يظن كثير من الناس أن للصيام تأثيراً سلبياً على صحتهم، وينظرون إلى أجسامهم نظرتهم إلى الآلة الصماء، التي لا تعمل إلا بالوقود، وقد اصطلحوا على أن تناول ثلاث وجبات يومياً أمر ضروري لحفظ حياتهم، وأن ترك وجبة طعام واحدة سيكون لها من الأضرار والأخطار الشيء الكثير.. مما يجعلهم يقضون الليل في شهر الصيام يلتهمون كل أنواع الطعام والشراب.. وقد رسخ هذا الاعتقاد وظهرت آثاره السلوكية في الأفراد والمجتمعات كنتيجة طبيعية للجهل العلمي، بطبيعة الصيام الإسلامي وفوائده المحققة، وفي هذا اللقاء سنلقي الضوء على بعض أوجه الإعجاز العلمي في الصيام، وهي الأوجه التي تثبت بالدليل العلمي القاطع بطلان تلك الظنون الوهمية.
* الوجه الأول: الوقاية من العمل والأمراض:
أخبر الله سبحانه وتعالى أنه فرض علينا الصيام، وعلى كل أهل الملل قبلنا، لنكتسب به التقوى الإيمانية التي تحجزنا عن المعاصي والآثام، ولتتوقى به كثيراً من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة: 183].
وقال صلى الله عليه وسلم: ( الصيام جُنَّة )، أي وقاية وستر
وقد ثبت من خلال الأبحاث الطبية بعض الفوائد الوقائية للصيام ضد كثير من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، ومنها على سبيل المثال – لا الحصر:
يقوى الصيام جهاز المناعة، فيقي الجسم من أمراض كثيرة، حيث يتحسن المؤشر الوظيفي للخلايا الليمفاوية عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسؤولة عن المناعة النوعية(T. lymphocyes)
زيادة كبيرة، كما ترتفع بعض أنواع الأجسام المضادة في الجسم، وتنشط الردود المناعية نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة.
ومن الفوائد أيضاً: الوقاية من مرض السمنة وأخطارها، حيث إنه من المعتقد أن السمنة تنتج عن خلل في تمثيل الغذاء، فقد تنتج من ضغوط بيئية أو نفسية أو اجتماعية، وقد تتضافر هذه العوامل جميعاً في حدوثها، وقد يؤدي الاضطراب النفسي إلى حدوث خلل في التمثيل الغذائي... وكل هذه العوامل، التي يمكن أن تنجم عنها السمنة، يمكن الوقاية منها بالصوم من خلال الاستقرار النفسي والعقلي الذي يتحقق بالصوم نتيجة للجو الإيماني الذي يحيط الصائم وكثرة العبادة والذكر، وقراءة القرآن، والبعد عن الانفعال والتوتر، وضبط النوازع والرغبات، وتوجيه الطاقات النفسية والجسمية توجيهاً إيجابياً نافعاً.
1- يقي الصيام الجسم من تكون حصيات الكُلى، إذ يرفع معدل الصوديوم في الدم فيمنع تبلور أملاح الكالسيوم، كما أن زيادة مادة البولينا في البول تساعد في عدم ترب أملاح البول، التي تكون حصيات المسالك البولية
2- يقي الصيام الجسم من أخطار المسموم المتراكمة في خلاياه، وبين أنسجته من جراء تناول الأطعمة – وخصوصاً المحفوظة والمصنعة منها – وتناول الأدوية واستنشاق الهواء الملوث بهذه السموم
3- يخفف الصيام ويهدئ ثورة الغريزة الجنسية، وخصوصاً عند الشباب وبذلك يقي الجسم من الاضطرابات النفسية والجسمية، والانحرافات السلوكية، وذلك تحقيقاً للإعجاز في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء )، إذا التزم الشاب الصيام وأكثر منه، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فعليه بالصوم )، أي فليكثر من الصوم.. وقد أُجرِيَ بحثٌ عن تأثير الصيام المتواصل على الغدد الجنسية وكانت له نتائج إيجابية، وسلط الضوء على وجه الإعجاز في هذا الحديث الشريف. وقد وجد أن الإكثار من الصوم، مع الاعتدال في الطعام والشراب وبذل الجهد المعتاد، يقترب من الصيام المتواصل، ويجني الشاب فائدته في تثبيط غرائزه المتأججة بيسر، كما لا يتعرض إلى أخطار هذا النوع من الصيام، وهذا البحث يجلي بوضوح الإعجاز في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( فإنه له وجاء) من وجهين:
الأول: الإشارة إلى أن الخصيتين هما مكان إنتاج عوامل الإثارة الجنسية حيث أن معنى الوجا أن ترض أنثيا الفحل ( خصيتيه) رضاً شديداً، يُذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي
وقد ثبت أن في الخصيتين خلايا متخصصة في إنتاج هرمون التيستوستيرون (Testosterone)
وهو الهرمون المحرك والمثير للرغبة الجنسية، وأن قطع الخصيتين ( الخصى) يُذهب هذه الرغبة، ويخمدها تماماً.
الثاني:أن الإكثار من الصوم مثبط للرغبة الجنسية وكابح لها، وقد ثبت في هذا البحث هبوط مستوى هرمون الذكورة ( التيستوستيرون) هبوطاً كبيراً أثناء الصيام المتواصل، بل وبعد إعادة التغذية بثلاثة أيام، ثم ارتفع ارتفاعاً كبيراً بعد ذلك، وهذا يؤكد أن الصيام له القدرة على كبح الرغبة الجنسية مع تحسينها بعد ذلك، وهذا يؤكد فائدة الصوم في زيادة الخصوبة عند الرجل بعد الإفطار.
* الوجه الثاني: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }
بعد أن أخبرنا الله سبحانه وتعالى، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم أن الصيام يحقق لنا وقاية من العلل الجسمية والنفسية، ويشكل حاجزاً وستراً لنا من عقاب الله، أخبرنا جل في علاه أن الصيام خيراً ليس للأصحاء المقيمين فقط، بل وللمرضى والمسافرين أيضاً والذين يستطيعون الصوم بمشقة، ككبار السن ومن في حكمهم. قال تعالى: { أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 184]. أي: فضيلة الصوم وفوائده، وذلك لعموم اللفظ في قوله تعالى: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }. وقد تجلت هذه الفوائد واستقر خبرها في زماننا هذا، لمن أوجب الله عليهم الصيام، ولمن أطاقوه من أهل ارخص الذين يستطيعون تناول وجبتي الفطور والسحور كالأصحاء.
بعض الأمراض الخطرة التي كان يخشى معها من الصيام:
· كان – وما زال – الأطباء يعتقدون أن الصيام يؤثر على مرضى المسالك البولية، وخصوصاً الذين يعانون من تكوين الحصيات، أو الذين يعانون من فشل كلوي، فينصحون مرضاهم بالفطر وتناول كميات كبيرة من السوائل.
· وقد ثبت خلاف ذلك، إذ ربما كان الصيام سبباً في عدم تكوين بعض الحصيات وإذابة بعض الأملاح، ولم يؤثر الصيام مطلقاً حتى على من يعانون أخطر أمراض الجهاز البولي، وهو مرض الفشل الكلوي مع الغسيل المتكرر
· كان يعتقد أن الفقدان النسبي لسوائل الجسم وانخفاض عدد ضربات القلب وزيادة الإجهاد أثناء الصوم يؤثر تأثيراً سلبياً على التحكم في منع تجلط الدم، وهو من أخطر الأمراض، وقد ثبت أن الصيام الإسلامي لا يؤثر على ذلك في المرضى الذين يتناولون الجرعات المحددة من العلاج
· ثبت أن الصيام لا يشكل خطراً على معظم مرضى السكر، إن لم يكن يفيد الكثيرين منهم
بعض أمراض التي يعالجها الصيام:
يعالج الصيام عدداً من الأمراض الخطيرة من أهمها:
1- الأمراض الناتجة عن السمنة، كمرض تصلب الشرايين وضغط الدم وبعض أمراض القلب
2- بعض أمراض الدورة الدموية الطرفية، مثل مرض الرينود (Rynaud`s diseade) ومرض برجر
3- يعالج الصيام المتواصل مرض التهاب المفاصل المزمن ( الروماتويد)
4- يعدل الصيام الإسلامي من ارتفاع حموضة المعدة، وبالتالي يساعد في التئام قرحة المعدة مع العلاج المناسب
5- لا يسبب الصيام أي خطر على المرضعات أو الحوامل، ولا يغير من التركيب الكيميائي أو التبدلات الاستقلابية في الجسم عند المرضعات، وخلال الشهور الأولى والمتوسطة من الحمل
فوائد أخرى للصوم:
1- يُمَكّن الصيام آليات الهضم والامتصاص – في الجهاز الهضمي وملحقاته – من أداء وظائفها على أتم وأكمل وجه، وذلك بعدم إدخال الطعام والشراب على الوجبة الغذائية أثناء هضمها وامتصاصها، كما يحقق الصيام راحة فسيولوجية للجهاز الهضمي وملحقاته، وذلك بمنع تناول الطعام والشراب لفترة زمنية تتراوح من 9-11 ساعة بعد امتصاص الغذاء، كما تستريح آليات الامتصاص في الأمعاء طوال هذه الفترة من الصيام
وتتمكن الانقباضات الخاصة (Motor Complex Migrating ) بتنظيف الأمعاء من عملها المستمر، دون توقف
2- يُمكّن الصيام الغدد الصماء ذات العلاقة بعمليات الاستقلاب، في فترة ما بعد الامتصاص، من أداء وظائفها في تنظيم وإفراز هرموناتها الحيوية على أتم حال، وذلك بتنشيط آليات التثبيط والتنبيه لها يومياً، ولفترة دورية ثابتة، ومتغيرة طوال العام، مثل هرمونيّ: النمو والإنسولين – كهرمونات بناء من ناحية – وهو موئي: الجلوكاجون والكروتيزول، كهرمونات هدم من ناحية أخرى، والذي يتوقف على توازنها الدقيق تركيز الأحماض الأمينية في الدم، توازن الاستقلاب
3- ينشط الصيام آليات الاستقلاب أو التمثيل الغذائي ي البناء والهدم للجلوكوز والدهون والبروتينات في الخلايا، لتقوم بوظائفها على أكمل وجه.
4- أما إذا اقتصر الجسم على البناء فقط، وكان همه التخزين للغذاء في داخله، فإن آليات البناء تغلب آليات الهدم، فيعترى الأخيرة – لعدم استعمالها بكامل طاقتها – وهن تدريجي تظهر ملامحه عند تعرض الجسم لشدة مفاجئة بانقطاع الطعام عنه في الصحة أو المرض، فقد لا يستطيع هذا الإنسان مواصلة حياته، أو مقاومة مرضه
5- يحسن الصيام خصوبة المرأة والرجل، على السواء
6- يستفيد الجسم بالطاقة وتحسين القدرة على التعليم وتقوية الذاكرة
7- تتهدم الخلايا المريضة والضعيفة في الجسم عندما يتغلب الهدم على البناء أثناء الصيام، وتتجدد الخلايا أثناء مرحلة البناء
8- كذلك، فإن أداء الصيام الإسلامي طاعة لله وخشوعاً له ورجاء فيما عنده سبحانه وتعالى من والأجر والمثوبة، لعمل ذو فائدة جمة لنفس الإنسان وجسمه، حيث يبث في النفس السكينة والطمأنينة.. وينعكس هذا على آليات الاستقلاب. فيجعلها تتم في أوفق وأيسر وأنفع السبل، مما يعود بالنفع والفائدة على الجسم
إن الصيام، كاقتناع فكري وممارسة عملية، يقوى لدى الإنسان كثيراً من جوانبه النفسية، فيقوى لديه الصبر والجلد والإرادة وضبط النوازع والرغبات، ويضفي على نفسه السكينة والرضا والفرح... وقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ).
9- ثبت بالدليل العلمي القاطع أن الصيام الإسلامي ليس له أي تأثير سلبي على الأداء العضلي وتحمل المجهود البدني، بل بالعكس فلقد أظهرت نتائج البحث القيم الذي أجراه الدكتور أحمد القاضي وزملاؤه بالولايات المتحدة الأمريكية أن درجة تحمل المجهود البدني – وبالتالي كفاءة الأداء العضلي – قد ازداد بنسبة 200% عند 30% من أفراد التجربة و7% عند 40% منهم، وتحسنت سرعة دقات القلب بمقدار 6% وتحسنت حصيلة ضغط الدم مضروباً في سرعة النبض بمقدار 12%، وتحسنت درجة الشعور بضيق التنفس بمقدار 9%... كما تحسنت درجة الشعور بإرهاق الساقين بمقدار 11% وهذا يبطل المفهوم الشائع عند كثير من الناس من أن الصيام يضعف المجهود البدني ويؤثر على النشاط، فيقضون معظم النهار في النوم والكسل.
* الوجه الثالث يسر الصيام الإسلامي وسهولته:
تشير الدراسات العلمية المحققة، في وظائف أعضاء الجسم، أثناء مراحل التجويع، إلى يُسر الصيام الإسلامي وسهولته، تحقيقاً لقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185]. وفي تفسير هذه الآية قال الرازي: إن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر، وما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ما أوجب هذا القليل على المريض ولا على المسافر
كما يتجلى يسر الصيام الإسلامي في إمداد الجسم بجميع احتياجاته الغذائية. وعدم حرمانه من كل ما هو لازم ومفيد له، فالإنسان في هذا الصيام يمتنع عن الطعام والشراب فترة زمنية محدودة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وله حرية المطعم والمشرب من جميع الأغذية والأشربة المباحة ليلاً، ولا يعتبر الصيام الإسلامي بهذا تغييراً لمواعيد تناول الطعام والشراب فحسب، فلم يفرض الله سبحانه الانقطاع الكلي عن الطعام مدة طويلة، أو حتى لمدة يوم وليلة، تيسيراً وتخفيفاً على أمة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وقد تجلى هذا اليسر بعد تقدم وسائل المعرفة والتقنية في هذا العصر فقد قسمت المراجع الطبية التجويع إلى ثلاث مراحل: مراحل مبكرة، وثانية متوسطة، وثالثة طويلة الأجل
وتقع المرحلة المبكرة بعد نهاية فترة امتصاص آخر وجبة ( أي عبد حوالي 5 ساعات من الأكل) وحتى نهاية فترة ما بعد الامتصاص، والتي تتراوح مدتها حوالي 12 ساعة، وقد تمتد إلى 40 ساعة عند بعض العلماء، فهذه الفترة يقع الصيام الإسلامي، كما يقع في فترة امتصاص الغذاء، وهذه الفترة من الانقطاع عن الطعام آمنة تماماً المقاييس العلمية، فالجلوكوز هو الوقود الوحيد للمخ، والدهون تتأكسد بالقدر الذي يولد أجساماً كيتونية بالدم أثناء هذه الفترة، كما لا يستهلك البروتين في إنتاج الطاقة بالقدر الذي يحدث خللاً في التوازن النتروجيني في الجسم. مما حدا ببعض العلماء أن يسقط فترة ما بعد الامتصاص من مراحل التجويع أصلاً، وهذه الحقيقة تجعل الصيام الإسلامي متفرداً في يسره وسهولته بعكس مراحل التجويع الأخرى.
من خلال عرض الحقائق السابقة، ندرك أن مدة الصيام الإسلامي والتي تتراوح من 12-16 ساعة في المتوسط، يقع جزء منها في فترة الامتصاص، ويقع معظمها في فترة ما بعد الامتصاص، ويتوفر فيها تنشيط جميع آليات الامتصاص والاستقلاب بتوازن، فتنشط آلية تحلل الجليكوجين وأكسدة الدهون وتحلها وتحل البروتين وتكوين الجلوكوز الجديد منه، ولا يحدث للجسم البشري أي خلل في أي وظيفة من وظائفه، فلا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد أجساماً كينونية تضر بالجسم، ولا يحدث توازن نتروجيني سلبي توازن استقلاب البروتين، ويعتمد المخ البشري وخلايا الدم الحمراء والجهاز العصبي على الجلوكوز وحده لحصول منه على الطاقة.
