هذه قصه تحدث فى كثير من البيوت العربيه إقرؤها و أستنتجوا ما تشاؤن
من الصعب دائمًا تحديد النقطة التي تبدأ من عندها الأحداث.. حين تقول: بدأ كل شيء منذ.. فأنت لا تحدد البداية بدقة، إنما تحدد الوقت الذي انتبهت أنت فيه لما يحدث طيلة الوقت من حولك، وحتى هذا يخضع لقوة ذاكرتك، ولا يوجد مثال أفضل مما قاله الكاتب العظيم ماركيز، حين وصف كتب التاريخ قائلا: التاريخ ليس ما حدث حقًا.. بل ما نتذكره وكيف نحكيهمن الصعب إذن أن أحدد لكم متى بدأت ابنتي في التغيّر، لكنني سأقول إن كل شيء بدأ حين قرر زوجي السفر فجأة إلى الخليج بحثًا عن المال الذي لم يجده هناأي زوجة تعرف تلك اللحظة التي يتحول فيها الزوج من الحبيب ذي الصدر الدافئ، إلى مصدر تمويل المنزل، بل وتطالبه به إن لم يفعله هو بمفرده.. أنا أحبك نعم.. لكن هناك فواتير الماء والطعام والكهرباء والتليفون ومدرسة الطفل والملابس والمناسبات، ولن يغنيني دفء صدرك عن هذا كلهلهذا سافر زوجي لأنه أدرك أن دوره في المنزل تقلص إلى ماكينة صرف نقود، عليها ألا تضن علينا بالأوراق المالية المحببة التي تشتري السعادة الحقةمن الصعب دائمًا تحديد بداية الأحداث، لكنني سأعود بذاكرتي إلى اليوم الذي اصطحبت فيه طفلتي رنا إلى السوق لتشتري بعض الألعاب، وفي هذا حل أكيد لبكائها الدائم على اختفاء أبيها من المنزل.. هذا هو أجمل شيء في الأطفال.. قدرتهم على النسيان
رنا تبلغ من العمر تسع سنوات، وهو العمر الذي تعرفه أي أم وتمقته.. إنه الوقت الذي يتعلم فيه الطفل كيف يكون مزعجًا ومؤذيًا في الآن ذاته، وهو العمر الذي تعتاد فيه الأم ضرب طفلها في محاولة يائسة لتهذيبه، تستمر حتى يكبر هذا الطفل ويترك المنزل بلا رجعة، لكنني في هذا اليوم كنت أجرّ معي طفلة بائسة، لا تفهم سر اختفاء والدها من المنزل رغم تعلقه الشديد بها.. من المستحيل على من في عمرها أن يفهم أهمية المال، وهذه نقطة أخرى في صالح الأطفالالسخيف في الأمر أن حزن ابنتي كان صادقًا وقويًا إلى الدرجة التي جعلت كل اللعب والهدايا في نظرها، أشياء حمقاء سخيفة لا يمكن أن تخفف عنها، والأسوأ من هذا أنني.. ومع بؤسها المستمر.. بدأت أدرك حقيقة أنني أصبحت امرأة وحيدة.. امرأة بلا رجل ومسؤولة عن طفلةصحيح أنني من شجّع فكرة السفر، لكن هذا لا يمنع من أنني أفتقد وجوده.. أفتقد صوته الرجولي وهالة الأمان التي يحيط بها المنزل.. كل هذا لم يعد موجودًا لأننا نحتاج للمال اللعينوهكذا بدأ الأمر يتحول من أم تحاول الترفيه عن طفلتها إلى ثنائي بائس يجوب طرقات المدينة بلا هدف، حتى إنني قررت العودة إلى المنزل حيث يمكنني ممارسة حقي في البكاء بلا حرج، حين توقفت ابنتي فجأة أمام متجر للألعاب، وقد تعلقت عيناها بدمية محددةدمية دب مكتنز، في حجمها تقريبًا، ويحمل وجهه ابتسامة واسعة مرحبة، بينما تحدق عيناها البرتقاليتان بإصرار في وجه الجميع.. دمية عادية لا تحمل أي ابتكار، لكنها جذبت اهتمام رنا فانحنيت عليها لأقول بحنان: هل تريدينها؟هزّت رأسها الضئيل أن نعم فلم تمضِ عشر دقائق حتى كانت تحملها بين ذراعيها لنتجه بها إلى المنزل، وقد علت وجهها الملائكي –أخيرًا- ابتسامة رضا وحبورألم أقل لكم إنها طفلة، وأنها ستنسى؟!.. لكنمن يأتي لي بدب بني مكتنز يساعدني على النسيان؟