يولد الطفل ومعه مقوّمان تربويان قد فطره الله عليهما ، هما الخوف والرجاء ، وبهما يتفهم معنى التعايش ، وبهما يتعلم كيفية التعاطي مع من حوله تعاملا وخلقا ، وهذان العنصران يفترض بهما ان يكونا للانسان كجناحيْ طائر ينخفض مرة ويرتفع اخرى ، والا فسيسقط الطائر في شباك الصياد ، وقد ربى الله عباده واستخلفهم في الارض بالرجاء والخوف ، لأن الانسان مالم يكافأ على عمله الحسن ويعاقب على عمله السيئ ، فلن يكون له دافع لعمل هذا، او رادع عن عمل ذاك ، خصوصا وان الانسان بطبعه ظلوم كفّار..
يحضرني هنا قول أبي الطيب : (والظلم من شيم النفوس ....) حيث يرى ان النفس اذا لم ترجُ شيئا، ولم تخف من شيء فإنها تتجرأ على الظلم ، ثم يقول : (وإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم) يقول ان هذا المتعفف عن الظلم انما ترك الظلم لعلة معينة ، ابحث عنها وستجدها إما في خير يرجوه او في شر يتقيه ، وخير من قوله قول المولى عز وجل (قتل الانسان ما اكفره) مع قوله تعالى (كلا ان الانسان ليطغى أن رآه استغنى ) اي انه عندما يرى نفسه مستغنيا عن من حوله لا يرجو ولا يخاف فإنه يظلم ويطغى ويفسد .. بعض الآباء يربي طفلا جاءه على كبر ، فيجعل ايامه كلها اعيادا وحلويات وألعابا ، فلا يرفض له طلبا ، ولا يعاتبه على خطأ فضلا عن ان يوقع عليه عقاباً ، ومع الوقت يكبر الطفل ويشعر بأنه مستغن بما يملك وليس هناك ما يخسره ، فكيف بالله تريد ان تسيطر على من لا يخاف فقدان شيء، او يرجو حصول شيء ؟ وما هذان الامران بالنسبة للطفل او الانسان عموما الا كقضيبيْ سكة الحديد ، لو تفلت احدهما عن الآخر لفقد القطار سيطرته ومالت وجهته وكان تحطمه حسب اندفاعه ومدى سرعته ..!!
كان لي صديقة ، أفرغت على طفلتها دلالا يفوق الحد ، ولا اكاد اراها الا وأتذكر بنات العيد بفساتينها والعابها وحلوياتها ، كانت الفتاة لا تزداد مع الايام الا وقاحة مع امها ، واقتنعت مع مرور الوقت ان طلباتها اوامر ، وكانت تظلم اخوتها من حولها وتنتصر عليهم بالبكاء والدموع ، حتى انتج الدلع قسوة في شخصيتها واعتدادا كاذبا برأيها ، وتحقيرا منها في كلام من حولها ، وقناعات خاطئة بحسن اختيارها ، وبدأت تسلك مسلك مخالفة الغير لا عن قناعة، ولكن لاجل المخالفة وحسب ، وتمضي الايام سراعا حتى تدخل فتاتنا الى المدرسة !!
في مرحلة المدرسة الانتقالية ربما تكون صدمة لبعض الشخصيات التي افسدها الدلال فتصورت ان الحياة كلها ورد بلا شوك، وعسل بلا نحل ، ولذلك انصدمت فتاتنا كثيرا بهذا المجتمع الذي كره شخصيتها وتسلطها وعبوس وجهها ، لانها لم تضطر قبل هذا اليوم لان تجامل او ترق او تتودد لاحد ، ولم تجرب ان تتفاوض مع احد لتتبادل معه شيئا من المنافع ، ولم يحدث يوما ان جاملت او خجلت او سكتت عن عيب تراه، او هفوة وقعت امامها ، ولم تضطر يوما ان تخفض جناحها او تبتسم لمن تتعامل معه لتحصل على وده وصداقته ، فهي اذن مصدومة بأرض الواقع ، وبالمجتمع الحقيقي خارج اسوار بيت الدلال والغنج ، ولذلك اجبرتها الحياة ان تتأقلم مع الطالبات من حولها حتى تكسبهن ولا يفضضن عنها كالمجروبة ، ولكنها اضطرت اضطرارا ان تصطنع كل شيء ، اصطنعته ولكن في الظاهر ، اما في داخل نفسها فهي غير مقتنعة بأن تتنازل عن اختياراتها او آرائها المعاكسة ، وليست مقتنعة بهذا الانكسار والابتسام لاجل الحصول على الصداقات ، ولم تتعود ان تخفض صوتها وتطلب ماتريد بلطف ، وليست قادرة على السكوت عن التعليق واستهجان كل ماتراه ، ولكنها في الاخير مضطرة للمصانعة والتظاهر فلقد ملت العزلة وابتعاد بقية الفتيات عنها ، ولكنها كانت تعود كل يوم الى البيت باكية من ضغط تحملته، وسلوك تتعامل به ليست هي جزء منه ، فكانت تدفن رأسها في وسادتها باكية لانها رجعت الى المكان الذي ليست مضطرة فيه للمجاملة او اخفاء حقيقتها التي افسدت بالدلال ، حيث لا الخوف من فقدان شيء، ولا الرجاء لحصول شيء ، وقد رأيت في تربية بعض المثقفين طريقة متوازنة بين الدلال وبين الحزم ، وعجبت كثيرا للمعاقبة على الاخطاء ، حيث لا يعني العقاب الخصام او رفع الصوت او المقاطعة او الهجر ، وإنما حرمان من شيء محبوب لفترة طويلة تمتد احيانا إلى الشهر ، حتى يستوعب الدرس ويفكر الطفل طويلا قبل تكرار ما فعله