بينما لا يقف التجويع أو الصيام الطبي – القصير والطويل منه – عند تنشيط هذه الآليات، بل يشتد حتى يحدث خللاً في بعض وظائف الجسم، ويتيح الصيام الإسلامي تمثيلاً غذائياً فريداً، إذ يشتمل على مرحلتي البناء والهدم، فبعد وجبتي الإفطار والسحور، يبدأ البناء للمركبات الهامة في الخلايا، وتجديد المواد المختزنة – والتي استهلكت في إنتاج الطاقة – وبعد فترة امتصاص وجبة السحور يبدأ الهدم فيتحلل المخزون الغذائي من الجليكوجين والدهون ليمد الجسم بالطاقة اللازمة، أثناء الحركة والنشاط في نهار الصيام
لذلك كان حث النبي صلى الله عليه وسلم وتأكيده على ضرورة تناول وجبة السحور، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسحروا.. فإن في السحور بركة) متفق عليه. وذلك لإمداد الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة مقدارها 4 ساعات، محسوبة من زمن الانقطاع عن الطعام.
وبهذا أيضاً يمكن تقليص فترة ما بعد الامتصاص إلى أقل زمن ممكن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على تعجيل الفطر حيث قال: ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) متفق عليه... وتأخير السحور، فقد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قيل: كم كان ينهما ؟ قال: خمسون آية) متفق عليه. وهذا من شأنه تقليص فترة الصيام – أيضاً – إلى أقل حد ممكن، حتى لا يتجاوز فترة ما بعد الامتصاص كلما أمكن، وبالتالي، فإن الصيام الإسلامي لا يسبب شدة، ولا يشكل ضغطاً نفسياً ضاراً على الجسم البشري، بحال من الأحوال، وبناء على هذه الحقائق يمكننا أن نؤكد أن الذي يتوقف أثناء الصيام هو عمليات الهضم والامتصاص وليست عمليات التغذية، فخلايا الجسم تعمل بصورة طبيعية، وتحصل على جميع احتياجاتها اللازمة لها – من هذا المخزون بعد تحلله – والذي يعتبر هضماً داخل الخلية، فيتحول الجليكوجين إلى سكر الجلوكوز، والدسم والبروتينات إلى أحماض دهنية وأحماض أمينية، وذلك بفعل شبكة معقدة من الإنزيمات والتفاعلات الكيميائية الحيوية الدقيقة، والتي يقف الإنسان أمامها مشدوهاً معترفاً بجلال الله وعلمه وعظيم قدرته وإحكام صنعه.
فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم أن في الصيام وقاية للإنسان من أضرار نفسية وجسدية؟ ومن أخبره أن فيه منافع وفوائد يجنيها الأصحاء؟ بل ومن يستطيع الصيام من المرضى وأصحاب الأعذار !! ومن أخبره صلى الله عليه وسلم بأن الصيام سهل ميسور لا يضر بالجسم ولا يجهد النفس ؟ ومن أطلعه على أن كثرة الصوم تثبط الرغبة الجنسية ؟ وتخفق من حدتها وثورتها، خصوصاً عند الشباب !! وخصوصاً أنه نشأ في بيئة لا تعرف هذا الصيام ولا تمارسه.
الصيام والتخلص من السموم:
يتعرض الجسم البشري لكثير من المواد الضارة والسموم التي قد تتراكم في أنسجته، وأغلب هذه المواد يأتي للجسم عبر الغذاء الذي يتناوله بكثرة، وخصوصاً في هذا العصر الذي عمت فيه الرفاهية مجتمعات كثيرة، وحدث وفر هائل في الأطعمة بأنواعها المختلفة، وتقدمت وسائل التقنية في تحسينها وتهيئتها وإغراء الناس بها، فانكب الناس يلتهمونها بنهم، مما كان له أكبر الأثر في إحداث الخل لكثير من العمليات الحيوية داخل خلايا الجسم، وظهر – نتيجة لذلك – ما يسمى بأمراض الحضارة: كالسمنة، وتصلب الشرايين، وارتفاع الضغط الدموي وجلطات القلب، والمخ، والرئة، ومرض السرطان، وأمراض الحساسية والمناعة.
وتذكر المراجع الطبية:أن جميع الأطعمة تقريباً – في هذا الزمان – تحتوي على كميات قليلة من المواد السامة، وهذه المواد تضاف للطعام أثناء إعداده، أو حفظه، كالنكهات الألوان ومضادات الأكسدة والمواد الحافظة، أو الإضافات الكيميائية للنبات أو الحيوان: كمنشطات النمو والمضادات الحيوية والمخصبات أو مشتقاتها، وتحتوي بعض النباتات في تركيبها على بعض المواد الضارة... كما أن عدداً كبيراً من الأطعمة يحتوي على نسبة من الكائنات الدقيقة، التي تفرز سمومها فيها وتعرضها للتلوث
هذا بالإضافة إلى السموم التي نستنشقها مع الهواء من عوادم السيارات، وغازات المصانع، وسموم الأدوية التي يتناولها الناس بغير ضوابط.. إلى غير ذلك من سموم الكائنات الدقيقة التي تقطن في أجسامنا بأعداد تفوق الوصف والحصر... وأخيراً مخلفات الاحتراق الداخلي للخلايا، والتي تسبح في الدم، كغاز ثاني أكسيد الكربون واليوريا والكرياتينين والأمونيا والكبريتات وحمض اليوريا.. إلخ، ومخلفات الغذاء المهضوم، والغازات السامة التي تنتج من تخمره وتعفنه، مثل: الأندول والسكاتول والفينول
كل هذه السموم جعل الله سبحانه وتعالى للجسم منها فرجاً ومخرجاً، فيقوم الكبد – وهو الجهاز الرئيسي في تنظيف الجسم من السموم – بإبطال مفعول كثير من هذه المواد السامة، بل قل يحولها إلى مواد نافعة، مثل: اليوريا والكرياتين وأملاح الأمونيا، غير أن للكبد جهداً وطاقة محدودة، وقد يعتري خلاياه بعض الخلل لأسباب مرضية، أو لأسباب طبيعية، كتقدم السن، فيترسب جزء من هذه المواد السامة في أنسجة الجسم، وخصوصاً في المخازن الدهنية، وتذكر المراجع الطبية أن الكبد يقوم بتحويل مجموعة كبيرة من الجزيئات السمية، والتي غالباً ما تقبل الذوبان في الشحوم إلى جزئيات غير سامة تذوب في الماء، يمكن أن يفرزها الكبد عن طريق الجهاز الهضمي، أو قد تخرج عن طريق الكلى.
وفي الصيام تتحول كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد، حتى تُؤكسد ويُنتفع بها، وتُستخرج منها السموم الذاتية فيها، وتُزالُ سُميتها ويُتخلص منها مع نفايات الجسد، كما أن الدهون المتجمعة أثناء الصيام في الكبد – والقادمة من مخازنها المختلفة – يساعد ما فيها من الكوليستيرول على التحكم وزيادة إنتاج مركبات الصفراء في الكبد، والتي بدورها تقوم بإذابة مثل هذه المواد السامة والتخلص منها مع البراز.
ويؤدي الصيام خدمة جليلة للخلايا الكبدية، بأكسدته للأحماض الدهنية، فيخلص هذه الخلايا من مخزونها من الدهون، وبالتالي تنشط هذه الخلايا، وتقوم بدورها خير قيام، فتعادل كثيراً من المواد السامة – بإضافة حمض الكبريت أو حمض الجلوكونيك – حتى تصبح غير فعالة ويتخلص منها الجسم، كما يقوم الكبد بالتهام أية مواد دقيقة، كدقائق الكربون التي تصل إلى الدم ببلعمة جزيئاتها، بواسطة خلايا خاصة تسمى خلايا ( كوبفر)، والتي تبطن الجيوب الكبدية ويتم إفرازها مع الصفراء، وفي أثناء الصيام يكون نشاط وكفاءة هذه الخلايا في أعلى معدل كفاءتها للقيام بوظائفها، فتقوم بالتهام البكتريا بعد أن تهاجمها الأجسام المضادة المتراصة
وبما أن عمليات الهدم (Catabolism)
في الكبد أثناء الصيام تغلب علميات البناء (anabolism)
في التمثيل الغذائي، فإن فرصة طرح السموم المتراكمة في خلايا الجسم تزداد خلال هذه الفترة، ويزداد أيضاً نشاط الخلايا الكبدية في إزالة سمية كثير من المواد السامة، وهكذا يعتبر الصيام شهادة صحية لأجهزة الجسم بالسلامة.
يقول الدكتور ماك فادون – وهو من الأطباء العالميين الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره – إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم، وإن لم يكن مريضاً لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض وتثقله، فيقل نشاطه، فإذا صام الإنسان تخلص من أعباء هذه السموم، وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل.
هل من الأفضل في الصيام: الحركة أم السكون ؟:
ذكرت المراجع الطبية
إن الحركة العضلية في فترة ما بعد امتصاص الغذاء – أثناء الصوم – تؤكسد مجموعة خاصة من الأحماض الأمينية ( ليوسين وأيسوليوسين والفالين)، وتسمى الأحماض ذات السلسلة المتفرعة (Br CAAs). وبعد أن تحصل الخلايا العضلية على الطاقة المنبعثة من هذا التأكسد يتكون داخل هذه الخلايا حامضان أمينيان في غاية الأهمية، وهما حمضا الألانين والجلوتامين، ويعتبر الأول وقوداً أساسياً في تصنيع الجلوكوز الجديد في الكبد، ويدخل الثاني في تصنيع الأحماض النووية، ويتحول جزء منه إلى الحمض الأول. كما يتكون أثناء النشاط والحركة حمضاً البيروفيت واللاكتيت، وذلك من أكسدة الجلوكوز في الخلايا العضلية، وهما الحامضان اللذان يعتبران أيضاً الوقود الأولى لتصنيع جلوكوز الكبد.
تتأكسد الأحماض الأمينية ذات السلسلة المتفرعة أساساً في العضلات، حيث يوجد الإنزيم الخاص بتحويل مجموعة الأمين (Amino Trans - ferase)بكثرة في جهازي الاحتراق (ميتوكوندريا) والسيتوزول (Cytosol) في الخلايا العضلية. وتزداد هذه الأكسدة بالحركة، لذلك فإن عملية تصنيع جلوكوز جديد في الكبد تزداد بازدياد الحركة العضلية، وربما تصل إلى ثلاثة أضعافها في حالة عدم الحركة
ويعتبر حمض الألانين أهم الأحماض الأمينية المتكونة في العضلات أثناء الصيام، إذ يبلغ 30 % منها، وتزيد هذه النسبة بالحركة والنشاط، ويتكون من أكسدة بعض الأحماض الأمينية ومن البيروفيت، كما يتحول هو أيضاً إلى البيروفيت – عبرة دائرة تصنيع الجلوكوز في الكبد وأكسدته في العضلات
ويستهلك الجهاز العضلي الجلوكوز القادم من الكبد ( للحصول منه على الطاقة)، فإن زادت الحركة وأصبح الجلوكوز غير كاف لإمداد العضلات بالطلاقة، حصلت على حاجتها من أكسدة الأحماض الأمينية الحرة القادمة من تحلل الدهن في الأنسجة الشحمية، فإن قلت الأحماض الدهنية حصلت العضلات على الطاقة من الأجسام الكيتونية الناتجة من أكسدة الدهون في الكبد، والذي يؤكد أن النشاط والحركة تنشط جميع عمليات الأكسدة لكل المركبات التي تمد الجسم بالطاقة، وتنشط عملية تحلل الدهون، كما تنشط عملية تصنيع الجلوكوز بالكبد، من الجليسرول الناتج عن تحلل الدهون في النسيج الشحمي، ومن اللاكتيت الناتج من أكسدة الجلوكوز في العضلات.
ولذلك فالحركة أثناء الصيام الإسلامي تعتبر عملاً إيجابياً وحيوياً يزيد من كفاءة عمل الكبد والعضلات، ويخلص الجسم من الشحوم، ويحميه من أخطار زيادة الأجسام الكيتونية، كما أن الحركة العضلية تثبط تصنيع البروتين في الكبد والعضلات، وتتناسب درجة التثبيط مع قوة الحركة ومدتها، وهذا بدوره يوفر طاقة هائلة تستخدم في تكوين البروتين، حيث تحتاج كل رابطة من الأحماض الأمينية إلى مخزون الطاقة في خمسة جزيئات للأدينوزين والجوانين ثلاثي الفوسفات (ATP & CTP)، وإذا كان كل جزيء من هذين المركبين يحتوي على كمية من الطاقة تتراوح من 5-10 كيلو كالورى، وإذا علمنا أن أبسط أنواع البروتين لا يحتوي الجزيء منه على أقل من 100 حمض أميني، فكم تكون إذاً تلك الطاقة المتوفرة من تثبيط تكوين مجموعة البروتينات المختلفة بأنواعها المتعددة؟
وفي أثناء الحركة، أيضاً، يستخدم الجلوكوز والأحماض الدهنية والأحماض الأمينية في إنتاج الطاقة للخلايا العضلية، وهذا بدوره يؤدي إلى تنبيه مركز الأكل في الوساد تحت البصري (Hypothalamus)(42)، وذلك لوجود علاقة عكسية (Feed Back)بين هذه المواد في الدم ودرجة التشبع وتنبيه مركز الأكل في الدماغ
لذلك فإن الحركة العضلية تنبه مركز الأكل وتفتح الشهية للطعام.
كما أن الحركة، والنشاط العضلي الزائد، يحلل الجليكوجين إلى جلوكوز في غياب الأكسجين، وينتج حمض اللاكتيك ممن جراء التمثيل الغذائي للسكر الناتج، وهو الحمض الذي يمر إلى الدم ويتحول بدوره إلى جلوكوز، وجليكوجين بواسطة الكبد... ففي العضلات لا يتحلل الجليكوجين إلى جلوكوز في حالة السكون، كما في الكبد، وذلك لغياب إنزيم فوسفاتاز – 6 – الجلوكوز (Glucose 6 phosphatase).فالحركة إذن عامل هام لتنشيط استقلاب المخزون من الجليكوجين العضلي إلى جلوكوز، وتقديمه للأنسجة التي تعتمد عليه كالمخ والجهاز العصبي وخلايا الدم ونقيُ العظام ولب الكلى
ويمكن كذلك، أن تكون للحركة العضلية علاقة بتجديد الخلايا المبطنة لأمعاء، فيتحسن الهضم والامتصاص للمواد الغذائية، إذ تحتاج هذه الخلايا لحمض الجلوتامين لتصنيع الأحماض النووية (Nucleotide Synthesis)، وهو الحمض الذي تنتجه العضلات بكثرة أثناء الحركة
ويتجدد شباب الخلايا المبطنة للأمعاء (Mucosal Cells)كل يومين إلى 6 أيام، وتفقد يومياً 17 بليون خلية، فهل يمكن أن تكون الحركة العضلية علاجاً لاضطرابات الهضم وسوء الامتصاص ؟؟
إن فلسفة الصيام مبنية على ترك الطعام والشراب، وتشجيع آليات الهدم ( العمليات الكيميائية الحيوية) أساساً في عملية التمثيل الغذائي، والنهار هو الوقت الذي تزداد فيه عمليات التمثيل الغذائي، وخصوصاً عمليات الهدم، لأنه هو وقت النشاط والحركة واستهلاك الطاقات في أعمال المعاش... وقد هيأ الله سبحانه وتعالى للجسم البشري ساعة بيولوجية تنظم هرمونات الغدد الصماء، وكثيراً من آليات التمثيل الغذائي، بما يتوافق ونشاط هذه الآليات أثناء النهار، ولنضرب مثلاً بهرمون الكورتيزول وهرمون الأدرينالين، فالأول يكون في أقصى زيادة له عند التاسعة صباحاً تقريباً – في الشخص الذي ينام ليلاً – ويقل تدريجياً حتى يصل إلى خُمس معدل تركيزه عند منتصف الليل. وهذا الهرمون هو من هرمونات الهدم، إذ يعمل على تكسير البروتينات إلى أحماض أمينية، والثاني هرمون الأدرينالين، إذ يصل إلى أقصى معدل له في نهاية فترتي الصباح والظهيرة ( حوالي التاسعة صباحاُ والثانية ظهراً) وهذا الهرمون برفع ممل تركيز الجلوكوز والأحماض الدهنية، ويزيد من معدل هدمها، كما يساعد في تثبيط تكوين البروتين وأكسدة الأحماض الأمينية في العضلات ويحرك الألانين إلى الكبد
لتكوين جلوكوز جديد فيه وتقديم المزيد من الطاقة لجسم – كما ينبه الجهاز العصبي... لذلك فقد يكون هذا أحد الأسرار التي جعل الله من أجلها الصيام في النهار، وقت النشاط والحركة والسعي في مناكب الأرض، ولم يجعله بالليل وقت السكون والراحة !