*******لم ألاحظ ما يحدث في بدايته لأنني كنت مشغولةإنني الآن ألعب دور الأم والأب، وفي هذا مشقة أي مشقة.. لم أعرف حقًا كم العبء الذي كان يزيحه.. زوجي عن صدري إلا في هذه الفترة، ورغم كوني ربة منزل لا تعمل فإنني كنت أعاني الأمرين كل يوم من اللحظة التي تترك فيها رنا فراشها وحتى تعود إليهفي نهاية اليوم أجلس وحدي على الفراش أسجل وبدقة مصاريف اليوم وما تبقى من نقود وما يجب عليّ ادخاره فزوجي لن يسافر إلى الأبد.. وما يمكن اقتطاعه لحسابي الشخصي، وبعد أن أنتهي من هذا، أظل بقية الليل أرمق الفراغ الكائن جواري على الفراش، والذي كان يحتله جسد زوجي منذ أسابيع قليلةمهما حاولت المرأة فستظل أهمية وجود الرجل في حياتها حقيقة لا فرار منهاكان كل شيء يسير على ما يرام، لكنني لم أعرف أن ابنتي لم تكن تنام هي الأخرى على فراشهاما عرفته بعد ذلك أنها كانت تقضي ليلتها كلها تتحدثتتحدث بصوت خافت مرتجف إلى دميتها.. الدب المكتنز ذي العينين البرتقاليتينمتى عرفت هذه الحقيقة الجديدة؟حسنًا إنني أتذكر هذا اليوم جيدًا*******كان يوم إثنين، وكنت قد استيقظت منذ السادسة صباحًا كعادتي لأعد طعام الإفطار لرنا قبل أن أوقظها لتذهب إلى المدرسة، لكنني حين ذهبت إليها في غرفتها وجدتها جالسة على فراشها وقد بدا جليًا من عينيها المحتقنتين والإرهاق البادي على وجهها الملائكي، أنها لم تنم إطلاقًاسألتها بقلق: رنا.. هل أنت مريضة؟هزّت رأسها أن لا، فسألت: ألم تنامي جيدًا ليلة أمس؟هزّت رأسها أن لا مرة أخرى، فسألت: لماذا؟هنا ظلت رنا صامتة قليلاً كأنما تستجمع طاقتها لتجيب، ثم مدت يدها ببطء لتشير إلى دبها المكتنز دون أن تنطق بحرف، ففهمت أنا الموقف.. كنت حمقاء ولم أفهم شيئا لكني لم أعرف هذا في حينه.. وهتفت فيها: أخذت تلعبين طيلة الليل ولم تنامي.. أليس كذلك؟لم تجبني رنا هذه المرة، وبدا وكأنما قد استنفدت طاقتها كلها، فقررت أن أتركها هذا اليوم دون أن تذهب إلى المدرسة، وقلت بغيظ: إذن ارتاحي اليوم.. لا مدرسةلكنني قبل أن أخرج أخذت الدب المكتنز معي وأنا أردف: ولا لعب كذلك.. هيا.. ناميوهكذا أغلقت عليها الباب وعدت إلى غرفتي لأظفر بالنوم، وقد بدا أنني قد أحظى بساعات نوم إضافية هذا اليوم، دون أن يؤدي هذا إلى كارثةألقيت بالدب على إحدى الأرائك في ردهة المنزل، ثم ذهبت إلى غرفتي لأنام، على أن أستيقظ بعد عدة ساعات لأعد طعام الغداء ولأواصل طقوس اليوم المعتادةكان يومًا عاديًا لم يستجد فيه شيء.. رنا استيقظت عصرًا وقد بدا عليها الانتعاش، وقضت يومها في مذاكرة دروسها تحت إشرافي وفي نهاية اليوم سمحت لها بالجلوس أمام التلفاز قليلاً حتى أتت الساعة التاسعة مساءً فحملتها حملاً إلى فراشها، وأنا أقول: نامي جيدًا.. ستذهبين إلى المدرسة غدّاوبعد أن أوت إلى فراشها، عدت أنا إلى غرفتي لأواصل تسجيل مصاريف اليوم الجديد، وهي عادة غير مفيدة إطلاقًا في حالة الادخار، لكنها تقتل الوقت قتلاً وهذا ما أحتاج إليه حقًاأتذكر يومها أنني.. وحين تسلل النعاس إلى جفوني.. قررت أن أمرّ على غرفة رنا أولاً، لأتأكد من أنها تأكل أرزًا مع الملائكة كما يقولون لكني لم أكد أصل إلى باب غرفتها حتى سمعتها