الأحد، فبراير 28، 2010

من أسرار الإعجاز البياني في القرآن

هناك من العلماء من يرى أن القرآن لا يحتاج إلى تفسير إلا في بعض الألفاظ الغريبة على القارئ وهذا يستدعي توضيحاً له أو تقريباً. وإلا في بعض آيات الأحكام والمجملات المبينة بالسنة وما عدا ذلك لا يحتاج إلى تفسير ولا إلى بيان أو توضيح.
ويستدل أصحاب هذا الرأي بآيات القرآن الكريم التي تدل على أنه كتاب مبين وأن آياته بينات. وأنه أنزل ليبين للناس ما اختلفوا فيه.
فكيف يحتاج هو إلى بيان وهو في حد ذاته بيان؟ قال تعالى:
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)[المائدة: 15].
وقال تعالى : (طس تلك آيات الكتاب وقرآن مبين)[الحجر: 1].
وقال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر)[القمر: 17].
ويقول ابن كثير في تفسيره: فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر.
فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له. وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة.
إن القرآن يشرح ذلك بوضوح (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)[النساء: 82].
إننا نجد في هذه الآيات المقياس الواضح الذي يبين أنه لا شيء في القرآن يتعارض مع شيء آخر فيه. فإذا وجدنا أن تفسيراً ما للقرآن يتعارض مع جزء آخر فيه. فذلك دليل في حد ذاته على أن ذلك التفسير ليس من عند الله بل من عند غير الله بكل تأكيد.
فالمقياس القرآني القطعي لاختيار أي تفسير هو أن يكون مطابقاً للدين كله كمجموعة. أما إثبات نظرية أو رأي ما باستخدام نوع معين من الآيات دون النظر إلى الآيات الأخرى أو إذا وجدت أن تفسيراً ما للدين لا يوافق القرآن كله فتأكد أنه ليس تفسيراً للقرآن. وإنما هو تفسير لأفكار ذاتية(2).
قال تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكَّر إلا أولوا الألباب)[آل عمران: 7].
إن أية قضية أو نظرية أو تفسير يجب عرضه على القرآن كله وليس على مجموعة آيات منه وتدبر مدى توافق هذا التفسير مع القرآن ككل مع الإستناد إلى السنة وأقوال الصحابة: " إن وجدت".
ونورد فيما يلي محاولة لفهم معاني بعض الألفاظ والجمل والآيات القرآنية بعد عرضها على القرآن الكريم ككل باستخدام جهاز الكمبيوتر.
وهي محاولة لفهم القرآن بالقرآن. ولقد روعي في هذه الدراسة البحث عن تكرار اللفظ أو الجملة القرآنية في القرآن كله بالإضافة إلى معرفة جو ومعاني الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ أو الجملة وكذلك الآيات التي قبلها والتي بعدها حتى يمكن الإلمام بالمعنى من جميع جوانبه.
1- الإسراء (بعبده)... والمعراج (بصاحبكم)
وردت معجزة الإسراء في آية واحدة في القرآن، وجاءت كلمة (أسرى) مرة واحدة في القرآن وكلمة (بعبده) مرة واحدة في القرآن الكريم كله.
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الإسراء: 1].
وقد وصف الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم في الإسراء بالعبودة الكاملة لله (بعبده).
ووردت معجزة المعراج في سورة واحدة هي سورة النجم:
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [النجم: 1-18].
وقد وصف الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم في المعراج، بـ(صاحبكم).
حينما نتدبر كلمة (بعبده) فإنها تعني أنه (بشر) مثلكم تعرفونه وتصاحبكم.
في حالة الإسراء ذكر الله { لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا } وفي حالة المعراج ذكر الله { لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }.
إن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أنه رغم (بشرية) الرسول فقد عرج به إلى السماوات العلى ووصل إلى سدرة المنتهى وبلغ الأفق الأعلى ثم دنا وتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى من الحضرة الإلهية، (كما سيأتي بيانه لاحقاً) ورأى من آيات ربه الكبرى.