من أجل هذا – يمكننا أن نقول – وبكل ثقة -: إن النشاط والحركة أثناء الصيام يوفر لجسيم من الجلوكوز المصنع أو المخزون في الكبد، وهو الوقود المثالي لإمداد المخ وكرات الدم الحمراء ونقي العظام والجهاز العصبي بالطاقة اللازمة، لتجعلها أكثر كفاءة لأداء وظائفها، كما توفر الحركة طاقة للجسم البشري تستخدم في عملياته الحيوية، فهي تثبط تكون البروتين من الأحماض الأمينية، وتزيد من تنشيط آليات الهدم أثناء النهار، فتستهلك الطاقات المختزنة وتنظف المخازن من السموم التي يمكن أن تكون متماسكة أو ذاتية في المركبات الدهنية أو الأمينية... وإن الكسل والخمول والنوم أثناء نهار الصيام ليعطل الحصول على كل هذه الفوائد، بل قد يصيب صاحبه بكثير من العلل ويجعله أكثر خمولاً وتبلداً، كما أن النوم أثناء النهار والسهر طوال ليل رمضان، يؤدي إلى حدوث اضطراب عمل الساعة البيولوجية في الجسم، مما يكون له أثر سيء على الاستقلاب الغذائي داخل الخلايا.
ولقد أجريت دراسة أثبتت هذا الاضطراب على هرمون الكورتيزول، فلقد قام الدكتور محمد الحضرامي في كلية الطب – جامعة الملك عبد العزيز – بإجراء دراسة على 10 أشخاص أصحاء مقيمين خارج المستشفى، وأظهرت الدراسة أن أربعة منهم حدث عندهم اضطراب في دورة الكوتيزول اليومية، وذلك خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر رمضان، مع انقلاب النسب المعهودة في الصباح وفي منتصف الليل. فقد لوحظ أن المستوى الصباحي قد انخفض وأن المستوى المسائي قد ارتفع، وهذا على عكس الوضع الاعتيادي اليومي، وقد عزا الباحث هذا الاضطراب إلى التغيير في العادات السلوكية عند هؤلاء الصائمين، الذين يقضون النهار في النوم، ويقضون الليل في السهر، وقد عاد الوضع الطبيعي للكورتيزول بعد 4 أسابيع من نهاية شهر الصيام، وبعد أن استقر نظام النوم ليلاً والنشاط نهاراً عند هؤلاء الأشخاص.
من أجل هذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه والمسلمون الأولون لا يفرقون في الأعمال بين أيام الصيام وغيرها، بل قد يعقدون ألوية الحرب ويخوضونها صائمين متعبدين... فهل يتحرر المسلمون من أوهام الخوف من الحركة والعمل أثناء الصيام !! وهل يهبون قائمين لله عاملين ومنتجين ومجاهدين، مقتدين بنبيهم صلى الله عليه وسلم وسلفهم الصالح رضوان الله عليهم !!
الصيام والتخلص من الشحوم:
تعتمد السمنة على الإفراط في تناول الطعام، وخصوصاً الأطعمة الغنية بالدهون، هذا بالإضافة إلى وسائل الحياة المريحة، والسمنة مشكلة واسعة الانتشار، وقد وجد أن السمنة تقترن بزيادة خطر الأمراض القلبية الوعائية، مثل: قصور القلب والسكتة القلبية ومرض الشريان التاجي ومرض انسداد الشرايين المحيطة بالقلب.
وتحدث السمنة نتيجة لاضطراب العلاقة بين ثلاثة عناصر من الطاقة وهي: الكمية المستهلكة من الطعام، والطاقة المبذولة في النشاط والحركة، والطاقة المختزنة على هيئة دهون بصفة أساسية، فالإفراط في تناول الطعام مع قلة الطاقة المبذولة في الحركة يؤدي إلى ظهور السمنة.
إن الإنسان العادي يستهلك حوالي 20 طناً من الطعام خلال حياته، وظهور نسبة 25% من الخطأ في توازن الطاقة يؤدي إلى حدوث زيادة في الوزن تبلغ 50 كجم، أو حدوث زيادة عند شخص بالغ يزن 70 كجم، فيصبح وزنه 120 كجم... وهذا من شأنه أن يبين مدى الدقة المطلوبة في تنظيم تناول الطعام للمحافظة على استقرار وزن الجسم.
ومن المعتقد أن السمنة تنجم إما عن خلل استقلابي ( خلل في التمثيل الغذائي)، أو عن ضغوط بيئية، أو اجتماعية، وقد تحدث البدانة أيضاً بسبب خلل في الغدد الصماء، أو بأسباب نفسية واجتماعية متضافرة تظهر على شكل إفراط في الأكل، وكثيراً ما يتزامن حدوث الاضطرابات الاستقلابية والضغوط البيئية بحيث يصل أحدهما الآخر، فتتفاقم الحالة.
وفي المقابل، يرى الكثير من العلماء أن الاضطراب النفسي الذي يفضي إلى الشراهة في تناول الطعام، والذي يتسبب في السمنة قد يؤدي إلى ظهور اضطرابات الرئيسية في توازن الطاقة – في حالة السمنة – على أنها عبارة التغيير في أحد العناصر، ولكن يظل واضحاً تماماً أن الإفراط في الأكل هو أحد العوامل الرئيسية في حدوث السمنة.
وهناك تغيرات كيميائية الشحمية ( نوع بيتا) في البلازما والأحماض الدهنية الحرة، ويزداد تركيز الأنسولين في الدم زيادة كبيرة، مما يؤدي إلى تضخم في البنكرياس، أو زيادة أنسجته، فيؤدي إلى زيادة إنتاج الأنسولين، الذي يتسبب في تكون الأحماض الدهنية في الكبد من المواد الكربوهيدراتية، وزيادة ترسب المواد الدهنية في الأنسجة الشحمية، وهذا يؤدي إلى ظهور أعراض ( مرض السكري) حيث تفقد مستقبلات الأنسولين – الموجودة على الأنسجة – الاستجابة للأنسولين.
لقد حاول كثيرون علاج السمنة فوضعت أنظمة غذائية كثيرة، كان أغلبها مزيفاً، وغير مبني على أسس علمية، إذ لا تعمل هذه الأنظمة إلى على فقدان كمية كبيرة نسبياً من ماء الجسم، فيعطي الانطباع بانخفاض الوزن، وبعض هذه الأنظمة أدى إلى فقدان الجسم لكمية من الدهون، لكنها أدت أيضاً إلى ظهور الأجسام الكيتونية
أما الصيام الإسلامي المثالي فيعتبر النموذج الفريد للوقاية والعلاج من السمنة في آن واحد، حيث يمثل الأكل المعتدل والامتناع عنه مع النشاط والحركة، عاملين مؤثرين في تخفيف الوزن، وذلك بزيادة معدل استقلاب الغذاء بعد وجبة السحور، وتحريك الدهن المختزن لأكسدته في إنتاج الطاقة اللازمة بعد منتصف النهار.
ويرجع العلماء حدوث الزيادة في معدل استقلاب الغذاء (BMR) بعد تناول وجبة الطعام، إلى ارتفاع الأدرينالين والنور أدرينالين، وازدياد السيالات الودية (Sympathetic discharge)،نتيجة لنشاط الجهاز العصبي الودي
وعمل القوة المتحركة النوعية (Specific Dynamic Action)، حيث يستهلك كل نوع من محتويات الطعام طاقة حتمية أثناء عمليات الغذائي. فتستهلك كمية البروتين التي يمكن أن تعطي الجسم 100 كيلو كالورى، 30 كيلو كالورى، وتستهلك نفس الكمية من الكربوهيدرات والدهون 6 ك. ك، و4 ك. ك على التوالي، ويستمر نشاط عمليات الاستقلاب لمدة 6 ساعات، أو أكثر، بعد تناول وجبة الطعام.
ويعتبر بذل الجهد العضلي من أهم الأمور التي تؤدي إلى زيادة معدل الأيض (الاستقلاب) (Metabolic rate)،وهو الذي يظل مرتفعاً، ليس أثناء الجهد العضلي فقط، ولكن بعد ذلك بفترة طويلة كافية
وبهذا يحقق الصيام الإسلامي المثالي – المتمثل في الحفاظ على وجبة السحور والاعتدال في الأكل والحركة والنشاط أثناء الصيام – نظاماً غذائياً ناجحاً في علاج السمنة، أما نظام التجويع الطويل بالانقطاع الكلي عن الطعام فيؤدي إلى هبوط الاستقلاب، نتيجة لتثبيط الجهاز الودي ( السمبثاوي) وهبوط الأدرينالين والنور أدرينالين السابح في الجسم، وهذا يفسر لماذا يهبط وزن الشخص الذي يريد تخفيف وزنه بواسطة التجويع بشدة في البداية، ثم يقل بالتدريج بعد ذلك، ويكون معظم الوزن المفقود في الأيام الأولى هو في الواقع من الماء الموجود داخل الجسم، المليء بالطاقة المختزنة والأملاح المرافقة لها
الصيام وتجدد الخلايا:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يحدث التغيير والتبديل في كل شيء وفق سنة ثابتة، وقد اقتضت هذه السنة في جسم الإنسان أن تتبدل محتوى خلاياه كل ستة أشهر على الأقل، وبعض الأنسجة تتجدد خلاياها في فترات قصيرة تعد بالأيام، وبالأسابيع، مع الاحتفاظ بالشكل الخارجي الجيني، وتتغير خلايا جسم الإنسان وتتبدل فتهرم خلايا ثم تموت وتنشأ أخرى جديدة تواصل مسيرة الحياة... هكذا باضطراد، حتى يأتي أجل الإنسان، إن عدد الخلايا التي تموت في الثانية الواحدة في جسم الإنسان يصل إلى 125 مليون خلية، وأكثر من هذا العدد يتجدد يومياً خلال مراحل النمو، ومثله في وسط العمر، ثم يقل عدد الخلايا المتجددة مع تقدم السن.
وبما أن الأحماض الأمينية هي التي تشكل البنية الأساسية في الخلايا، ففي الصيام الإسلامي تتجمع هذه الأحماض القادمة من الغذاء مع الأحماض الناتجة عن عملية الهدم، في مجمع الأحماض الأمينية في الكبد (Amino acid pool)ويحدث فيها تحول داخلي واسع النطاق وتدخل في دورة السترات (Citrate Cycle)،ويتم إعادة توزيعها بعد عملية التحول الداخلي (Interconversion)، ودمجها في جزئيات أخرى، كالبيورين (Purines)، والبيريميدين، أو البروفرين (Prophyrins)،ويصنع منها كل أنواع البروتينات الخلوية، وبروتين البلازما والهرمونات وغير ذلك من المركبات الحيوية، أما أثناء التجويع فتتحول معظم الأحماض الأمينية القادمة من العضلات – وأغلبها من نوع حمض الألانين – تتحول إلى جلوكوز الدم، وقد يستعمل جزء منها لتركيب البروتين، أو تجرى أكسدته لإنتاج الطاقة – بعد أن يتحول إلى أحماض أكسجينية (Oxoacids)
. وهكذا نرى أنه أثناء الصيام يحدث تبدل وتحول واسع النطاق داخل الأحماض الأمينية المتجمعة من الغذاء، وعمليات الهدم للخلايا، بعد خلطها وإعادة تشكيلها ثم توزيعها حسب احتياجات خلايا الجسم، وهذا يوفر لبنات جديدة للخلايا لترميم بنائها، ولرفع كفاءتها الوظيفية، مما يعود على الجسم البشرى بالصحة والنماء والعافية، وهذا لا يحدث في التجويع ( حيث الهدم المستمر لمكونات الخلايا وحيث الحرمان من الأحماض الأمينية الأساسية) فعندما تعود بعض اللبنات القديمة لإعادة الترميم تتداعى القوى، ويصير الجسم عرضة للأسقام أو الهلاك، فنقص حمض أميني أساسي واحد – يدخل في تركيب بروتين خاص – يجعل هذا البروتين لا يتكون... والأعجب من ذلك أن بقية الأحماض الأمينية التي يتكون منها هذا البروتين تتهدم وتتدمر
كما أن إمداد الجسم بالأحماض الدهنية الأساسية (Essential Fatty Acids) في الغذاء، له دور هام في تكوين الدهون الفوسفاتية (Phospholipids)والتي مع الدهن العادي (Triacylglycorol)تدخل في تركيب البروتينات الدهنية (Lipoproteins)، ويقوم النوع منخفض الكثافة جداً منها (very low density lipoprotein)بنقل الدهون الفوسفاتية والكوليسترول – من أماكن تصنيعها بالكبد – إلى جميع خلايا الجسم، لتدخل في تركيب جدر الخلايا الجديدة وتكوين بعض مركباتها الهامة، ويعرقل هذه العملية الحيوية كل من الأكل الغني جداً بالدهون وكذلك الحرمان المطلق من الغذاء – كما في حالة التجويع، حيث تتجمع كميات كبيرة من الدهون في الكبد تجعله غير قادر على تصنيع الدهون الفرسفاتية والبروتين بمعدل يكفي لتصنيع البروتين الشحمي، فلا تنتقل الدهون من الكبد إلى أنحاء الجسم لتشارك في بناء الخلايا الجديدة، وتتراكم فيه وقد تصيبه بحالة التشمع الكبدي (Fatty Liver)فتضطرب وظائفه، وينعكس هذا بالطبع على تجدد خلاياه هو أولاً، ثم على خلايا الجسم، وتقدم أجل وأعظم الخدمات في تجديد وإصلاح خلايا الجسم كله، غذ تقوم بإنتاج بروتينات البلازما كلها تقريباً (30-50جم يومياً) وتكوين الأحماض الأمينية المختلفة، وذلك بعمليات التحول الداخلي وتحويل البروتين والدهن والكربوهيدرات، كل منها للآخر، وتقديمها لخلايا الجسم بحسب احتياجاتها، وتدخل في صناعة الجلوكوز وتخزينه لحفظ تركيزه في الدم، وأكسدة الجلولكوز والأحماض الدهنية بمعدلات مرتفعة لإمداد الجسم وخلاياه بالطاقة اللازمة في البناء والتجديد إذ تحتوي كل خلية كبدية من الوحدات المولدة للطاقة (Mitochondria)
1000 وحدة تقريباً، كما تكون الخلايا الكبدية الكوليسترول والدهون والفوسفاتية التي تدخل في تركيب جدر الخلايا، وفي المركبات الدقيقة داخل الخلية وفي العديد من المركبات الكيميائية الهامة واللازمة لوظيفة الخلية...
كما تقوم خلايا الكبد بصناعة إنزيمات حيوية وهامة لخلايا الجسم، كخميرة الفوسفتاز القلوية (Alkaline Phosphatase)،والتي بدونها لا تستخدم الطاقة المتولدة من الجلوكوز والأكسجين، ولا يتم الكثير من عمليات الخمائر والهرمونات وتبادل الشوارد
فيتأثر تجدد الخلايا وتضطرب وظائفها... كما تقدم خلايا الكبد خدمة جليلة في بناء الخلايا الجديدة حيث تختزن في داخلها عدداً من المعادن والفيتامينات الهامة اللازمة لتجديد خلايا الجسم، كالحديد، والنحاس، وفيتامين أ، ب2، ب12، وفيتامين د. وتقدم خلايا الكبد، أيضاً، أعظم الخدمات لتجديد الخلايا، حيث تزيل من الجسم المواد السامة، وهي المواد التي تعرقل هذا التجديد، أو حتى تدمر الخلايا نفسها ( كما في مادة الأمونيا التي تسمم خلايا المخ وتدخل مريض تليف الكبد إلى غيبوبة تامة).
