إذا كنت ممن يتحدثون إلى أنفسهم كثيرا، فلا تقلق. فهذه ليست علامة من علامات الجنون. بل إن علماء يقولون إن كثرة الحديث إلى الذات ربما هي من الأمور التي تجعلك أكثر ذكاء.
الناس يتحدثون إلى أنفسهم أينما كانوا وأيا كان ما يفعلون. والحقيقة أنه من الصعب قياس ما تحتويه عقول الناس. لكن يبدو أن 80% من تجاربنا العقلية هي في الحقيقة حديث إلى الذات.
والحقيقة أن حجم حواراتنا الداخلية يمكن أن يتجاوز عدد الكلمات التي نقولها بصوت عال. وتقدر البروفيسورة ليرا بوردتسكي، الأستاذة بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا أنه: «في المتوسط، 70% من مجموع تجاربنا الشفهية تكمن في رؤوسنا». والمقدار الكلي للكلمات غير المنطوقة يوحي بأن اللغة هي أكثر من أداة تواصل مع الأخرين. ولكن ما عساها أن تكون أيضا؟».
وتتمثل إحدى الإجابات عن هذا السؤال في أن اللغة تساعدنا على التفكير وإدراك العالم. فقد اكتشفت بوردتسكي وغيرها من الباحثين أن الكلمات تجلب عدة فوائد للإدراك الإنساني، بدءا من التفكير المجرد وحتى الإدراك الحسي. ومن الممكن أن توضح هذه النتائج كيف تطورت اللغة في المقام الاول.
وتتمثل إحدى الإجابات عن هذا السؤال في أن اللغة تساعدنا على التفكير وإدراك العالم. فقد اكتشفت بوردتسكي وغيرها من الباحثين أن الكلمات تجلب عدة فوائد للإدراك الإنساني، بدءا من التفكير المجرد وحتى الإدراك الحسي. ومن الممكن أن توضح هذه النتائج كيف تطورت اللغة في المقام الاول.
والواقع أن الفكرة القائلة بأن اللغة تقود تفكير الإنسان وتشكل إدراكه لها تاريخ طويل ومضطرب. ولقد تلاعب الفلاسفة بهذه الفكرة لقرون، وتلطخت سمعتها كثيرا قبل أن يتمكن علماء النفس المعاصرون من منحها حياة جديدة.
ويعود هذا إلى سقوط فرضية مثيرة للجدل تعرف بفرضية «النسبية اللغوية»، التي طرحها في النصف الأول من القرن المنصرم البروفيسور إدوارد سابير من جامعة Yale وتلميذه بنجامين هورف. وافترض كل منهما أنه إذا كانت اللغة أساسية فعلا في طريقة تفكيرنا فهذا يعني أن المتحدثين بلغات مختلفة يدركون العالم بطرق متباينة تماما.
وفي البداية، بدت الفرضية، التي عرفت علميا باسم «فرضية سابير-هورف»، واعدة بعد أن أثبتت إحدى الدراسات أن أبناء قبيلة الزون (قبيلة من هنود أميركا الحمر الأصليين)، الذين كانوا يستعملون الكلمة نفسها لوصف اللونين الأصفر والبرتقالي، واجهوا صعوبة في تذكر ما إذا كان لون بعض الأشياء أصفر أو برتقاليا مقارنة بأقرانهم من المتحدثين باللغة الإنجليزية. ولكن هذه الفكرة ارتطمت بالحائط في العام 1972 عندما اختبرت إلينور روش، التي تعمل حاليا أستاذة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، باختبار هذه الفرضية على أفراد من شعب الداني في غينيا الجديدة، والذين لديهم فقط مصطلحان للألوان: فاتح وداكن. ولكن بالرغم من ذلك فقد فرقوا وتذكروا ألوان مختلف الأشياء بنفس فعالية المتحدثين باللغة الإنجليزية.
وفي ذلك الوقت، كانت نظرية ناووم تشومسكي القائلة إن جميع اللغات في الأساس هي ذاتها وإنه يتم بناؤها في جزء متخصص من الدماغ، تحظى بشعبية واسعة. وقد بدا هذا متعارضا مع الفكرة القائلة إن بوسع الكلمات تحديد الطريقة التي يفكر بها الإنسان. وهكذا فقدت «فرضية سابير-هورف» الاستحسان والقبول وأصبح الباحثون حذرين في بحوثهم حول ما إذا كانت اللغة قد تطورت لتشكل إدراكنا.
لكن هذه الفكرة سجلت عودتها بقوة أخيرًا. فقد أظهرت دراسات في أواخر التسعينيات أن الأطفال يصبحون قادرين بشكل أفضل على تصنيف أشياء إلى فئات، على سبيل المثال حيوانات مقابل مركبات، إذا تعلموا أولا أسماء هذه الفئات.