إن بشرية الإنسان لا تنفي أنه بسلطان من الله فإنه يصل إلى أعلى عليين.
{ { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } [الرحمن: 33].
ولقد نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو من الإنس) من أقطار السماوات والأرض بسلطان من الله.
أما بالنسبة للإسراء فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } ولم يقل بنبيه أو برسوله وإنما كان كذلك لأنه أراد أن يفتح باب السريان (الإسراء) للتابعين، فأعلمنا بأن الإسراء من بساط العبودية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له كمال العبودية، فكان له كمال الإسراء، أُسري بروحه وجسمه وظاهره وباطنه، والأولياء لهم قسط من العبودية فلهم قسط من الإسراء يسري بأرواحهم لا بأجسادهم (من كتاب لطائف المنن لابن عطاء السكندري).
كذلك فإن الله لم يختم آية الإسراء بالقدرة أو بالعزة أو القوة وإنما ختمها بأنه (هو السميع البصير) وهي تعني أن الله سبحانه وتعالى قد سمع دعاء محمد صلى الله عليه وسلم وبَصُر بحالته حينما آذاه الناس وهان عليهم فأكرهم اله بمعجزة الإسراء فإن كان الناس قد بعدوا عنه فقد اقترب هو من الله.
وتعني الآية أيضاً فتوحات الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين كلما صبروا على البلاء واستقاموا على الطريقة، فإنه هو السميع البصير يقربهم إليه نجيّاً ويريهم من آياته إنه هو السميع البصير.
2- غلام حليم و غلام عليم
بشرت الملائكة إبراهيم عليه السلام بغلام حليم هو إسماعيل عليه السلام ثم بشرته بغلام عليم هو إسحاق ومن ورائه يعقوب (إسرائيل).
يقول الله سبحانه وتعالى في شأن البشرى بولادة إسماعيل عليه السلام: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } [الصافات: 101].
أي: أن صفة إسماعيل عليه السلام المميزة أنه (حليم) وهي صفة والده إبراهيم عليه السلام حيث يقول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ } [هود: 75].
ويقول الله سبحانه وتعالى في شأن البشرى بولادة إسحاق عليه السلام: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } [الذاريات: 28].
أي: أن صفة إسحاق عليه السلام المميزة هو أنه (عليم).
إسماعيل عليه السلام هو جد محمد صلى الله عليه وسلم.
وإسحاق عليه السلام هو جد بني إسرائيل.
حلم إسماعيل:
والحلم الذي هو الصفة المميزة لإسماعيل عليه السلام يعني: الصبر والإرادة والسكون والعقل السليم، وهو ضد الطيش ولو جمعنا كل مناحي الحلم فإنه يكون (التقوى) بكل معناها من حب الله وخشيته والصفح الجميل.
يصف الله إسماعيل عليه السلام في سورة مريم آية: 54، 55: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا }.
إسماعيل عليه السلام كان صادق الوعد، حينما أسلم وجهه له ساعة الذبح راضياً بقضاء الله{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الصافات: 102].
إن ذلك كان منتهى الإيمان بالله من الأب المحسن إبراهيم عليه السلام ومن الابن الصابر إسماعيل عليه السلام.
علم إسحاق ومن ورائه يعقوب (إسرائيل)
وصف الله سبحانه وتعالى إسحاق بالعلم والذي ورثه بنو إسرائيل (بنو يعقوب بن إسحاق)، وكان من المفترض أن يستخدم بنو إسرائيل هذا العلم الوراثي في حسن عبادتهم لله والتفكر في آياته.. غير أن أكثرهم استغل هذا العلم في ماديات صرفة ولم يتوجهوا إلى الله سبحانه وتعالى، بل أغرقوا أنفسهم في الماديات وظلموا أنفسهم وقد قال الله في شأن إبراهيم عليه السلام، وشأن ذريته: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } [الصافات: 109-113].
كذلك قال الله سبحانه وتعالى في شأن ذرية إبراهيم عليه السلام:
{ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [البقرة: 124].