إن الصيام الإسلامي هو وحده النظام الغذائي الأمثل لتحسين الكفاءة الوظيفية للكبد، حيث يؤدي إلى مده بالأحماض الدهنية والأمينية الأساسية، خلال وجبتي الإفطار والسحور، فتتكون لبنات البروتين، والدهون الفوسفاتية والكوليسترون وغيرها لبناء الخلايا الجديدة وتنظيف خلايا الكبد من الدهون التي تجمعت فيه بعد الغذاء خلال نهار الصوم فيستحيل بذلك أن يصاب الكبد بالتشمع الكبدي، أو تضطرب وظائفه بعدم تكوين المادة الناقلة للدهون منه، وهي الدهن الشحمي منخفض الكثافة جداً، (VLDL) والذي يعرقل تكونها التجويع، أو كثرة الأكل الغني بالدهون – كما بينا، وعلى هذا، يمكن أن نستنتج أن الصيام الإسلامي يمتلك دوراً فعالاً في الحفاظ على نشاط ووظائف خلايا الكبد، وبالتالي يؤثر بدرجة كبيرة في سرعة تجدد خلايا الكبد – وكل خلايا الجسد – وهو ما لا يفعله الصيام الطبي ولا يؤدي إليه الترف في الطعام الغني بالدهون.
لماذا الإفطار على التمر ؟
عند نهاية مرحلة ما بعد الامتصاص – في نهاية يوم الصوم – يهبط مستوى تركيز الجلوكوز والإنسولين من دم الوريد البابي الكبدي، وهذا يقلل بدوره من نفاذ الجلوكوز وأخذه بواسطة خلايا الكبد والأنسجة الطرفية، كخلايا العضلات وخلايا الأعصاب، ويكون قد تحلل كل المخزون من الجليلكوجين الكبدي أو كاد، وتعتمد الأنسجة حينئذ في الحصول على الطاقة من أكسدة الأحماض الدهنية، وأكسدة الجلوكوز المصنع في الكبد من الأحماض الأمينية والجليسرول، لذلك، فإمداد الجسم السريع بالجلوكوز في هذا الوقت له فوائد جمة، إذ يرتفع تركيزه بسرعة في دم الوريد البابي الكبدي فور امتصاصه ويدخل إلى خلايا الكبد أولاً، ثم خلايا المخ والدم والجهاز العصبي والعضلي وجميع الأنسجة الأخرى، والتي هيأها الله تعالى لتكون السكريات غذاؤها الأمثل والأيسر للحصول منها على الطاقة
ويتوقف بذلك تأكسد الأحماض الدهنية، فيقطع الطريق على تكون الأجسام الكيتونية الضارة، وتزول أعراض الهمود، والضعف العام، والاضطراب البسيط في الجهاز العصبي، إن وجدت لتأكسد كميات كبيرة من الدهون – كما يوقف تناول الجلوكوز عملية تصنيع الجلوكوز في الكبد، فيتوقف هدم الأحماض الأمينية وبالتالي حفظ بروتين الجسم.
ويعتبر التمر من أغنى الأغذية بسكر الجلوكوز، وبالتالي فهو أفضل غذاء يقدم للجسم حينئذ، إذ يحتوي على نسبة عالية من السكريات، تتراوح ما بين (75 – 87%)، ويشكل الجلوكوز 55% منها، والفركتوز 45%، هذا علاوة على نسبة من البروتينات والدهون وبعض الفيتامينات وأهمها: أ، ب2، ب 12، وكذلك بعض المعادن الهامة وأهمها: الكالسيوم، والفوسفور، والبوتاسيوم والكبريت، والصوديوم، والمغنيسيوم، والكوبالت، والزنك، والفلورين، والنحاس، والمنجنيز، ونسبة من السلولوز، ويتحول الفركتوز إلى جلوكوز بسرعة فائقة ويمتص مباشرة من الجهاز الهضمي ليروي ظمأ الجسم من الطاقة، وخصوصاً تلك الأنسجة التي تعتمد عليه أساساً، كخلايا المخ والأعصاب وخلايا الدم الحمراء وخلايا نقيُ العظام.
وللفركتوز مع السليلولوز تأثير منشط للحركة الدودية للأمعاء، كما أن الفوسفور مهم في تغذية حجرات الدماغ، ويدخل في تركيب المركبات الفوسفاتية، مثال: الأدينوزين، والجوانين ثلاثي الفوسفات، وهي المواد التي تنقل الطاقة وترشد استخدامها في جميع خلايا الجسم... كما أن جميع الفيتامينات التي يحتويها التمر لها دور فعال في عمليات التمثيل الغذائي (أ، ب1، ب2، والبيوتين، والريبوفلافين... الخ)، ولها أيضاً تأثير مهدئ للأعصاب، وللمعادن الموجودة التمر دور أساسي في تكوين بعض الإنزيمات الهامة في عمليات الجسم الحيوية، ودور حيوي في عمل البعض الآخر، كما أن لها دوراً هاماً في انقباض وانبساط العضلات والتعادل الحمضي – القاعدي في الجسم، فيزول بذلك أيّ توتر عضلي أو عصبي، فيعم النشاط والهدوء والسكينة سائر البدن
وعلى العكس من ذلك، لو بدأ الإنسان إفطاره بتناول المواد البروتينية أو الدهنية، فإنها لا تمتص إلا بعد فترة طويلة من الهضم والتحلل، ولا تؤد الغرض في إسعاف الجسم بحاجته السريعة للطاقة، فضلاً على أن ارتفاع الأحماض الأمينية في الجسم نتيجة للغذاء الخالي من السكريات، أو حتى الذي يحتوي على كمية قليلة منه، يؤدي إلى هبوط سكر الدم لهذه الأسباب، يمكن أن ندرك الحكمة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإفطار على التمر ؟!
عن سلمان بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم جد فليفطر على ماء، فإنه طهور ) رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح، وعن أنس رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.
لماذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصائم بالهدوء والبعد عن الشجار !
إذا اعترى الصائم غضب وانفعال وتوتر، ازداد إفراز الأدرينالين في دمه زيادة كبيرة، وقد يصل إلى 20 أو 30 ضعفاً عن معدله العادي، وذلك أثناء الغضب الشديد أو العراك. فإن حدث هذا في أول الصوم، أثناء فترة الهضم والامتصاص، اضطرب هضم الغذاء وامتصاصه زيادة على الاضطراب العام في جميع أجهزة الجسم، وذلك لأن الأدرينالين يعمل على ارتخاء العضلات الملساء في الجهاز الهضمي، ويقلل من تقلصات المرارة، ويعمل على تضييق الأوعية الدموية الطرفية وتوسيع الأوعية التاجية، كما يرفع الضغط الدموي الشرياني ويزيد كمية الدم الواردة إلى القلب وعدد دقاته. وإن حدث الغضب والشجار في منتصف النهار، أو في آخره، أثناء فترة ما بعد الامتصاص – تحل ما تبقى من مخزون الجليكوجين في الكبد، وتحلل بروتين الجسم إلى أحماض أمينية، وتأكسد المزيد من الأحماض الدهنية، كل ذلك ليرتفع مستوى الجلوكوز في الدم، فيحترق ليمد الجسم بالطاقة اللازمة في الشجار والعراك، وبهذا تستهلك الطاقة بغير ترشيد، كما أن بعض الجلوكوز قد يفقد مع البول إن زاد عن المعدل الطبيعي، وبالتالي يفقد الجسم كمية من الطاقة الحيوية الهامة في غير فائدة تعود عليه، ويضطر إلى استهلاك الطاقة من الأحماض الدهنية التي يؤكسد المزيد منها، وقد تؤدي إلى تولد الأجسام الكيتونية الضارة في الدم.
كما أن الازدياد الشديد للأدرينالين في الدم يعمل على خروج كميات كبيرة من الماء من الجسم، بواسطة الإدرار البولي (Diuresis)،كما يرتفع معدل الأيض ( الاستقلاب) الأساسي ( Basal Metabolic Rate)عند الغضب والتوتر، نتيجة لارتفاع الأدرينال وزيادة الشد العضلي وقد يؤدي ارتفاع الأدرينالين إلى حدوث نوبات قلبية، أو إلى موت الفجاءة عند بعض الأشخاص المهيئين لذلك، وذلك نتيجة لارتفاع ضغط الدم، وارتفاع حاجة عضلة القلب للأكسجين (من جراء ازدياد سرعته)... وقد يتسبب الغضب، أيضاً في حدوث النوبات الدماغية، لدى المصابين بارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين.
كما أن ارتفاع الأدرينالين – نتيجة للضغط النفسي في حالات الغضب والتوتر – يؤدي إلى زيادة الكوليسترول في الدم، حيث يتكون من الدهن البروتيني منخفض الكثافة، والي قد يزداد أثناء الصيام، وقد ثبتت علاقته بمرض تصلب الشرايين، لهذا، ولغيره مما عرف ومما لم يعرف بعد، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الصائم بالسكينة وعدم الصخب والانفعال أو الدخول في عراك مع الآخرين... فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم ) متفق عليه.
من فوائد عدم شرب الماء في الصيام:
يشكل الماء حوالي 60-70% من وزن الجسم عند البالغين، وهو ينقسم إلى قسمين رئيسيين: قسم داخل الخلايا، وقسم خارجها، بين الخلايا، في الأنسجة والأوعية الدموية والعصارات الهضمية وغير ذلك، وبين القسمين توازن دقيق، والتغير في تركيزات الأملاح – خصوصاً الصوديوم الذي يتركز وجوده في السائل خارج الخلايا – ينبه أو يثبط عمليتين حيويتين داخل الجسم، وهما: آلية إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH)، وآلية الإحساس بالعطش، وتؤثر كل منهما في تهيئة الجسم لحفاظه على الماء داخله وقت الشدة، وذلك بتأثير الهرمون المضاد لإدرار البول على زيادة نفاذية الأنابيب الكلوية البعيدة، والأنابيب والقنوات الجامعة، حيث يسرّع امتصاص الماء ويقلل من إخراجه، كما يتحكم القسمان معاً في تركيزات الصوديوم خارج الخلايا... وكلما زاد تركيز الصوديوم زاد حفظ الماء داخل الجسم.
ولقد درس مصطفى وزملاؤه في السودان ( سنة 1987م) توازن الماء والأملاح في جسم الصائم، وأثبت هذا البحث أن الإخراج الكلي للصوديوم يقل، وخصوصاً أثناء النهار، إن تناول الماء أثناء الامتناع عن الطعام ( في الصيام) يؤدي إلى تخفيف التناضح (Osmolarity)
في السائل خارج الخلايا، وهذا بدوره يؤدي إلى تثبيط إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول، فيزداد الماء الخارج من الجسم في البول مع ما يصحبه من الصوديوم وبعض الأملاح الأخرى، وفي هذا تهديد لحياة الإنسان ( إن لم تعوض هذه الأملاح) حيث يعتبر الصوديوم عنصراً حيوياً في توطيد الجهد الكهربائي عبراً جدران الخلايا العصبية وغير العصبية... كما أن له دوراً حيوياً في تنبيه وانقباض العضلات، وعند نقصانه يصاب الإنسان بضعف عام في جسمه.
وهناك علاقة بين العطش وبين تحلل الجليكوجين: إذ يسبب العطش إفراز جرعات – تتناسب وقوة العطش – من هرموني الأنجوتنسين 2 (Angiotensin II)والهرمون القابض للأوعية الدموية (Vasopressin)، وهما اللذان يسببان تحلل الجليكوجين في إحدى مراحل تحلله بخلايا الكبد
فكلما زاد العطش زاد إفراز هذين الهرمونين بكميات كبيرة، مما يساعد في إمداد الجسم بالطاقة، وخصوصاً في نهاية اليوم.
كما أن زيادة الهرمون المضاد لإدرار البول(ADH) المستمر طوال فترة الصيام في شهر رمضان، قد يكون له دور هام في تحسين القدرة على التعلم وتقوية الذاكرة وقد ثبت ذلك على حيوانات التجارب
. لذلك فالقدرة العقلية قد تتحسن عند الصائمين، بعكس ما يعتقد عامة الناس، كما أن الحرمان من الماء أثناء الصيام، يتسبب في حدوث زيادة كبيرة في آليات تركيز البول في الكلى، مع ارتفاع القوة الأزموزية البولية ( قد يصل من 1000 إلى 12 ألف مل أزمو/ كجم ماء) وهكذا تنشط هذه الآليات الهامة لسلامة وظائف الكلى.
كما أن عدم شرب الماء خلال نهار الصيام يقلل من حجمه داخل الأوعية الدموية، وهذا بدوره يؤدي إلى تنشيط الآلية المحلية بتنظيم الأوعية وزيادة إنتاج البروستاجلاندين (Prosaglandine)، والذي له تأثيرات عديدة وبجرعات قليلة إذ أن له دوراً في حيوية ونشاط خلايا الدم الحمراء، وله دور في التحكم في تنظيم قدرة هذه الخلايا لتعبر من خلال جدران الشعيرات الدموية... وبعض أنواعه له دور في تقليل حموضة المعدة، ومن ثم تثبيط تكون القُرح المعدية – كما ثبت في حيوانات التجارب... كما أنه له دوراً في علاج العقم، حيث يسبب تحلل الجسم الأصفر، ومن ثم فقد يؤدي دوراً في تنظيم دورة الحمل عند المرأة... كما يؤثر على عدة هرمونات داخل الجسم، فينبه إفراز هرمون الرينين، وبعض الهرمونات الأخرى، مثل الهرمون الحاث للقشرة الكظرية (SH and ACTH)وغيره... كما يزيد من قوة استجابة الغدة النخامية (Pituitary gland)
للهرمونات المفرزة من منطقة تحت الوساد في المخ.... كما يؤثر على هرمون الجلوكاجون، وهرمون الكاتيكولامين ( الأدرينالين والنورادرينالين)، وبقية الهرمونات التي تؤثر على إطلاق الأحماض الدهنية الحرة... كما يوجد البروستجلاندين في المخ، ومن ثم له تأثير في إفراز الناقلات للإشارة العصبية.. كما أنه له دوراً في التحكم في إنتاج أحادى فوسفات الأدينوزين الحلقي (CAMP)وهو الذي يزداد مستواه لأسباب عديدة... ويؤدي دوراً هاماً في تحلل الدهن المختزن.. لذلك، فإن العطش أثناء الصيام له فوائد عديدة – بطريق مباشر أو غير مباشر – نتيجة لزيادة مادة البروستجلاندين، حيث يمكن أن يحسن كفاءة خلايا الدم، ويحمي الجسم من قرحة المعدة، ويشارك في علاج العقم، ويسهل الولادة، ويحسن الذاكرة، ويحسن آليات عمل الكلى، وغير ذلك.
إن الله سبحانه وتعالى جعل للجسم البشري مقدرة على صنع الماء من خلال العمليات والتحولات الكيميائية العديدة التي تحدث في جميع خلايا الجسم، إذ يتكون أثناء عمليات أيض ( استقلاب) الغذاء وتكوين الطاقة في الكبد والكلى والمخ والدم وسائر الخلايا – تقريباً – جزئيات ماء، وقد قدر العلماء كمية هذا الماء في اليوم من ثلث إلى نصف لتر، ويسمى الماء الذاتي، أو الداخلي (Intrinsic Water)، كما خلق الله للإنسان ماء داخلاً، خلق له طعاماً داخلياً فمن نفايات أكسدة الجلوكوز يُصنّع الجلوكوز مرة أخرى، حيث يتحول كل من حمض اللاكتيك والبيروفيت ( وهما نتاج أكسدة الجلوكوز) إلى جلوكوز مرة أخرى، حيث تتوجه هذه النفايات إلى الكبد فيجعلها وقوداً لتصنيع جلوكوز جيد في الكبد، ويتكون يومياً حوالي 36 جراماً من هذا الجلوكوز الجديد من هذين الحمضين، غير الذي يتكون من الجليسرول والأحماض الأمينية
وبهذا يمكن أن ندرك سر نهي النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن إكراه مرضاه على الطعام والشراب، حيث كان الناس يظنون – وللأسف لا يزالون – أن الجسم البشري كالآلة الصماء، لا تعمل إلا بالإمداد الدائم بالغذاء، وأن في الغذاء الخارجي فقط تكمن مقاومة ضعف المرض، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يطعمهم ويسقيهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم ) رواه ابن ماجه والحاكم، وصححه هو والألباني
* الوجه الأول: الوقاية من العمل والأمراض:
أخبر الله سبحانه وتعالى أنه فرض علينا الصيام، وعلى كل أهل الملل قبلنا، لنكتسب به التقوى الإيمانية التي تحجزنا عن المعاصي والآثام، ولتتوقى به كثيراً من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة: 183].