وفي العام 2005، نشر البروفيسور ديدر جنتنر الأستاذ بجامعة نورثوسترن في إيفانستون بولاية إيلينوي الأمريكية، بحثا ذهب فيه إلى أن التفكير المنطقي عند الأطفال يتحسن من خلال تذكيرهم بكلمات مثل «أعلى وأوسط وأسفل». وفي غضون ذلك، وصفت بضع دراسات كيف أن الأشخاص الذين فقدوا مهاراتهم اللغوية بعد إصابتهم بجلطات قد وجدوا صعوبة في تجميع وتصنيف الأشياء.
وتوحي مثل هذه الاكتشافات أن اللغة بالفعل لها فوائد غير التواصل، على الأقل بالنسبة للأطفال، لكن هل هذا صحيح أيضا بالنسبة للبالغين الأصحاء؟
أمضى د. جاري لوبيان الباحث بجامعة ويسكونسن في ماديسون السنوات القليلة الماضية محاولا أن يكتشف الإجابة عن هذا السؤال. وقد طلب من 44 بالغا أن ينظروا إلى سلسلة صور من الغرباء الخياليين في إحدى دراساته الأولية. ويتحدد ما إذا كان كل غريب ودودا أو عدوانيا من خلال معالم الوجه الدقيقة على الرغم من أنه لم يتم إخبار المشاركين ما هي هذه المعالم بالضبط. وكان عليهم ان يخمنوا ما إذا كان كل غريب ودودا أو عدوانيا، وبعد كل إجابة يتم إخبارهم ما إذا كانوا على صواب أو خطأ، مما يساعدهم على تعلم الملامح الصغيرة التي تميز العدو من الصديق كوجود بروز على الرأس. وتم إخبار ربع المشتركين مسبقا أن الغرباء الودودين يسمون بـ Leebish والعدوانيين بـ Grecious. بينما قيل العكس للربع الآخر، أما بالنسبة لمن تبقى من المشاركين فقد بقي هؤلاء الغرباء مجهولين (بلا أسماء).
ووجد لوبيان أن المشتركين الذين زودهم بأسماء الغرباء تعلموا أن يميزوا الكائنات المتوحشة بسرعة أكبر، بدقة وصلت إلى 80% في أقل من نصف الوقت الذي استغرقه هؤلاء الذين لم يزودهم بالأسماء. وفي نهاية الاختبار، أستطاع الذين تم إخبارهم بالأسماء أن يصنفوا 88 % من الغرباء بشكل صحيح، مقارنة ب 80% فقط من البقية. واستنتج ليبيان من ذلك أن تسمية الأشياء تساعدنا في تصنيفهم وحفظهم.
وفي تجربة أخرى، طلب لوبيان من مجموعة مختلفة من الأشخاص أن يعاينوا أثاثا من كتالوج شركة إيكيا. ولنصف الوقت كان يطلب منهم أن يسموا الشيء- ما إذا كان كرسيا أو مصباحا- على سبيل المثال، بينما لباقي الوقت كان عليهم أن يقولوا ما إذا كانوا قد أحبوه أو لا. ووجد أنه عندما طلب منهم أن يسموا الأشياء فإن المتطوعين كانوا على الأرجح أقل مقدرة على تذكر التفاصيل الخاصة للمنتجات، على سبيل المثال ما إذا كان للكرسي ذراعان أو لا. ويقول لوبيان إن ذلك يحدث لأن تسمية الأشياء تساعد عقولنا على بناء الطراز الأولي للشيء النموذجي في المجموعة على حساب الملامح الفردية، وهو أمر ليس سيئا بقدر ما يبدو. ويضيف: «الذاكرة تصنيفية إلى حد بعيد، لذا نحن غالبا لا نحتاج لتذكر التفاصيل الصغيرة».
وربما كان التأثير الأكثر مفاجأة للغة هو الطريقة التي تشكل بها إدراكنا. فوفقا للوبيان وعلماء آخرين، فإن الكلمات التي تقولها وتفكر بها وتسمعها لها تأثير كبير على الطريقة التي نرى بها الأشياء. ووجدت د. جابرييلا فيجليوكو الباحثة بجامعة لندن أن سماع الأفعال المرتبطة بالحركة العمودية (مثل يتسلق، أو يرتفع أو يغطس) يؤثر على حساسية العين لمثل هذه الحركة. وقد جعلت متطوعين يشاهدون عرضا يتكون من 1000 نقطة، تحركت كل منها إما عموديا أو عشوائيا. ووجدت د. فيجليوكو أن المتطوعين كان بإمكانهم اقتفاء الاتجاه المسيطر للحركة عندما سمعوا فعلا ينطبق وإياه، على سبيل المثال « يرتفع « عندما كانت النقاط تتحرك للأعلى. وعلى النقيض من ذلك، كان من الصعب عليهم استبيان الحركة إذا وصف الفعل الحركة المضادة (مثل «يسقط» عندما كانت النقاط تتجه إلى أعلى).