إن الله سبحانه وتعالى بين لإبراهيم عليه السلام أن ذريته لن تكون كلها من الصالحين وأن ذلك يعتم على استجابتهم لما يحييهم بما أنزله على رسله إليهم من البينات والزبر والكتاب المبين، امتحن الله بني إسرائيل (فضلهم على العالمين) واختارهم على علم على العالمين، فكيف كانت استجابتهم لله ؟... ظلم بنو إسرائيل أنفسهم على مدى التاريخ.
وكانوا يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعصون الله فيما أمرهم وينقضون ميثاقهم مع الله... إنهم يحاربون كل من يقول لهم توجهوا بقلوبكم إلى الله واتركوا الحب الشديد لماديات وآمنوا بالله الذي ليس كمثله شيء...
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه... يتحايلون على أوامر الله حينما قال لهم لا تعتدوا في السبت، ويتشددون في أي أمر حينما قال لهم موسى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } [البقرة: 67] فاشتطوا في الأمر... استكبروا بالعلم الذي أورثوه.. ولم يؤمنوا إلا بالأشياء المادية أما الناحية الروحية... أما الحلم فقد بعدوا عنه لدرجة أنه من فرط ماديتهم قالوا لموسى عليه السلام: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ } [الأعراف: 138] كذلك فإنهم طلبوا إلهاً مادياً يلمسونه بأيديهم وصنعوا عجلاً جسدياً مادياً.. لم يقبلوا بأن ينزل لهم المن والسلوى من السماء.. ولكنهم فضلوا طعام الأرض... كل توجههم كان للأرض ولم يرفعوا رؤوسهم إلى السماء... { { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [البقرة: 61] لقد استبدلوا الأرض بالسماء استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.. وكان هو ذلك مبدأهم وحتى الآن.
إن العلم الوراثي الذي وهبه الله لبني إسرائيل واختارهم على العلامين به { { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [الدخان: 32].
وامتحنهم الله به ليعلم هل يشكرون أم يكفرون فلم يرعوا هذا العلم واتجهوا به فقط إلى الماديات وبالرغم من أنهم أصبحوا بهذا العلم الوراثي أساطين في الاقتصاد إلا أنهم استغلوه في إفساد الأرض وإفساد الذمم والربا والمكر والألاعيب وإشعال الحروب. فغضب اله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً شديداً
وبعد اختبار الله لبني إسرائيل بهذا العلم... وإظهارهم للعالمين بأنهم قوم سوء... شاء الله أن يكون خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل عليه السلام ذرية الحلم والتقوى ووهب الله له العلم المباشر من الله سبحانه وتعالى... قرآناً كريماً غير ذي عوج.. فكان المسلمون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله.. { { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110].\
الأجر مرتين والعذاب ضعفين... للقمم
يقول الله سبحانه وتعالى في الآية رقم 165 من سورة الأنعام: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }.
وضع الله للناس درجات في الحياة الدنيا لتستقيم عمارة الأرض لأنه لا يمكن أن يكون الناس كلهم في درجة واحدة.. لا يمكن أن تستقيم عمارة الأرض بجعل الناس كلهم قادة.. أو كلهم علماء.. أو كلهم في وظيفة واحدة.. لا بد من وظائف متعددة ودرجات متفاوتة.. وقد أوضح الله سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله في الآية 32 من سورة الزخرف:
{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } [الزخرف: 32].
غير أن هذا التمييز لدرجات ادنيا ليس هو تكريم وإنما هو ابتلاء واختبار { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ } [المائدة: 48]. وتكون النتيجة كما يذكرها الله سبحانه وتعالى في الآيات من 37 حتى 41 من سورة النازعات: { فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }.
إلا أن وضع الناس على درجات مختلفة في الحياة الدنيا يجعل من ذوي السلطة منهم وذي الشأن والملأ والشهرة تأثيراً كبيراً في حياة عامة الناس... فهم أولو القوة والسلطة والبطش.. كما أن أصحاب الشهرة منهم يمثلون لعامة الشعب قدوة وأنموذجاً يتطلعون إليه. فيتحدثون عنهم في مجالسهم.. ويروون القصص والحكايات.. ويتتبعون أخبارهم وكل ما يدور حولهم... ويكونون على رأس كل موضوعاتهم واهتماماتهم...