وقال صلى الله عليه وسلم: ( الصيام جُنَّة )، أي وقاية وستر
وقد ثبت من خلال الأبحاث الطبية بعض الفوائد الوقائية للصيام ضد كثير من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، ومنها على سبيل المثال – لا الحصر:
يقوى الصيام جهاز المناعة، فيقي الجسم من أمراض كثيرة، حيث يتحسن المؤشر الوظيفي للخلايا الليمفاوية عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسؤولة عن المناعة النوعية(T. lymphocyes)
زيادة كبيرة، كما ترتفع بعض أنواع الأجسام المضادة في الجسم، وتنشط الردود المناعية نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة.
ومن الفوائد أيضاً: الوقاية من مرض السمنة وأخطارها، حيث إنه من المعتقد أن السمنة تنتج عن خلل في تمثيل الغذاء، فقد تنتج من ضغوط بيئية أو نفسية أو اجتماعية، وقد تتضافر هذه العوامل جميعاً في حدوثها، وقد يؤدي الاضطراب النفسي إلى حدوث خلل في التمثيل الغذائي... وكل هذه العوامل، التي يمكن أن تنجم عنها السمنة، يمكن الوقاية منها بالصوم من خلال الاستقرار النفسي والعقلي الذي يتحقق بالصوم نتيجة للجو الإيماني الذي يحيط الصائم وكثرة العبادة والذكر، وقراءة القرآن، والبعد عن الانفعال والتوتر، وضبط النوازع والرغبات، وتوجيه الطاقات النفسية والجسمية توجيهاً إيجابياً نافعاً.
1- يقي الصيام الجسم من تكون حصيات الكُلى، إذ يرفع معدل الصوديوم في الدم فيمنع تبلور أملاح الكالسيوم، كما أن زيادة مادة البولينا في البول تساعد في عدم ترب أملاح البول، التي تكون حصيات المسالك البولية
2- يقي الصيام الجسم من أخطار المسموم المتراكمة في خلاياه، وبين أنسجته من جراء تناول الأطعمة – وخصوصاً المحفوظة والمصنعة منها – وتناول الأدوية واستنشاق الهواء الملوث بهذه السموم
3- يخفف الصيام ويهدئ ثورة الغريزة الجنسية، وخصوصاً عند الشباب وبذلك يقي الجسم من الاضطرابات النفسية والجسمية، والانحرافات السلوكية، وذلك تحقيقاً للإعجاز في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء )، إذا التزم الشاب الصيام وأكثر منه، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فعليه بالصوم )، أي فليكثر من الصوم.. وقد أُجرِيَ بحثٌ عن تأثير الصيام المتواصل على الغدد الجنسية وكانت له نتائج إيجابية، وسلط الضوء على وجه الإعجاز في هذا الحديث الشريف. وقد وجد أن الإكثار من الصوم، مع الاعتدال في الطعام والشراب وبذل الجهد المعتاد، يقترب من الصيام المتواصل، ويجني الشاب فائدته في تثبيط غرائزه المتأججة بيسر، كما لا يتعرض إلى أخطار هذا النوع من الصيام، وهذا البحث يجلي بوضوح الإعجاز في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( فإنه له وجاء) من وجهين:
الأول: الإشارة إلى أن الخصيتين هما مكان إنتاج عوامل الإثارة الجنسية حيث أن معنى الوجا أن ترض أنثيا الفحل ( خصيتيه) رضاً شديداً، يُذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي
وقد ثبت أن في الخصيتين خلايا متخصصة في إنتاج هرمون التيستوستيرون (Testosterone)
وهو الهرمون المحرك والمثير للرغبة الجنسية، وأن قطع الخصيتين ( الخصى) يُذهب هذه الرغبة، ويخمدها تماماً.
الثاني:أن الإكثار من الصوم مثبط للرغبة الجنسية وكابح لها، وقد ثبت في هذا البحث هبوط مستوى هرمون الذكورة ( التيستوستيرون) هبوطاً كبيراً أثناء الصيام المتواصل، بل وبعد إعادة التغذية بثلاثة أيام، ثم ارتفع ارتفاعاً كبيراً بعد ذلك، وهذا يؤكد أن الصيام له القدرة على كبح الرغبة الجنسية مع تحسينها بعد ذلك، وهذا يؤكد فائدة الصوم في زيادة الخصوبة عند الرجل بعد الإفطار.
* الوجه الثاني: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }
بعد أن أخبرنا الله سبحانه وتعالى، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم أن الصيام يحقق لنا وقاية من العلل الجسمية والنفسية، ويشكل حاجزاً وستراً لنا من عقاب الله، أخبرنا جل في علاه أن الصيام خيراً ليس للأصحاء المقيمين فقط، بل وللمرضى والمسافرين أيضاً والذين يستطيعون الصوم بمشقة، ككبار السن ومن في حكمهم. قال تعالى: { أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 184]. أي: فضيلة الصوم وفوائده، وذلك لعموم اللفظ في قوله تعالى: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }. وقد تجلت هذه الفوائد واستقر خبرها في زماننا هذا، لمن أوجب الله عليهم الصيام، ولمن أطاقوه من أهل ارخص الذين يستطيعون تناول وجبتي الفطور والسحور كالأصحاء.
بعض الأمراض الخطرة التي كان يخشى معها من الصيام:
· كان – وما زال – الأطباء يعتقدون أن الصيام يؤثر على مرضى المسالك البولية، وخصوصاً الذين يعانون من تكوين الحصيات، أو الذين يعانون من فشل كلوي، فينصحون مرضاهم بالفطر وتناول كميات كبيرة من السوائل.
· وقد ثبت خلاف ذلك، إذ ربما كان الصيام سبباً في عدم تكوين بعض الحصيات وإذابة بعض الأملاح، ولم يؤثر الصيام مطلقاً حتى على من يعانون أخطر أمراض الجهاز البولي، وهو مرض الفشل الكلوي مع الغسيل المتكرر
· كان يعتقد أن الفقدان النسبي لسوائل الجسم وانخفاض عدد ضربات القلب وزيادة الإجهاد أثناء الصوم يؤثر تأثيراً سلبياً على التحكم في منع تجلط الدم، وهو من أخطر الأمراض، وقد ثبت أن الصيام الإسلامي لا يؤثر على ذلك في المرضى الذين يتناولون الجرعات المحددة من العلاج
· ثبت أن الصيام لا يشكل خطراً على معظم مرضى السكر، إن لم يكن يفيد الكثيرين منهم
بعض أمراض التي يعالجها الصيام:
يعالج الصيام عدداً من الأمراض الخطيرة من أهمها:
1- الأمراض الناتجة عن السمنة، كمرض تصلب الشرايين وضغط الدم وبعض أمراض القلب
2- بعض أمراض الدورة الدموية الطرفية، مثل مرض الرينود (Rynaud`s diseade) ومرض برجر
3- يعالج الصيام المتواصل مرض التهاب المفاصل المزمن ( الروماتويد)
4- يعدل الصيام الإسلامي من ارتفاع حموضة المعدة، وبالتالي يساعد في التئام قرحة المعدة مع العلاج المناسب
5- لا يسبب الصيام أي خطر على المرضعات أو الحوامل، ولا يغير من التركيب الكيميائي أو التبدلات الاستقلابية في الجسم عند المرضعات، وخلال الشهور الأولى والمتوسطة من الحمل
فوائد أخرى للصوم:
1- يُمَكّن الصيام آليات الهضم والامتصاص – في الجهاز الهضمي وملحقاته – من أداء وظائفها على أتم وأكمل وجه، وذلك بعدم إدخال الطعام والشراب على الوجبة الغذائية أثناء هضمها وامتصاصها، كما يحقق الصيام راحة فسيولوجية للجهاز الهضمي وملحقاته، وذلك بمنع تناول الطعام والشراب لفترة زمنية تتراوح من 9-11 ساعة بعد امتصاص الغذاء، كما تستريح آليات الامتصاص في الأمعاء طوال هذه الفترة من الصيام
وتتمكن الانقباضات الخاصة (Motor Complex Migrating ) بتنظيف الأمعاء من عملها المستمر، دون توقف
2- يُمكّن الصيام الغدد الصماء ذات العلاقة بعمليات الاستقلاب، في فترة ما بعد الامتصاص، من أداء وظائفها في تنظيم وإفراز هرموناتها الحيوية على أتم حال، وذلك بتنشيط آليات التثبيط والتنبيه لها يومياً، ولفترة دورية ثابتة، ومتغيرة طوال العام، مثل هرمونيّ: النمو والإنسولين – كهرمونات بناء من ناحية – وهو موئي: الجلوكاجون والكروتيزول، كهرمونات هدم من ناحية أخرى، والذي يتوقف على توازنها الدقيق تركيز الأحماض الأمينية في الدم، توازن الاستقلاب
3- ينشط الصيام آليات الاستقلاب أو التمثيل الغذائي ي البناء والهدم للجلوكوز والدهون والبروتينات في الخلايا، لتقوم بوظائفها على أكمل وجه.
4- أما إذا اقتصر الجسم على البناء فقط، وكان همه التخزين للغذاء في داخله، فإن آليات البناء تغلب آليات الهدم، فيعترى الأخيرة – لعدم استعمالها بكامل طاقتها – وهن تدريجي تظهر ملامحه عند تعرض الجسم لشدة مفاجئة بانقطاع الطعام عنه في الصحة أو المرض، فقد لا يستطيع هذا الإنسان مواصلة حياته، أو مقاومة مرضه
5- يحسن الصيام خصوبة المرأة والرجل، على السواء
6- يستفيد الجسم بالطاقة وتحسين القدرة على التعليم وتقوية الذاكرة
7- تتهدم الخلايا المريضة والضعيفة في الجسم عندما يتغلب الهدم على البناء أثناء الصيام، وتتجدد الخلايا أثناء مرحلة البناء
8- كذلك، فإن أداء الصيام الإسلامي طاعة لله وخشوعاً له ورجاء فيما عنده سبحانه وتعالى من والأجر والمثوبة، لعمل ذو فائدة جمة لنفس الإنسان وجسمه، حيث يبث في النفس السكينة والطمأنينة.. وينعكس هذا على آليات الاستقلاب. فيجعلها تتم في أوفق وأيسر وأنفع السبل، مما يعود بالنفع والفائدة على الجسم
إن الصيام، كاقتناع فكري وممارسة عملية، يقوى لدى الإنسان كثيراً من جوانبه النفسية، فيقوى لديه الصبر والجلد والإرادة وضبط النوازع والرغبات، ويضفي على نفسه السكينة والرضا والفرح... وقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ).
9- ثبت بالدليل العلمي القاطع أن الصيام الإسلامي ليس له أي تأثير سلبي على الأداء العضلي وتحمل المجهود البدني، بل بالعكس فلقد أظهرت نتائج البحث القيم الذي أجراه الدكتور أحمد القاضي وزملاؤه بالولايات المتحدة الأمريكية أن درجة تحمل المجهود البدني – وبالتالي كفاءة الأداء العضلي – قد ازداد بنسبة 200% عند 30% من أفراد التجربة و7% عند 40% منهم، وتحسنت سرعة دقات القلب بمقدار 6% وتحسنت حصيلة ضغط الدم مضروباً في سرعة النبض بمقدار 12%، وتحسنت درجة الشعور بضيق التنفس بمقدار 9%... كما تحسنت درجة الشعور بإرهاق الساقين بمقدار 11% وهذا يبطل المفهوم الشائع عند كثير من الناس من أن الصيام يضعف المجهود البدني ويؤثر على النشاط، فيقضون معظم النهار في النوم والكسل.
* الوجه الثالث يسر الصيام الإسلامي وسهولته:
تشير الدراسات العلمية المحققة، في وظائف أعضاء الجسم، أثناء مراحل التجويع، إلى يُسر الصيام الإسلامي وسهولته، تحقيقاً لقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185]. وفي تفسير هذه الآية قال الرازي: إن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر، وما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ما أوجب هذا القليل على المريض ولا على المسافر
كما يتجلى يسر الصيام الإسلامي في إمداد الجسم بجميع احتياجاته الغذائية. وعدم حرمانه من كل ما هو لازم ومفيد له، فالإنسان في هذا الصيام يمتنع عن الطعام والشراب فترة زمنية محدودة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وله حرية المطعم والمشرب من جميع الأغذية والأشربة المباحة ليلاً، ولا يعتبر الصيام الإسلامي بهذا تغييراً لمواعيد تناول الطعام والشراب فحسب، فلم يفرض الله سبحانه الانقطاع الكلي عن الطعام مدة طويلة، أو حتى لمدة يوم وليلة، تيسيراً وتخفيفاً على أمة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وقد تجلى هذا اليسر بعد تقدم وسائل المعرفة والتقنية في هذا العصر فقد قسمت المراجع الطبية التجويع إلى ثلاث مراحل: مراحل مبكرة، وثانية متوسطة، وثالثة طويلة الأجل
وتقع المرحلة المبكرة بعد نهاية فترة امتصاص آخر وجبة ( أي عبد حوالي 5 ساعات من الأكل) وحتى نهاية فترة ما بعد الامتصاص، والتي تتراوح مدتها حوالي 12 ساعة، وقد تمتد إلى 40 ساعة عند بعض العلماء، فهذه الفترة يقع الصيام الإسلامي، كما يقع في فترة امتصاص الغذاء، وهذه الفترة من الانقطاع عن الطعام آمنة تماماً المقاييس العلمية، فالجلوكوز هو الوقود الوحيد للمخ، والدهون تتأكسد بالقدر الذي يولد أجساماً كيتونية بالدم أثناء هذه الفترة، كما لا يستهلك البروتين في إنتاج الطاقة بالقدر الذي يحدث خللاً في التوازن النتروجيني في الجسم. مما حدا ببعض العلماء أن يسقط فترة ما بعد الامتصاص من مراحل التجويع أصلاً، وهذه الحقيقة تجعل الصيام الإسلامي متفرداً في يسره وسهولته بعكس مراحل التجويع الأخرى.
من خلال عرض الحقائق السابقة، ندرك أن مدة الصيام الإسلامي والتي تتراوح من 12-16 ساعة في المتوسط، يقع جزء منها في فترة الامتصاص، ويقع معظمها في فترة ما بعد الامتصاص، ويتوفر فيها تنشيط جميع آليات الامتصاص والاستقلاب بتوازن، فتنشط آلية تحلل الجليكوجين وأكسدة الدهون وتحلها وتحل البروتين وتكوين الجلوكوز الجديد منه، ولا يحدث للجسم البشري أي خلل في أي وظيفة من وظائفه، فلا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد أجساماً كينونية تضر بالجسم، ولا يحدث توازن نتروجيني سلبي توازن استقلاب البروتين، ويعتمد المخ البشري وخلايا الدم الحمراء والجهاز العصبي على الجلوكوز وحده لحصول منه على الطاقة.
