وبعد سنوات مضى به احد شركائه ذات ليلة في سيارة ، فجاسا في مدينة بتسبرج.قال صاحبه :(فلما بلغنا اللوحة المضيئة الباهرة التي كتب عليها (شركة وستنجهاوس الكهربائية والصناعية) اشاح وستنجهاوس بوجهه عنها ونظر الى التلال الجرد نظرة فيها من الألم والأسى ما يقطع نياط القلوب . وظل مدة طويلة لا ينبس بكلمة ).وفي صيف 1913 خرج يوما يصطاد فانقلب به الزورق ، فاصيب بزكام شديد ، واعتل قلبه و ثم توالت عليه شهور كالحة من المرض والضنى , ولكن ذهنه ظل صافيا يقظا الى يومه الاخير , وفي 12 مارس 1914, كان جالسا في كرسي قائم على عجلات و وعلى مقربة منه رسوم صنعها هو لكرسي يحركه محرك , فجاء اجله وقضى نحبه .