إن تأثير أي واحد من أولي الشهرة وأصحاب القمم في أي مجال يساوي تأثير آلاف أو ملايين الناس العاديين... لذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يعاملهم معاملة الناس العاديين.. إن الحسنة من الواحد منهم لا تعادل الحسنة من المرء العادي وكذلك السيئة منه لا تعادل السيئة من المرء العادي..
إن خطأ الكبير كبير... وحسنة الكبير كبيرة..
لقد وضع الله سبحانه وتعالى ميزاناً دقيقاً في آيات القرآن الكريم، إنه ميزان العدل المطلق { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [الرحمن: 7-9].
وكان الوزن هو مقياس الأجر.. والوزن هو قيمة العمل وتأثيره.
وتأتي آيات كثيرة في القرآن الكريم توضح مسؤولية ووزن أصحاب القمم والسلطة والشهرة والقيادة والأجر المقابل.. ونورد هذه الأمثلة:
نساء النبي:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب الآية 30، 31:
{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا }.
إن نساء النبي هن أمهات المؤمنين.. هن القمم.. وأحد مراجع السنة.. تأثيرهن ليس كتأثير النساء العاديات: { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } [الأحزاب: 32].
لذلك فقد كان الأجر مرتين.. والعذاب ضعفين.
المنافقون:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة الآية 101:
{ { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [التوبة: 101].
إن المنافقين تأثيرهم ووزنهم ليس تأثيراً عادياً.. إنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.. إنهم يشوّهون العقيدة ويخدعون المؤمنين.. ويضربون الأمثال السيئة للذين لم يؤمنوا بعد.. إنهم وبال على الإيمان لذلك كان لا ب من عذابهم مرتين مرة بسبب الكفر ومرة بسبب إظهار إيمان غير حقيقي....
اليهود والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القصص الآيات 52-54:
{ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }.
إن اليهود بوجه عام متعنتون في الدين.. يعلمون الحق ولا يتبعونه.. يقولون سمعنا وعصينا لذلك جاء الأمر مرتين لهؤلاء الذين جاهدوا هذه الطبيعة السيئة وانتصروا على أنفسهم.. وخرجوا من أمر اليهودية المتعنتة وصبروا على أذى بقية قومهم... واصبحوا قمماً إيمانية تبين كذاب بني إسرائيل وإصرارهم على الباطل... وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم.
القمم والكبراء في الضلال:
يقول الله سبحانه وتعالى في شأن هؤلاء القسم في الضلال والإضلال:
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } [هود: 20].
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [الأحزاب: 67-68].
{ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 38].
إن هؤلاء القمم في الضلال والإضلال يستحقون العذاب ضعفين بما لهم من تأثير في باقي الناس المعاديين وبما لهم من سطوة وقوة وقهر وبريق وإعلام وإعلان وشهرة...
قمم الضلال والإضلال... وجزاء التوبة
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان الآيات 68-70:
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }.
هؤلاء القمم الذين ضلوا وأضلوا وأفسدوا في الأرض.. أشركوا بالله.. وقتلوا النفس التي حرم الله بغير الحق، وزنوا.. ثم أفاقوا واهتدوا إلى الحق وجاهدوا أنفسهم وشهرتهم وسطوتهم وانتصروا على كل الهالات والبريق الذي يحوطهم وعلى كل الشلل والأصحاب والأخدان وحاشية السوء.. وتابوا إلى الله وأنابوا إليه وعملوا الصالحات وانتقلوا بزاوية مقدارها 180 درجة من الشمال إلى اليمين.. غفر الله لهم ذنوبهم وإسرافهم في أمرهم.. ونقل أعمالهم وسيئاتهم من الشمال إلى اليمين.. فتبدلت السيئات إلى حسنات وتضاعف أجرهم جزاء بما صبروا على شهوات النفس.... وجزاء على ما يحدثه هذا التبدل كما أفاق هؤلاء القمم.. ويرجع الناس وينيبوا إلى الله ويسلموا له... كما أسلم الكبراء...