بينما لا يقف التجويع أو الصيام الطبي – القصير والطويل منه – عند تنشيط هذه الآليات، بل يشتد حتى يحدث خللاً في بعض وظائف الجسم، ويتيح الصيام الإسلامي تمثيلاً غذائياً فريداً، إذ يشتمل على مرحلتي البناء والهدم، فبعد وجبتي الإفطار والسحور، يبدأ البناء للمركبات الهامة في الخلايا، وتجديد المواد المختزنة – والتي استهلكت في إنتاج الطاقة – وبعد فترة امتصاص وجبة السحور يبدأ الهدم فيتحلل المخزون الغذائي من الجليكوجين والدهون ليمد الجسم بالطاقة اللازمة، أثناء الحركة والنشاط في نهار الصيام
لذلك كان حث النبي صلى الله عليه وسلم وتأكيده على ضرورة تناول وجبة السحور، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسحروا.. فإن في السحور بركة) متفق عليه. وذلك لإمداد الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة مقدارها 4 ساعات، محسوبة من زمن الانقطاع عن الطعام.
وبهذا أيضاً يمكن تقليص فترة ما بعد الامتصاص إلى أقل زمن ممكن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على تعجيل الفطر حيث قال: ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) متفق عليه... وتأخير السحور، فقد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قيل: كم كان ينهما ؟ قال: خمسون آية) متفق عليه. وهذا من شأنه تقليص فترة الصيام – أيضاً – إلى أقل حد ممكن، حتى لا يتجاوز فترة ما بعد الامتصاص كلما أمكن، وبالتالي، فإن الصيام الإسلامي لا يسبب شدة، ولا يشكل ضغطاً نفسياً ضاراً على الجسم البشري، بحال من الأحوال، وبناء على هذه الحقائق يمكننا أن نؤكد أن الذي يتوقف أثناء الصيام هو عمليات الهضم والامتصاص وليست عمليات التغذية، فخلايا الجسم تعمل بصورة طبيعية، وتحصل على جميع احتياجاتها اللازمة لها – من هذا المخزون بعد تحلله – والذي يعتبر هضماً داخل الخلية، فيتحول الجليكوجين إلى سكر الجلوكوز، والدسم والبروتينات إلى أحماض دهنية وأحماض أمينية، وذلك بفعل شبكة معقدة من الإنزيمات والتفاعلات الكيميائية الحيوية الدقيقة، والتي يقف الإنسان أمامها مشدوهاً معترفاً بجلال الله وعلمه وعظيم قدرته وإحكام صنعه.
فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم أن في الصيام وقاية للإنسان من أضرار نفسية وجسدية؟ ومن أخبره أن فيه منافع وفوائد يجنيها الأصحاء؟ بل ومن يستطيع الصيام من المرضى وأصحاب الأعذار !! ومن أخبره صلى الله عليه وسلم بأن الصيام سهل ميسور لا يضر بالجسم ولا يجهد النفس ؟ ومن أطلعه على أن كثرة الصوم تثبط الرغبة الجنسية ؟ وتخفق من حدتها وثورتها، خصوصاً عند الشباب !! وخصوصاً أنه نشأ في بيئة لا تعرف هذا الصيام ولا تمارسه.
الصيام والتخلص من السموم:
يتعرض الجسم البشري لكثير من المواد الضارة والسموم التي قد تتراكم في أنسجته، وأغلب هذه المواد يأتي للجسم عبر الغذاء الذي يتناوله بكثرة، وخصوصاً في هذا العصر الذي عمت فيه الرفاهية مجتمعات كثيرة، وحدث وفر هائل في الأطعمة بأنواعها المختلفة، وتقدمت وسائل التقنية في تحسينها وتهيئتها وإغراء الناس بها، فانكب الناس يلتهمونها بنهم، مما كان له أكبر الأثر في إحداث الخل لكثير من العمليات الحيوية داخل خلايا الجسم، وظهر – نتيجة لذلك – ما يسمى بأمراض الحضارة: كالسمنة، وتصلب الشرايين، وارتفاع الضغط الدموي وجلطات القلب، والمخ، والرئة، ومرض السرطان، وأمراض الحساسية والمناعة.
وتذكر المراجع الطبية:أن جميع الأطعمة تقريباً – في هذا الزمان – تحتوي على كميات قليلة من المواد السامة، وهذه المواد تضاف للطعام أثناء إعداده، أو حفظه، كالنكهات الألوان ومضادات الأكسدة والمواد الحافظة، أو الإضافات الكيميائية للنبات أو الحيوان: كمنشطات النمو والمضادات الحيوية والمخصبات أو مشتقاتها، وتحتوي بعض النباتات في تركيبها على بعض المواد الضارة... كما أن عدداً كبيراً من الأطعمة يحتوي على نسبة من الكائنات الدقيقة، التي تفرز سمومها فيها وتعرضها للتلوث
هذا بالإضافة إلى السموم التي نستنشقها مع الهواء من عوادم السيارات، وغازات المصانع، وسموم الأدوية التي يتناولها الناس بغير ضوابط.. إلى غير ذلك من سموم الكائنات الدقيقة التي تقطن في أجسامنا بأعداد تفوق الوصف والحصر... وأخيراً مخلفات الاحتراق الداخلي للخلايا، والتي تسبح في الدم، كغاز ثاني أكسيد الكربون واليوريا والكرياتينين والأمونيا والكبريتات وحمض اليوريا.. إلخ، ومخلفات الغذاء المهضوم، والغازات السامة التي تنتج من تخمره وتعفنه، مثل: الأندول والسكاتول والفينول
كل هذه السموم جعل الله سبحانه وتعالى للجسم منها فرجاً ومخرجاً، فيقوم الكبد – وهو الجهاز الرئيسي في تنظيف الجسم من السموم – بإبطال مفعول كثير من هذه المواد السامة، بل قل يحولها إلى مواد نافعة، مثل: اليوريا والكرياتين وأملاح الأمونيا، غير أن للكبد جهداً وطاقة محدودة، وقد يعتري خلاياه بعض الخلل لأسباب مرضية، أو لأسباب طبيعية، كتقدم السن، فيترسب جزء من هذه المواد السامة في أنسجة الجسم، وخصوصاً في المخازن الدهنية، وتذكر المراجع الطبية أن الكبد يقوم بتحويل مجموعة كبيرة من الجزيئات السمية، والتي غالباً ما تقبل الذوبان في الشحوم إلى جزئيات غير سامة تذوب في الماء، يمكن أن يفرزها الكبد عن طريق الجهاز الهضمي، أو قد تخرج عن طريق الكلى.
وفي الصيام تتحول كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد، حتى تُؤكسد ويُنتفع بها، وتُستخرج منها السموم الذاتية فيها، وتُزالُ سُميتها ويُتخلص منها مع نفايات الجسد، كما أن الدهون المتجمعة أثناء الصيام في الكبد – والقادمة من مخازنها المختلفة – يساعد ما فيها من الكوليستيرول على التحكم وزيادة إنتاج مركبات الصفراء في الكبد، والتي بدورها تقوم بإذابة مثل هذه المواد السامة والتخلص منها مع البراز.
ويؤدي الصيام خدمة جليلة للخلايا الكبدية، بأكسدته للأحماض الدهنية، فيخلص هذه الخلايا من مخزونها من الدهون، وبالتالي تنشط هذه الخلايا، وتقوم بدورها خير قيام، فتعادل كثيراً من المواد السامة – بإضافة حمض الكبريت أو حمض الجلوكونيك – حتى تصبح غير فعالة ويتخلص منها الجسم، كما يقوم الكبد بالتهام أية مواد دقيقة، كدقائق الكربون التي تصل إلى الدم ببلعمة جزيئاتها، بواسطة خلايا خاصة تسمى خلايا ( كوبفر)، والتي تبطن الجيوب الكبدية ويتم إفرازها مع الصفراء، وفي أثناء الصيام يكون نشاط وكفاءة هذه الخلايا في أعلى معدل كفاءتها للقيام بوظائفها، فتقوم بالتهام البكتريا بعد أن تهاجمها الأجسام المضادة المتراصة
وبما أن عمليات الهدم (Catabolism)
في الكبد أثناء الصيام تغلب علميات البناء (anabolism)
في التمثيل الغذائي، فإن فرصة طرح السموم المتراكمة في خلايا الجسم تزداد خلال هذه الفترة، ويزداد أيضاً نشاط الخلايا الكبدية في إزالة سمية كثير من المواد السامة، وهكذا يعتبر الصيام شهادة صحية لأجهزة الجسم بالسلامة.
يقول الدكتور ماك فادون – وهو من الأطباء العالميين الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره – إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم، وإن لم يكن مريضاً لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض وتثقله، فيقل نشاطه، فإذا صام الإنسان تخلص من أعباء هذه السموم، وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل.
هل من الأفضل في الصيام: الحركة أم السكون ؟:
ذكرت المراجع الطبية
إن الحركة العضلية في فترة ما بعد امتصاص الغذاء – أثناء الصوم – تؤكسد مجموعة خاصة من الأحماض الأمينية ( ليوسين وأيسوليوسين والفالين)، وتسمى الأحماض ذات السلسلة المتفرعة (Br CAAs). وبعد أن تحصل الخلايا العضلية على الطاقة المنبعثة من هذا التأكسد يتكون داخل هذه الخلايا حامضان أمينيان في غاية الأهمية، وهما حمضا الألانين والجلوتامين، ويعتبر الأول وقوداً أساسياً في تصنيع الجلوكوز الجديد في الكبد، ويدخل الثاني في تصنيع الأحماض النووية، ويتحول جزء منه إلى الحمض الأول. كما يتكون أثناء النشاط والحركة حمضاً البيروفيت واللاكتيت، وذلك من أكسدة الجلوكوز في الخلايا العضلية، وهما الحامضان اللذان يعتبران أيضاً الوقود الأولى لتصنيع جلوكوز الكبد.
تتأكسد الأحماض الأمينية ذات السلسلة المتفرعة أساساً في العضلات، حيث يوجد الإنزيم الخاص بتحويل مجموعة الأمين (Amino Trans - ferase)بكثرة في جهازي الاحتراق (ميتوكوندريا) والسيتوزول (Cytosol) في الخلايا العضلية. وتزداد هذه الأكسدة بالحركة، لذلك فإن عملية تصنيع جلوكوز جديد في الكبد تزداد بازدياد الحركة العضلية، وربما تصل إلى ثلاثة أضعافها في حالة عدم الحركة
ويعتبر حمض الألانين أهم الأحماض الأمينية المتكونة في العضلات أثناء الصيام، إذ يبلغ 30 % منها، وتزيد هذه النسبة بالحركة والنشاط، ويتكون من أكسدة بعض الأحماض الأمينية ومن البيروفيت، كما يتحول هو أيضاً إلى البيروفيت – عبرة دائرة تصنيع الجلوكوز في الكبد وأكسدته في العضلات
ويستهلك الجهاز العضلي الجلوكوز القادم من الكبد ( للحصول منه على الطاقة)، فإن زادت الحركة وأصبح الجلوكوز غير كاف لإمداد العضلات بالطلاقة، حصلت على حاجتها من أكسدة الأحماض الأمينية الحرة القادمة من تحلل الدهن في الأنسجة الشحمية، فإن قلت الأحماض الدهنية حصلت العضلات على الطاقة من الأجسام الكيتونية الناتجة من أكسدة الدهون في الكبد، والذي يؤكد أن النشاط والحركة تنشط جميع عمليات الأكسدة لكل المركبات التي تمد الجسم بالطاقة، وتنشط عملية تحلل الدهون، كما تنشط عملية تصنيع الجلوكوز بالكبد، من الجليسرول الناتج عن تحلل الدهون في النسيج الشحمي، ومن اللاكتيت الناتج من أكسدة الجلوكوز في العضلات.
ولذلك فالحركة أثناء الصيام الإسلامي تعتبر عملاً إيجابياً وحيوياً يزيد من كفاءة عمل الكبد والعضلات، ويخلص الجسم من الشحوم، ويحميه من أخطار زيادة الأجسام الكيتونية، كما أن الحركة العضلية تثبط تصنيع البروتين في الكبد والعضلات، وتتناسب درجة التثبيط مع قوة الحركة ومدتها، وهذا بدوره يوفر طاقة هائلة تستخدم في تكوين البروتين، حيث تحتاج كل رابطة من الأحماض الأمينية إلى مخزون الطاقة في خمسة جزيئات للأدينوزين والجوانين ثلاثي الفوسفات (ATP & CTP)، وإذا كان كل جزيء من هذين المركبين يحتوي على كمية من الطاقة تتراوح من 5-10 كيلو كالورى، وإذا علمنا أن أبسط أنواع البروتين لا يحتوي الجزيء منه على أقل من 100 حمض أميني، فكم تكون إذاً تلك الطاقة المتوفرة من تثبيط تكوين مجموعة البروتينات المختلفة بأنواعها المتعددة؟
وفي أثناء الحركة، أيضاً، يستخدم الجلوكوز والأحماض الدهنية والأحماض الأمينية في إنتاج الطاقة للخلايا العضلية، وهذا بدوره يؤدي إلى تنبيه مركز الأكل في الوساد تحت البصري (Hypothalamus)(42)، وذلك لوجود علاقة عكسية (Feed Back)بين هذه المواد في الدم ودرجة التشبع وتنبيه مركز الأكل في الدماغ
لذلك فإن الحركة العضلية تنبه مركز الأكل وتفتح الشهية للطعام.
كما أن الحركة، والنشاط العضلي الزائد، يحلل الجليكوجين إلى جلوكوز في غياب الأكسجين، وينتج حمض اللاكتيك ممن جراء التمثيل الغذائي للسكر الناتج، وهو الحمض الذي يمر إلى الدم ويتحول بدوره إلى جلوكوز، وجليكوجين بواسطة الكبد... ففي العضلات لا يتحلل الجليكوجين إلى جلوكوز في حالة السكون، كما في الكبد، وذلك لغياب إنزيم فوسفاتاز – 6 – الجلوكوز (Glucose 6 phosphatase).فالحركة إذن عامل هام لتنشيط استقلاب المخزون من الجليكوجين العضلي إلى جلوكوز، وتقديمه للأنسجة التي تعتمد عليه كالمخ والجهاز العصبي وخلايا الدم ونقيُ العظام ولب الكلى
ويمكن كذلك، أن تكون للحركة العضلية علاقة بتجديد الخلايا المبطنة لأمعاء، فيتحسن الهضم والامتصاص للمواد الغذائية، إذ تحتاج هذه الخلايا لحمض الجلوتامين لتصنيع الأحماض النووية (Nucleotide Synthesis)، وهو الحمض الذي تنتجه العضلات بكثرة أثناء الحركة
ويتجدد شباب الخلايا المبطنة للأمعاء (Mucosal Cells)كل يومين إلى 6 أيام، وتفقد يومياً 17 بليون خلية، فهل يمكن أن تكون الحركة العضلية علاجاً لاضطرابات الهضم وسوء الامتصاص ؟؟
إن فلسفة الصيام مبنية على ترك الطعام والشراب، وتشجيع آليات الهدم ( العمليات الكيميائية الحيوية) أساساً في عملية التمثيل الغذائي، والنهار هو الوقت الذي تزداد فيه عمليات التمثيل الغذائي، وخصوصاً عمليات الهدم، لأنه هو وقت النشاط والحركة واستهلاك الطاقات في أعمال المعاش... وقد هيأ الله سبحانه وتعالى للجسم البشري ساعة بيولوجية تنظم هرمونات الغدد الصماء، وكثيراً من آليات التمثيل الغذائي، بما يتوافق ونشاط هذه الآليات أثناء النهار، ولنضرب مثلاً بهرمون الكورتيزول وهرمون الأدرينالين، فالأول يكون في أقصى زيادة له عند التاسعة صباحاً تقريباً – في الشخص الذي ينام ليلاً – ويقل تدريجياً حتى يصل إلى خُمس معدل تركيزه عند منتصف الليل. وهذا الهرمون هو من هرمونات الهدم، إذ يعمل على تكسير البروتينات إلى أحماض أمينية، والثاني هرمون الأدرينالين، إذ يصل إلى أقصى معدل له في نهاية فترتي الصباح والظهيرة ( حوالي التاسعة صباحاُ والثانية ظهراً) وهذا الهرمون برفع ممل تركيز الجلوكوز والأحماض الدهنية، ويزيد من معدل هدمها، كما يساعد في تثبيط تكوين البروتين وأكسدة الأحماض الأمينية في العضلات ويحرك الألانين إلى الكبد
لتكوين جلوكوز جديد فيه وتقديم المزيد من الطاقة لجسم – كما ينبه الجهاز العصبي... لذلك فقد يكون هذا أحد الأسرار التي جعل الله من أجلها الصيام في النهار، وقت النشاط والحركة والسعي في مناكب الأرض، ولم يجعله بالليل وقت السكون والراحة !