وليس هذا المثال الوحيد على أن اللغة تساعد الإدراك. فسماع حرف قيل بصوت عال يساعد الأشخاص على تعيين موقعه بين صف كامل من الأحرف الأخرى. وليس هذا فقط، فبوسع الكلمات أن تساعدنا على تمييز صورة مبهمة. ولكن كيف يكون هذا ممكنا؟ يبدو أن الكلمات تلقن الجهاز البصري في دماغنا، مما يجلب إلى أدمغتنا صورة ذهنية تجعلنا أكثر حساسية للمثير (المنبه) عندما نراه. وهذه الظاهرة، التي تكون فيها أفكارنا وتوقعاتنا وأحاسيسنا من الحواس الأخرى ممكن أن تتغذى إسترجاعيا في الجهاز المرئي وتبدل ما نراه، تعرف بـ «المعالجة من أعلى لأسفل Top-down Processing».
ومن المحتمل أن الأصوات المناسبة تتغذى بها رؤيتنا أيضا بهذه الطريقة. ولمعرفة ما إذا كانت الكلمات المنطوقة مثيرة أكثر من المنبهات (المثيرات) غير الشفهية، قام لوبيان باختراع ستة أشياء وأعطى كلا منها اسما مختلفا وصوتا اصطناعيا. وما إن تصبح الأشياء والأسماء والأصوات مألوفة لدى المتطوعين يبدأ لوبيان بتشغيل تسجيل يتضمن إما اسم الشيء أو صوته، ومن ثم يعرض لفترة قصيرة صورتين للشيء نفسه على الشاشة، واحدة مقلوبة رأسا على عقب والثانية في الوضع الصحيح، وطلب منهم ببساطة أن يقول كل متطوع أي جزء من الشاشة يحتوي على الشيء في وضعه الصحيح. وافترض لوبيان أنه إذا كانت الكلمات أكثر تأثيرا من الأصوات، فإن الشخص سيكون أسرع في إنجاز المهمة عند سماع اسم الشيء. وهو ما حدث بالفعل.
وقد أحدثت هذه التجارب ضجة واسعة. ويقول آندي كلارك، وهو فيلسوف يدرس اللغة والإدراك في جامعة أدنبرة في المملكة المتحدة: «تضيف هذه التجارب الكثير من البراهين التجريبية إلى ما كان في أغلبه تخمينات فلسفية» .
وستعزز هذه التجارب أيضا جهود إحياء «فرضية سابير-هورف». وقد اكتشف د. بورديتسكي أخيرًا أن المتحدثين باللغة الروسية، الذين لديهم كلمتان لوصف درجتين مختلفتين للون الأزرق الباهت هم أسرع في تمييز الدرجات المختلفة من المتحدثين باللغة الإنجليزية.
بالطبع , يستخدم لوبيان في تجاربه الكلمات المكتوبة أو المنطوقة أكثر من الثرثرة الداخلية. ولكنه يعتقد أن حواراتنا الشخصية لها تأثير أكبر على الإدراك بالرغم من أنها ليست منطوقة. ويقول: «من الصعب، بل من المستحيل، في حالات كثيرة أن يتم التلاعب بالحديث الداخلي تجريبيا، ولكني أعتقد أنه من غير الضروري أن تكون الكلمات مسموعة أو على هيئة مرئية ليكون لها تأثير. وبما أن 80% من حياتنا الذهنية هي حوارات داخلية، فإن هذا الافتراض مهم وعميق.
والأهم من ذلك أن التجارب ألقت الضوء على الضغوط الانتقائية التي شكلت تطور اللغة. وإذا كان بوسع الكلمات مساعدتنا على التمييز بين الغرباء الودودين والمعادين في المختبر فربما ساعدت اسلافنا أيضا على تعلم أي من الحيوانات كان خطيرا وأيها لا، وأي توت كان ساما وأيها كان مغذيا.
ومن جهة أخرى، ربما ساعد استحضار الصورة الذهنية مع الكلمة على جمع الغذاء؛ وهذا ساعد الإنسان الأول على تعيين مكان شيء لذيذ مخبأ في أوراق النباتات على سبيل المثال. ويقول لوبيان: «إذا كنت تبحث عن توت معين، فإنه من المحتمل جدا أن تجده بسرعة إذا كنت تعرف اسمه». لكنه من المستحيل بالطبع أن نعود بالزمن إلى الوراء ونختبر هذه الفكرة».
ويذهب لوبيان إلى ما هو أبعد من ذلك حتى أنه يفترض أن الفوائد الإدراكية للغة هي التي أطلقت عملية تطور الإنسان ذاته. وهو يقول: «تخيل أن الإنسان الأول طور قدرة بدائية ليصنف الأشياء دون أن يشارك أحدا معلوماته. هنا ستكون فوائد التواصل محدودة للغاية. لكن إذا كان للغة ميزة إدراكية أيضا فهي سوف تقوي الضغوط الانتقائية على نحو يسمح لك ببناء المتطلبات الأساسية حتى قبل ظهور المنظومة اللغوية الكاملة إلى الوجود. وقد أخذ التطور منعطفات مماثلة في الماضي فقد تطورت الأجنحة والريش، في بادئ الأمر لتسمح للحيوانات البدائية بتنظيم درجة حرارة أجسامها».