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.. فقد كان في أول الدعوة يرجو إسلام عمر بن الخطاب وعمرو بن هشام (أبو جهل) بما لهم من أثر في الناس العاديين..
الملوك والقياصرة والأكاسرة وقمم السلطة:
في رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القياصرة والأكاسرة والتي دعاهم فيها إلى الإسلام كان صلب الرسالة هو الآتي: ( أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ).
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أثر الإسلام هؤلاء القمم في شعوبهم... وأنهم حينما يسلمون فإنهم يساعدون في إزالة الغشاوة عن أعين الناس العاديين.. ويلفتونهم إلى الحق لهم من قوة جذب وبريق.. هذا بالإضافة إلى انتصار هؤلاء القمم على أنفسهم وكبريائهم وسلطاتهم وعروشهم ومساواتهم بعامة الناس حب مبادئ الإسلام.. لذلك كان الأجر مرتين..
الأجر مرتين.. للصابرين
عندما صبر سيدنا إبراهيم عليه السلام على البلاء المبين بذبح ابنه الوحيد إسماعيل عليه السلام، بشره الله بإسحاق نبياً من الصالحين.
{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [الصافات: 112].
وبذلك أعطاه اله أجراً مرتين بما صبر على البلاء العظيم بفقد ابنه الوحيد.. فأعطاه ابناً آخر نبياً من الصالحين..
كذلك فإنه عندما صبر أيوب عليه السلام على النصب والعذاب وعلى فقد أهله وهبه الله أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى لأولي الألباب.. لقد منحه الله الأجر مرتين..
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ص: 43].
القمم بوجه عام في المجتمع:
إن القرآن الكريم يزخر بالأمثلة والنماذج التي توضح لنا عدالة الله سبحانه وتعالى في الجزاء.. إنها تحث هؤلاء القمم في السلطة وفي الإعلام وفي الإعلان وفي كافة نواحي المسؤولية.. على الانتصار على نوازع النفس البشرية والتحول إلى أصحاب اليمين ويؤجرهم مرتين لما لهم من تأثير على عامة الناس... وهذا الأجر مرتين يعني ضعف أقصى أجر يمنحه الله للناس المؤمنين العاديين.. وقد ذكر القرآن الكريم أن الله يضاعف هذا الأجر العادي أضعافاً مضاعفة. كما أن هناك رضوان من الله أكبر وبذلك يكون الأجر مرتين هو ضعف هذه المضاعفات جميعاً.. هناك أمر آخر.. إن القمم مستويات.. وأي مسؤول له تأثير في موظفيه يعتبر قمة في هذا النوع من المسؤولية كما أن أي شخص في أي مكان له أي تأثير على شخص أو أشخاص آخرين هو قمة في الموقف.. وكذلك الحال بالنسبة للأب أو الأم في الأسرة.. والمدرس في الفصل.. والمدير في الإدارة.. والرئيس في المرؤوسين.. والكاتب الذي ينشر فكره.. والممثل الذي يؤدي دوراً.. والإعلامي.. والصحفي.. والفنان.. والفنانة. والعالم والفقيه والواعظ.. الخ.
إن هؤلاء جميعاً يؤتون أجرهم مرتين حسب نصر القرآن إذا صبروا وآمنوا ورعوا الله في مسؤولياتهم.. ويضاعف لهم العذاب إذا ضلوا وأضلوا.. كما أن هؤلاء الذين أفسدوا في الأرض.. ثم عرفوا الحق وتابوا إلى الله ورجعوا عن غوايتهم وإغوائهم للناس.. فإن الله يبدل سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً..
أما هؤلاء الناس لا يملكون مصيرهم.. وليس لهم من الأمر شيء مثل (ما ملكت أيمانكم) فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب: { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } [النساء: 25].
أنزل – نزّل
أنزل: تعني الإنزال مرة واحدة أو جملة واحدة.