من أجل هذا – يمكننا أن نقول – وبكل ثقة -: إن النشاط والحركة أثناء الصيام يوفر لجسيم من الجلوكوز المصنع أو المخزون في الكبد، وهو الوقود المثالي لإمداد المخ وكرات الدم الحمراء ونقي العظام والجهاز العصبي بالطاقة اللازمة، لتجعلها أكثر كفاءة لأداء وظائفها، كما توفر الحركة طاقة للجسم البشري تستخدم في عملياته الحيوية، فهي تثبط تكون البروتين من الأحماض الأمينية، وتزيد من تنشيط آليات الهدم أثناء النهار، فتستهلك الطاقات المختزنة وتنظف المخازن من السموم التي يمكن أن تكون متماسكة أو ذاتية في المركبات الدهنية أو الأمينية... وإن الكسل والخمول والنوم أثناء نهار الصيام ليعطل الحصول على كل هذه الفوائد، بل قد يصيب صاحبه بكثير من العلل ويجعله أكثر خمولاً وتبلداً، كما أن النوم أثناء النهار والسهر طوال ليل رمضان، يؤدي إلى حدوث اضطراب عمل الساعة البيولوجية في الجسم، مما يكون له أثر سيء على الاستقلاب الغذائي داخل الخلايا.
ولقد أجريت دراسة أثبتت هذا الاضطراب على هرمون الكورتيزول، فلقد قام الدكتور محمد الحضرامي في كلية الطب – جامعة الملك عبد العزيز – بإجراء دراسة على 10 أشخاص أصحاء مقيمين خارج المستشفى، وأظهرت الدراسة أن أربعة منهم حدث عندهم اضطراب في دورة الكوتيزول اليومية، وذلك خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر رمضان، مع انقلاب النسب المعهودة في الصباح وفي منتصف الليل. فقد لوحظ أن المستوى الصباحي قد انخفض وأن المستوى المسائي قد ارتفع، وهذا على عكس الوضع الاعتيادي اليومي، وقد عزا الباحث هذا الاضطراب إلى التغيير في العادات السلوكية عند هؤلاء الصائمين، الذين يقضون النهار في النوم، ويقضون الليل في السهر، وقد عاد الوضع الطبيعي للكورتيزول بعد 4 أسابيع من نهاية شهر الصيام، وبعد أن استقر نظام النوم ليلاً والنشاط نهاراً عند هؤلاء الأشخاص.
من أجل هذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه والمسلمون الأولون لا يفرقون في الأعمال بين أيام الصيام وغيرها، بل قد يعقدون ألوية الحرب ويخوضونها صائمين متعبدين... فهل يتحرر المسلمون من أوهام الخوف من الحركة والعمل أثناء الصيام !! وهل يهبون قائمين لله عاملين ومنتجين ومجاهدين، مقتدين بنبيهم صلى الله عليه وسلم وسلفهم الصالح رضوان الله عليهم !!
الصيام والتخلص من الشحوم:
تعتمد السمنة على الإفراط في تناول الطعام، وخصوصاً الأطعمة الغنية بالدهون، هذا بالإضافة إلى وسائل الحياة المريحة، والسمنة مشكلة واسعة الانتشار، وقد وجد أن السمنة تقترن بزيادة خطر الأمراض القلبية الوعائية، مثل: قصور القلب والسكتة القلبية ومرض الشريان التاجي ومرض انسداد الشرايين المحيطة بالقلب.
وتحدث السمنة نتيجة لاضطراب العلاقة بين ثلاثة عناصر من الطاقة وهي: الكمية المستهلكة من الطعام، والطاقة المبذولة في النشاط والحركة، والطاقة المختزنة على هيئة دهون بصفة أساسية، فالإفراط في تناول الطعام مع قلة الطاقة المبذولة في الحركة يؤدي إلى ظهور السمنة.
إن الإنسان العادي يستهلك حوالي 20 طناً من الطعام خلال حياته، وظهور نسبة 25% من الخطأ في توازن الطاقة يؤدي إلى حدوث زيادة في الوزن تبلغ 50 كجم، أو حدوث زيادة عند شخص بالغ يزن 70 كجم، فيصبح وزنه 120 كجم... وهذا من شأنه أن يبين مدى الدقة المطلوبة في تنظيم تناول الطعام للمحافظة على استقرار وزن الجسم.
ومن المعتقد أن السمنة تنجم إما عن خلل استقلابي ( خلل في التمثيل الغذائي)، أو عن ضغوط بيئية، أو اجتماعية، وقد تحدث البدانة أيضاً بسبب خلل في الغدد الصماء، أو بأسباب نفسية واجتماعية متضافرة تظهر على شكل إفراط في الأكل، وكثيراً ما يتزامن حدوث الاضطرابات الاستقلابية والضغوط البيئية بحيث يصل أحدهما الآخر، فتتفاقم الحالة.
وفي المقابل، يرى الكثير من العلماء أن الاضطراب النفسي الذي يفضي إلى الشراهة في تناول الطعام، والذي يتسبب في السمنة قد يؤدي إلى ظهور اضطرابات الرئيسية في توازن الطاقة – في حالة السمنة – على أنها عبارة التغيير في أحد العناصر، ولكن يظل واضحاً تماماً أن الإفراط في الأكل هو أحد العوامل الرئيسية في حدوث السمنة.
وهناك تغيرات كيميائية الشحمية ( نوع بيتا) في البلازما والأحماض الدهنية الحرة، ويزداد تركيز الأنسولين في الدم زيادة كبيرة، مما يؤدي إلى تضخم في البنكرياس، أو زيادة أنسجته، فيؤدي إلى زيادة إنتاج الأنسولين، الذي يتسبب في تكون الأحماض الدهنية في الكبد من المواد الكربوهيدراتية، وزيادة ترسب المواد الدهنية في الأنسجة الشحمية، وهذا يؤدي إلى ظهور أعراض ( مرض السكري) حيث تفقد مستقبلات الأنسولين – الموجودة على الأنسجة – الاستجابة للأنسولين.
لقد حاول كثيرون علاج السمنة فوضعت أنظمة غذائية كثيرة، كان أغلبها مزيفاً، وغير مبني على أسس علمية، إذ لا تعمل هذه الأنظمة إلى على فقدان كمية كبيرة نسبياً من ماء الجسم، فيعطي الانطباع بانخفاض الوزن، وبعض هذه الأنظمة أدى إلى فقدان الجسم لكمية من الدهون، لكنها أدت أيضاً إلى ظهور الأجسام الكيتونية
أما الصيام الإسلامي المثالي فيعتبر النموذج الفريد للوقاية والعلاج من السمنة في آن واحد، حيث يمثل الأكل المعتدل والامتناع عنه مع النشاط والحركة، عاملين مؤثرين في تخفيف الوزن، وذلك بزيادة معدل استقلاب الغذاء بعد وجبة السحور، وتحريك الدهن المختزن لأكسدته في إنتاج الطاقة اللازمة بعد منتصف النهار.
ويرجع العلماء حدوث الزيادة في معدل استقلاب الغذاء (BMR) بعد تناول وجبة الطعام، إلى ارتفاع الأدرينالين والنور أدرينالين، وازدياد السيالات الودية (Sympathetic discharge)،نتيجة لنشاط الجهاز العصبي الودي
وعمل القوة المتحركة النوعية (Specific Dynamic Action)، حيث يستهلك كل نوع من محتويات الطعام طاقة حتمية أثناء عمليات الغذائي. فتستهلك كمية البروتين التي يمكن أن تعطي الجسم 100 كيلو كالورى، 30 كيلو كالورى، وتستهلك نفس الكمية من الكربوهيدرات والدهون 6 ك. ك، و4 ك. ك على التوالي، ويستمر نشاط عمليات الاستقلاب لمدة 6 ساعات، أو أكثر، بعد تناول وجبة الطعام.
ويعتبر بذل الجهد العضلي من أهم الأمور التي تؤدي إلى زيادة معدل الأيض (الاستقلاب) (Metabolic rate)،وهو الذي يظل مرتفعاً، ليس أثناء الجهد العضلي فقط، ولكن بعد ذلك بفترة طويلة كافية
وبهذا يحقق الصيام الإسلامي المثالي – المتمثل في الحفاظ على وجبة السحور والاعتدال في الأكل والحركة والنشاط أثناء الصيام – نظاماً غذائياً ناجحاً في علاج السمنة، أما نظام التجويع الطويل بالانقطاع الكلي عن الطعام فيؤدي إلى هبوط الاستقلاب، نتيجة لتثبيط الجهاز الودي ( السمبثاوي) وهبوط الأدرينالين والنور أدرينالين السابح في الجسم، وهذا يفسر لماذا يهبط وزن الشخص الذي يريد تخفيف وزنه بواسطة التجويع بشدة في البداية، ثم يقل بالتدريج بعد ذلك، ويكون معظم الوزن المفقود في الأيام الأولى هو في الواقع من الماء الموجود داخل الجسم، المليء بالطاقة المختزنة والأملاح المرافقة لها
الصيام وتجدد الخلايا:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يحدث التغيير والتبديل في كل شيء وفق سنة ثابتة، وقد اقتضت هذه السنة في جسم الإنسان أن تتبدل محتوى خلاياه كل ستة أشهر على الأقل، وبعض الأنسجة تتجدد خلاياها في فترات قصيرة تعد بالأيام، وبالأسابيع، مع الاحتفاظ بالشكل الخارجي الجيني، وتتغير خلايا جسم الإنسان وتتبدل فتهرم خلايا ثم تموت وتنشأ أخرى جديدة تواصل مسيرة الحياة... هكذا باضطراد، حتى يأتي أجل الإنسان، إن عدد الخلايا التي تموت في الثانية الواحدة في جسم الإنسان يصل إلى 125 مليون خلية، وأكثر من هذا العدد يتجدد يومياً خلال مراحل النمو، ومثله في وسط العمر، ثم يقل عدد الخلايا المتجددة مع تقدم السن.
وبما أن الأحماض الأمينية هي التي تشكل البنية الأساسية في الخلايا، ففي الصيام الإسلامي تتجمع هذه الأحماض القادمة من الغذاء مع الأحماض الناتجة عن عملية الهدم، في مجمع الأحماض الأمينية في الكبد (Amino acid pool)ويحدث فيها تحول داخلي واسع النطاق وتدخل في دورة السترات (Citrate Cycle)،ويتم إعادة توزيعها بعد عملية التحول الداخلي (Interconversion)، ودمجها في جزئيات أخرى، كالبيورين (Purines)، والبيريميدين، أو البروفرين (Prophyrins)،ويصنع منها كل أنواع البروتينات الخلوية، وبروتين البلازما والهرمونات وغير ذلك من المركبات الحيوية، أما أثناء التجويع فتتحول معظم الأحماض الأمينية القادمة من العضلات – وأغلبها من نوع حمض الألانين – تتحول إلى جلوكوز الدم، وقد يستعمل جزء منها لتركيب البروتين، أو تجرى أكسدته لإنتاج الطاقة – بعد أن يتحول إلى أحماض أكسجينية (Oxoacids)
. وهكذا نرى أنه أثناء الصيام يحدث تبدل وتحول واسع النطاق داخل الأحماض الأمينية المتجمعة من الغذاء، وعمليات الهدم للخلايا، بعد خلطها وإعادة تشكيلها ثم توزيعها حسب احتياجات خلايا الجسم، وهذا يوفر لبنات جديدة للخلايا لترميم بنائها، ولرفع كفاءتها الوظيفية، مما يعود على الجسم البشرى بالصحة والنماء والعافية، وهذا لا يحدث في التجويع ( حيث الهدم المستمر لمكونات الخلايا وحيث الحرمان من الأحماض الأمينية الأساسية) فعندما تعود بعض اللبنات القديمة لإعادة الترميم تتداعى القوى، ويصير الجسم عرضة للأسقام أو الهلاك، فنقص حمض أميني أساسي واحد – يدخل في تركيب بروتين خاص – يجعل هذا البروتين لا يتكون... والأعجب من ذلك أن بقية الأحماض الأمينية التي يتكون منها هذا البروتين تتهدم وتتدمر
كما أن إمداد الجسم بالأحماض الدهنية الأساسية (Essential Fatty Acids) في الغذاء، له دور هام في تكوين الدهون الفوسفاتية (Phospholipids)والتي مع الدهن العادي (Triacylglycorol)تدخل في تركيب البروتينات الدهنية (Lipoproteins)، ويقوم النوع منخفض الكثافة جداً منها (very low density lipoprotein)بنقل الدهون الفوسفاتية والكوليسترول – من أماكن تصنيعها بالكبد – إلى جميع خلايا الجسم، لتدخل في تركيب جدر الخلايا الجديدة وتكوين بعض مركباتها الهامة، ويعرقل هذه العملية الحيوية كل من الأكل الغني جداً بالدهون وكذلك الحرمان المطلق من الغذاء – كما في حالة التجويع، حيث تتجمع كميات كبيرة من الدهون في الكبد تجعله غير قادر على تصنيع الدهون الفرسفاتية والبروتين بمعدل يكفي لتصنيع البروتين الشحمي، فلا تنتقل الدهون من الكبد إلى أنحاء الجسم لتشارك في بناء الخلايا الجديدة، وتتراكم فيه وقد تصيبه بحالة التشمع الكبدي (Fatty Liver)فتضطرب وظائفه، وينعكس هذا بالطبع على تجدد خلاياه هو أولاً، ثم على خلايا الجسم، وتقدم أجل وأعظم الخدمات في تجديد وإصلاح خلايا الجسم كله، غذ تقوم بإنتاج بروتينات البلازما كلها تقريباً (30-50جم يومياً) وتكوين الأحماض الأمينية المختلفة، وذلك بعمليات التحول الداخلي وتحويل البروتين والدهن والكربوهيدرات، كل منها للآخر، وتقديمها لخلايا الجسم بحسب احتياجاتها، وتدخل في صناعة الجلوكوز وتخزينه لحفظ تركيزه في الدم، وأكسدة الجلولكوز والأحماض الدهنية بمعدلات مرتفعة لإمداد الجسم وخلاياه بالطاقة اللازمة في البناء والتجديد إذ تحتوي كل خلية كبدية من الوحدات المولدة للطاقة (Mitochondria)
1000 وحدة تقريباً، كما تكون الخلايا الكبدية الكوليسترول والدهون والفوسفاتية التي تدخل في تركيب جدر الخلايا، وفي المركبات الدقيقة داخل الخلية وفي العديد من المركبات الكيميائية الهامة واللازمة لوظيفة الخلية...
كما تقوم خلايا الكبد بصناعة إنزيمات حيوية وهامة لخلايا الجسم، كخميرة الفوسفتاز القلوية (Alkaline Phosphatase)،والتي بدونها لا تستخدم الطاقة المتولدة من الجلوكوز والأكسجين، ولا يتم الكثير من عمليات الخمائر والهرمونات وتبادل الشوارد
فيتأثر تجدد الخلايا وتضطرب وظائفها... كما تقدم خلايا الكبد خدمة جليلة في بناء الخلايا الجديدة حيث تختزن في داخلها عدداً من المعادن والفيتامينات الهامة اللازمة لتجديد خلايا الجسم، كالحديد، والنحاس، وفيتامين أ، ب2، ب12، وفيتامين د. وتقدم خلايا الكبد، أيضاً، أعظم الخدمات لتجديد الخلايا، حيث تزيل من الجسم المواد السامة، وهي المواد التي تعرقل هذا التجديد، أو حتى تدمر الخلايا نفسها ( كما في مادة الأمونيا التي تسمم خلايا المخ وتدخل مريض تليف الكبد إلى غيبوبة تامة).