نزل: تعني الإنزال على مراحل أو أجزاء متفرقة.
والقرآن الكريم أنزله الله سبحانه وتعالى جملة واحدة في ليلة القدر من شهر رمضان إلى السماء الدنيا حسب الروايات المتعددة في هذا المجال وحسب ما توحي به نصوص الآيات الكريمة التي وردت في نزول القرآن الكريم.. ثم نزله سبحانه وتعالى تنزيلاً على محمد صلى الله عليه وسلم متفرقاً خلال ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة وذلك لتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك للرد على أسئلة وأمثلة المشركين وأهل الكتاب، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى في الآية 32 والآية 33 من سورة الفرقان: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }.
وإنزال القرآن الكريم جملة واحدة في ليلة واحدة ورد في الآيتين الكريمتين:
- { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر: 1].
- { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [الدخان: 3]
وفي تحديد الشهر الذي أنزل فيه القرآن جملة واحدة ورد ذلك في الآية الكريمة:
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ } [البقرة: 185].
كذلك فإن ما يؤكد إنزال القرآن الكريم جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم تنزله على مراحل من السماء الدنيا إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو ما ذكرته الجن في سورة الجن عن نزول القرآن الكريم:

{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } [الجن: 8-9].
وهذا الوصف يوضح العناية والحفظ الذي هيأه الله سبحانه وتعالى للقرآن الكريم أثناء تنزله من السماء الدنيا إلى الأرض.
كذلك فإن الله سبحانه وتعالى يذكر في الآية 210 من سورة الشعراء: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ }. والكلام هنا عن التنزيل بين السماء الدنيا والأرض حيث توجد الشياطين.
كما يقول سبحانه وتعالى في الآية 9 من سورة الحجر:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
وقد استخدم القرآن كلمة (نزلنا) بدلاً من أنزلنا) ليبين لنا أن هذا الذكر قد حفظه الله من الشياطين أثناء فترة تنزله من السماء الدنيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طوال ثلاث وعشرين سنة. كما أنه سيحفظه من شياطين الإنس والجن إلى قيام الساعة..
أما في إنزال القرآن الكريم جملة واحدة من عند الله إلى السماء الدنيا فهناك الملأ الأعلى والملائكة المطهرون ولا يحتاج الأمر إلى ذكر الحفظ لأنه لا توجد شياطين في منطقة الملأ الأعلى...
السنة والعام والحول
القرآن الكريم كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.. وإحكام الآيات يعني إحكام الألفاظ والكلمات.. إن كل كلمة قرآنية تؤدي معناها (تماماً على الذي أحسن) في الجملة القرآنية والجملة القرآنية تؤدي معناها (تماماً على الذي أحسن) في الآية القرآنية وهكذا... ليكون القرآن الكريم كتاب محكم الآيات لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
وكثير من الناس لا يجدون فرقاً في استخدام كلمات السنة والعام والحول ويعتقدون أنها كلمات مترادفة.. لو استبدلت مواقعها لما تغير معناها..
غير أن القرآن الحكيم يحدد المعنى للكلمة القرآنية بكل دقة ويوحي إلينا هذا المعنى من خلال سياق الجملة القرآنية، الآية والسورة.. وكذلك من خلال ربط الآيات القرآنية ببعضها.. فما أوجز من معنى في مكان.. يفسره الله سبحانه وتعالى لنا في مكان آخر..
وكما سبق لي أن أوضحت في هذه الدراسة أن هناك آيات قرآنية أو جملاً قرآنية يرد فيها لؤلؤة أو مفتاحاً لبيان معنى معين قد يكون معلقاً على الفهم العام وبتدبر هذه الآية القرآنية وبربطها مع الآيات القرآنية الأخرى ذات العلاقة يظهر المعنى واضحاً جلياً..
ولنتدبر بعض الآيات التي تعتبر مفاتيح لمعنى السنة والعام والتي تربط بين السنة والعام:
قال الله سبحانه وتعالى في الآية رقم 14 من سورة العنكبوت:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [العنكبوت: 14].