إن الصيام الإسلامي هو وحده النظام الغذائي الأمثل لتحسين الكفاءة الوظيفية للكبد، حيث يؤدي إلى مده بالأحماض الدهنية والأمينية الأساسية، خلال وجبتي الإفطار والسحور، فتتكون لبنات البروتين، والدهون الفوسفاتية والكوليسترون وغيرها لبناء الخلايا الجديدة وتنظيف خلايا الكبد من الدهون التي تجمعت فيه بعد الغذاء خلال نهار الصوم فيستحيل بذلك أن يصاب الكبد بالتشمع الكبدي، أو تضطرب وظائفه بعدم تكوين المادة الناقلة للدهون منه، وهي الدهن الشحمي منخفض الكثافة جداً، (VLDL) والذي يعرقل تكونها التجويع، أو كثرة الأكل الغني بالدهون – كما بينا، وعلى هذا، يمكن أن نستنتج أن الصيام الإسلامي يمتلك دوراً فعالاً في الحفاظ على نشاط ووظائف خلايا الكبد، وبالتالي يؤثر بدرجة كبيرة في سرعة تجدد خلايا الكبد – وكل خلايا الجسد – وهو ما لا يفعله الصيام الطبي ولا يؤدي إليه الترف في الطعام الغني بالدهون.
لماذا الإفطار على التمر ؟
عند نهاية مرحلة ما بعد الامتصاص – في نهاية يوم الصوم – يهبط مستوى تركيز الجلوكوز والإنسولين من دم الوريد البابي الكبدي، وهذا يقلل بدوره من نفاذ الجلوكوز وأخذه بواسطة خلايا الكبد والأنسجة الطرفية، كخلايا العضلات وخلايا الأعصاب، ويكون قد تحلل كل المخزون من الجليلكوجين الكبدي أو كاد، وتعتمد الأنسجة حينئذ في الحصول على الطاقة من أكسدة الأحماض الدهنية، وأكسدة الجلوكوز المصنع في الكبد من الأحماض الأمينية والجليسرول، لذلك، فإمداد الجسم السريع بالجلوكوز في هذا الوقت له فوائد جمة، إذ يرتفع تركيزه بسرعة في دم الوريد البابي الكبدي فور امتصاصه ويدخل إلى خلايا الكبد أولاً، ثم خلايا المخ والدم والجهاز العصبي والعضلي وجميع الأنسجة الأخرى، والتي هيأها الله تعالى لتكون السكريات غذاؤها الأمثل والأيسر للحصول منها على الطاقة
ويتوقف بذلك تأكسد الأحماض الدهنية، فيقطع الطريق على تكون الأجسام الكيتونية الضارة، وتزول أعراض الهمود، والضعف العام، والاضطراب البسيط في الجهاز العصبي، إن وجدت لتأكسد كميات كبيرة من الدهون – كما يوقف تناول الجلوكوز عملية تصنيع الجلوكوز في الكبد، فيتوقف هدم الأحماض الأمينية وبالتالي حفظ بروتين الجسم.
ويعتبر التمر من أغنى الأغذية بسكر الجلوكوز، وبالتالي فهو أفضل غذاء يقدم للجسم حينئذ، إذ يحتوي على نسبة عالية من السكريات، تتراوح ما بين (75 – 87%)، ويشكل الجلوكوز 55% منها، والفركتوز 45%، هذا علاوة على نسبة من البروتينات والدهون وبعض الفيتامينات وأهمها: أ، ب2، ب 12، وكذلك بعض المعادن الهامة وأهمها: الكالسيوم، والفوسفور، والبوتاسيوم والكبريت، والصوديوم، والمغنيسيوم، والكوبالت، والزنك، والفلورين، والنحاس، والمنجنيز، ونسبة من السلولوز، ويتحول الفركتوز إلى جلوكوز بسرعة فائقة ويمتص مباشرة من الجهاز الهضمي ليروي ظمأ الجسم من الطاقة، وخصوصاً تلك الأنسجة التي تعتمد عليه أساساً، كخلايا المخ والأعصاب وخلايا الدم الحمراء وخلايا نقيُ العظام.
وللفركتوز مع السليلولوز تأثير منشط للحركة الدودية للأمعاء، كما أن الفوسفور مهم في تغذية حجرات الدماغ، ويدخل في تركيب المركبات الفوسفاتية، مثال: الأدينوزين، والجوانين ثلاثي الفوسفات، وهي المواد التي تنقل الطاقة وترشد استخدامها في جميع خلايا الجسم... كما أن جميع الفيتامينات التي يحتويها التمر لها دور فعال في عمليات التمثيل الغذائي (أ، ب1، ب2، والبيوتين، والريبوفلافين... الخ)، ولها أيضاً تأثير مهدئ للأعصاب، وللمعادن الموجودة التمر دور أساسي في تكوين بعض الإنزيمات الهامة في عمليات الجسم الحيوية، ودور حيوي في عمل البعض الآخر، كما أن لها دوراً هاماً في انقباض وانبساط العضلات والتعادل الحمضي – القاعدي في الجسم، فيزول بذلك أيّ توتر عضلي أو عصبي، فيعم النشاط والهدوء والسكينة سائر البدن
وعلى العكس من ذلك، لو بدأ الإنسان إفطاره بتناول المواد البروتينية أو الدهنية، فإنها لا تمتص إلا بعد فترة طويلة من الهضم والتحلل، ولا تؤد الغرض في إسعاف الجسم بحاجته السريعة للطاقة، فضلاً على أن ارتفاع الأحماض الأمينية في الجسم نتيجة للغذاء الخالي من السكريات، أو حتى الذي يحتوي على كمية قليلة منه، يؤدي إلى هبوط سكر الدم لهذه الأسباب، يمكن أن ندرك الحكمة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإفطار على التمر ؟!
عن سلمان بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم جد فليفطر على ماء، فإنه طهور ) رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح، وعن أنس رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.
لماذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصائم بالهدوء والبعد عن الشجار !
إذا اعترى الصائم غضب وانفعال وتوتر، ازداد إفراز الأدرينالين في دمه زيادة كبيرة، وقد يصل إلى 20 أو 30 ضعفاً عن معدله العادي، وذلك أثناء الغضب الشديد أو العراك. فإن حدث هذا في أول الصوم، أثناء فترة الهضم والامتصاص، اضطرب هضم الغذاء وامتصاصه زيادة على الاضطراب العام في جميع أجهزة الجسم، وذلك لأن الأدرينالين يعمل على ارتخاء العضلات الملساء في الجهاز الهضمي، ويقلل من تقلصات المرارة، ويعمل على تضييق الأوعية الدموية الطرفية وتوسيع الأوعية التاجية، كما يرفع الضغط الدموي الشرياني ويزيد كمية الدم الواردة إلى القلب وعدد دقاته. وإن حدث الغضب والشجار في منتصف النهار، أو في آخره، أثناء فترة ما بعد الامتصاص – تحل ما تبقى من مخزون الجليكوجين في الكبد، وتحلل بروتين الجسم إلى أحماض أمينية، وتأكسد المزيد من الأحماض الدهنية، كل ذلك ليرتفع مستوى الجلوكوز في الدم، فيحترق ليمد الجسم بالطاقة اللازمة في الشجار والعراك، وبهذا تستهلك الطاقة بغير ترشيد، كما أن بعض الجلوكوز قد يفقد مع البول إن زاد عن المعدل الطبيعي، وبالتالي يفقد الجسم كمية من الطاقة الحيوية الهامة في غير فائدة تعود عليه، ويضطر إلى استهلاك الطاقة من الأحماض الدهنية التي يؤكسد المزيد منها، وقد تؤدي إلى تولد الأجسام الكيتونية الضارة في الدم.
كما أن الازدياد الشديد للأدرينالين في الدم يعمل على خروج كميات كبيرة من الماء من الجسم، بواسطة الإدرار البولي (Diuresis)،كما يرتفع معدل الأيض ( الاستقلاب) الأساسي ( Basal Metabolic Rate)عند الغضب والتوتر، نتيجة لارتفاع الأدرينال وزيادة الشد العضلي وقد يؤدي ارتفاع الأدرينالين إلى حدوث نوبات قلبية، أو إلى موت الفجاءة عند بعض الأشخاص المهيئين لذلك، وذلك نتيجة لارتفاع ضغط الدم، وارتفاع حاجة عضلة القلب للأكسجين (من جراء ازدياد سرعته)... وقد يتسبب الغضب، أيضاً في حدوث النوبات الدماغية، لدى المصابين بارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين.
كما أن ارتفاع الأدرينالين – نتيجة للضغط النفسي في حالات الغضب والتوتر – يؤدي إلى زيادة الكوليسترول في الدم، حيث يتكون من الدهن البروتيني منخفض الكثافة، والي قد يزداد أثناء الصيام، وقد ثبتت علاقته بمرض تصلب الشرايين، لهذا، ولغيره مما عرف ومما لم يعرف بعد، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الصائم بالسكينة وعدم الصخب والانفعال أو الدخول في عراك مع الآخرين... فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم ) متفق عليه.
من فوائد عدم شرب الماء في الصيام:
يشكل الماء حوالي 60-70% من وزن الجسم عند البالغين، وهو ينقسم إلى قسمين رئيسيين: قسم داخل الخلايا، وقسم خارجها، بين الخلايا، في الأنسجة والأوعية الدموية والعصارات الهضمية وغير ذلك، وبين القسمين توازن دقيق، والتغير في تركيزات الأملاح – خصوصاً الصوديوم الذي يتركز وجوده في السائل خارج الخلايا – ينبه أو يثبط عمليتين حيويتين داخل الجسم، وهما: آلية إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH)، وآلية الإحساس بالعطش، وتؤثر كل منهما في تهيئة الجسم لحفاظه على الماء داخله وقت الشدة، وذلك بتأثير الهرمون المضاد لإدرار البول على زيادة نفاذية الأنابيب الكلوية البعيدة، والأنابيب والقنوات الجامعة، حيث يسرّع امتصاص الماء ويقلل من إخراجه، كما يتحكم القسمان معاً في تركيزات الصوديوم خارج الخلايا... وكلما زاد تركيز الصوديوم زاد حفظ الماء داخل الجسم.
ولقد درس مصطفى وزملاؤه في السودان ( سنة 1987م) توازن الماء والأملاح في جسم الصائم، وأثبت هذا البحث أن الإخراج الكلي للصوديوم يقل، وخصوصاً أثناء النهار، إن تناول الماء أثناء الامتناع عن الطعام ( في الصيام) يؤدي إلى تخفيف التناضح (Osmolarity)
في السائل خارج الخلايا، وهذا بدوره يؤدي إلى تثبيط إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول، فيزداد الماء الخارج من الجسم في البول مع ما يصحبه من الصوديوم وبعض الأملاح الأخرى، وفي هذا تهديد لحياة الإنسان ( إن لم تعوض هذه الأملاح) حيث يعتبر الصوديوم عنصراً حيوياً في توطيد الجهد الكهربائي عبراً جدران الخلايا العصبية وغير العصبية... كما أن له دوراً حيوياً في تنبيه وانقباض العضلات، وعند نقصانه يصاب الإنسان بضعف عام في جسمه.
وهناك علاقة بين العطش وبين تحلل الجليكوجين: إذ يسبب العطش إفراز جرعات – تتناسب وقوة العطش – من هرموني الأنجوتنسين 2 (Angiotensin II)والهرمون القابض للأوعية الدموية (Vasopressin)، وهما اللذان يسببان تحلل الجليكوجين في إحدى مراحل تحلله بخلايا الكبد
فكلما زاد العطش زاد إفراز هذين الهرمونين بكميات كبيرة، مما يساعد في إمداد الجسم بالطاقة، وخصوصاً في نهاية اليوم.
كما أن زيادة الهرمون المضاد لإدرار البول(ADH) المستمر طوال فترة الصيام في شهر رمضان، قد يكون له دور هام في تحسين القدرة على التعلم وتقوية الذاكرة وقد ثبت ذلك على حيوانات التجارب
. لذلك فالقدرة العقلية قد تتحسن عند الصائمين، بعكس ما يعتقد عامة الناس، كما أن الحرمان من الماء أثناء الصيام، يتسبب في حدوث زيادة كبيرة في آليات تركيز البول في الكلى، مع ارتفاع القوة الأزموزية البولية ( قد يصل من 1000 إلى 12 ألف مل أزمو/ كجم ماء) وهكذا تنشط هذه الآليات الهامة لسلامة وظائف الكلى.
كما أن عدم شرب الماء خلال نهار الصيام يقلل من حجمه داخل الأوعية الدموية، وهذا بدوره يؤدي إلى تنشيط الآلية المحلية بتنظيم الأوعية وزيادة إنتاج البروستاجلاندين (Prosaglandine)، والذي له تأثيرات عديدة وبجرعات قليلة إذ أن له دوراً في حيوية ونشاط خلايا الدم الحمراء، وله دور في التحكم في تنظيم قدرة هذه الخلايا لتعبر من خلال جدران الشعيرات الدموية... وبعض أنواعه له دور في تقليل حموضة المعدة، ومن ثم تثبيط تكون القُرح المعدية – كما ثبت في حيوانات التجارب... كما أنه له دوراً في علاج العقم، حيث يسبب تحلل الجسم الأصفر، ومن ثم فقد يؤدي دوراً في تنظيم دورة الحمل عند المرأة... كما يؤثر على عدة هرمونات داخل الجسم، فينبه إفراز هرمون الرينين، وبعض الهرمونات الأخرى، مثل الهرمون الحاث للقشرة الكظرية (SH and ACTH)وغيره... كما يزيد من قوة استجابة الغدة النخامية (Pituitary gland)
للهرمونات المفرزة من منطقة تحت الوساد في المخ.... كما يؤثر على هرمون الجلوكاجون، وهرمون الكاتيكولامين ( الأدرينالين والنورادرينالين)، وبقية الهرمونات التي تؤثر على إطلاق الأحماض الدهنية الحرة... كما يوجد البروستجلاندين في المخ، ومن ثم له تأثير في إفراز الناقلات للإشارة العصبية.. كما أنه له دوراً في التحكم في إنتاج أحادى فوسفات الأدينوزين الحلقي (CAMP)وهو الذي يزداد مستواه لأسباب عديدة... ويؤدي دوراً هاماً في تحلل الدهن المختزن.. لذلك، فإن العطش أثناء الصيام له فوائد عديدة – بطريق مباشر أو غير مباشر – نتيجة لزيادة مادة البروستجلاندين، حيث يمكن أن يحسن كفاءة خلايا الدم، ويحمي الجسم من قرحة المعدة، ويشارك في علاج العقم، ويسهل الولادة، ويحسن الذاكرة، ويحسن آليات عمل الكلى، وغير ذلك.
إن الله سبحانه وتعالى جعل للجسم البشري مقدرة على صنع الماء من خلال العمليات والتحولات الكيميائية العديدة التي تحدث في جميع خلايا الجسم، إذ يتكون أثناء عمليات أيض ( استقلاب) الغذاء وتكوين الطاقة في الكبد والكلى والمخ والدم وسائر الخلايا – تقريباً – جزئيات ماء، وقد قدر العلماء كمية هذا الماء في اليوم من ثلث إلى نصف لتر، ويسمى الماء الذاتي، أو الداخلي (Intrinsic Water)، كما خلق الله للإنسان ماء داخلاً، خلق له طعاماً داخلياً فمن نفايات أكسدة الجلوكوز يُصنّع الجلوكوز مرة أخرى، حيث يتحول كل من حمض اللاكتيك والبيروفيت ( وهما نتاج أكسدة الجلوكوز) إلى جلوكوز مرة أخرى، حيث تتوجه هذه النفايات إلى الكبد فيجعلها وقوداً لتصنيع جلوكوز جيد في الكبد، ويتكون يومياً حوالي 36 جراماً من هذا الجلوكوز الجديد من هذين الحمضين، غير الذي يتكون من الجليسرول والأحماض الأمينية
وبهذا يمكن أن ندرك سر نهي النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن إكراه مرضاه على الطعام والشراب، حيث كان الناس يظنون – وللأسف لا يزالون – أن الجسم البشري كالآلة الصماء، لا تعمل إلا بالإمداد الدائم بالغذاء، وأن في الغذاء الخارجي فقط تكمن مقاومة ضعف المرض، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يطعمهم ويسقيهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم ) رواه ابن ماجه والحاكم، وصححه هو والألباني