وقال سبحانه وتعالى في الآيات 47-49 من سورة يوسف:
{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }.
في الآيات السابقة نجد أنه حيثما ترد السنة أو السنين فذلك يعني الشدة والتعب والدأب والظلم والطول.. وعلى العكس حيثما يرد العام فذلك يعني السهولة واليسر والرخاء وقصر المدة.
ففي المثال الأول والخاص بمدة الرسالة التي قضاها نوح عليه السلام في قومه بما فيها من شدة ونصب وتكذيب واستهزاء.. ثم ما كان من يسر ورجاء لنوح عليه السلام بعد الطوفان الذي أغرق الكافرين وبعد أن عاش مع المؤمنين.. فقد ذكر القرآن الكريم أن نوحاً عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً..
أي أنه لبث في الشدة 950 سنة وفي الرخاء بعد إهلاك الكافرين الطوفان خمسين عاماً.
وفي المثال الثاني من سورة يوسف فقد جاءت{ سبع سنين } مع العمل الدءوب والجهد والتعب ثم جاءت (سبع شداد) وهي صفة للسنين مع الضنك والجدب..
أما لفظ (العام) فقد جاء مع (الغيث) و(المطر) وكثرة العلة واليسر والرخاء..
{ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }.
السنة:
حينما نرجع إلى جميع آيات القرآن الكريم التي وردت فيها (سنة) و(سنين) لوجدنا صفة الشدة والطول هي الغالبة على المعنى وقد وردت في القرآن الكريم 20 مرة نذكر بعض الأمثلة منها:
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ } [الأعراف: 130].
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } [الكهف: 11]
{ { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } [الشعراء: 205].
{ { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18].
{ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } [طـه: 40].
وهذه الآية فيها لفتة عظيمة حيث تدل على الأجل الذي قضاه موسى عليه السلام في مدين وأن هذا الأجل هو عشر حجج حينما خيّره والد الفتاة { { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ } [القصص: 27]
وقد جاءت الآية بأن موسى عليه السلام قد لبث سنين في أهل مدين وبالمعنى الخاص بالسنين وهو طول المدة فإن ذلك يعني أن موسى عليه السلام قد قضى أطول الأجلين أي عشرة سنوات.. وبالطبع فإن هذه خصوصية النبوة وهي إتمام الخير.. لاحظ معي أيها القارئ الكريم هذه الدقة في القرآن وأن أي كلمة لا تأتي عفواً.. وإنما هي الحكمة..
العام:
وردت كلمة عام وعامين في القرآن الكريم 10 مرات وهي تعني اليسر والرخاء وقلة المدة أو قصرها حسب الحالة النفسية للشخص أو الأشخاص.. ونذكر فيما يلي أمثلة من ذلك:
{ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } [التوبة: 126]
وتعني: قصر المدة التي تتم خلالها الفتنة.
{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [يوسف: 49].
وهي تعني اليسر والرجاء.
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14].
وهي تعني الحب والفرح بالوليد خلال فترة الرضاعة.
الحول:
الحول يعني العام الذي يتم فيه فعل الشيء بلا انقطاع فمعناه يختف عن معنى السنة ويختلف كذلك عن معنى العام لأن السنة والعام هي فترات زمنية يأتي خلال أي جزء منها الحدث أو الفعل وليس شرطاً أن يكون الحدث أو الفعل مستمراً خلالها، أما الحول فيكون الحدث أو الفعل فيه مستمراً بدون انقطاع.. ونذكر الآيتين اللتين ورد فيهما الحول:
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [البقرة: 240].
أن يكون المتاع طوال العام مستمراً بدون انقطاع.
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233].
وهي تعني أن الرضاعة مستمرة بلا انقطاع طوال العامين.. { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14].
من الدراسة السابقة يتبين لنا الفروق الجوهرية بين معنى السنة ومعنى العام ومعنى الحول وأنها يجب أن يتم فهمهما على النحو الصحيح حتى نتدبر آيات القرآن ونفهمها على أحسن وجه.