تتحدثتتحدث بصوت خافت مرتجف، لم أميز معه ما تقوله بالضبط، لذا دخلت على الفور لأرى ما الذي يحدث بالضبط، فوجدتها تجلس على الفراش، وقد وضعت دبها المكتنز -الذي التمعت عيناه البرتقاليتان على ضوء القمر- أمامها تتحدث إليه بخوف شديد استحال إلى فزع حين رأتنيكنت حمقاء أيها السادة، لذا فلم أفعل سوى أنني صرخت فيها وجذبت الدب من أمامها وأنا أهتف بصرامة: نامي فورًاوعلى عكس ما تخيلته، لم تقاوم، بل بدا الأمر وكأنها كانت تنتظر من يأخذ الدب من أمامها، فحملته معي خارجة من الغرفة لألقيه في الصالة مجددًالم أكن أعرف.. لم أكن أفهم.. ولهذا استمر الأمر أكثر من هذا*******هكذا اعتدت أن أحمل الدب من أمامها كل ليلة, لأتأكد من أنها ستناماعتدت أن ألقي الدب على أحد الآرائك في الصالة, ثم أنام ويمر اليوم, وفي المساء أحمل الدب مجددًا من أمام رنا في غرفتها.. ما دامت ابنتي تخشاه إلى هذا الحد, فلماذا كانت تحمله إلى غرفتها كل ليلة إذن؟!.. سؤال بديهي لكنني لم أفكر فيه قط, حتى جاء اليوم الذي دفعني للبدء في التفكير في هذا الموضوعكنت أمرّ بطقوس اليوم المعتادة, وكنت قد بلغت ذروة إرهاقي مع حلول الليل, حتى أنني قررت أنه لا داعي لتسجيل مصاريف اليوم, لكني قررت أن أمرّ على غرفة رنا للاطمئنان عليها قبل النوم, وحين دخلت عليها كانت هناك مفاجأة عجيبة بانتظاري.. في تلك الليلة بدأت القلق.. في تلك الليلة بدأت الخوفكانت رنا قد فصلت رأس دميتها عن جسدها الذي ألقته في ركن الغرفة, بينما وضعت الرأس المقيت في حجرها, تنظر إلى العينين البرتقاليتين بوجل, وتهمس محدثة رأس الدب بخوفأي طفلة التي تلعب بهذه الصورة؟لم أشعر بنفسي إلا وأنا أنتزع الرأس من يدها, لأصرخ فيها بعنف لم أعتده في نفسي, بينما ظلت هي صامتة على الفراش, تسيل دموعها قطرات على وجنتيها, وسهام من نار في قلبي.. لماذا يا رنا؟! لماذا؟بالطبع أصابتني دموعها بالهستيريا, وبعد كثير من الصخب كنت أحتويها في صدري ونبكي معاًلماذا قطعت الرأس يا رنا؟ -هو أخبرني.. قال إن الجسد غير مهم -من هو؟ -الذي يعيش في العينين البرتقاليتين -*******الأطفال يصابون بالاضطرابات حين يفقدون أحد والديهم.. قرأت هذا من قبل وأذكره الآنرنا تفتقد والدها بشدة, وهذا هو كل شيء.. لا داعي للإصابة بالجنون.. لا داعي للانتحاررنا مضطربة نفسيًا.. لكن.. ما الذي عليّ أن أفعله أكثر من هذا؟بالطبع لم أكن قد وصلت بعد إلى المرحلة التي تمكنني من ربط كل ما يحدث بالدمية.. أنت تنظر الآن إلى الموضوع من أعلى مما يمكنك من رؤية الصورة كاملة, أمّا أنا فكنت تفصيلة صغيرة في الصورة الكاملة, لا يمكنها سوى أن تنظر إلى التفاصيل الصغيرة من حولهاذهبت إلى طبيبة نفسية بحثًا عن المشورة.. وإلى دجالة معروفة بحثًا عن الأمل.. ولم أترك بابًا إلا وتوسلت أمامه علّني أفهم ما الذي أصاب ابنتي بالضبطإنها لا تتحدث إطلاقًا.. لا تنام أبدًا.. لا تفعل شيئًا سوى التحديق المستمر في عيني رأس الدب البرتقاليتين، كأنما تجد في هذا الشيء راحتها الوحيدة.. حاولت التخلص من رأس الدمية, لكن دموعها الصامتة كانت تجعلني أتراجع كل مرةإنها طفلة بائسة تتعذب, فلماذا أحرمها من الشيء الوحيد الذي تريده؟بالطبع لم آخذ كلامها بخصوص الشيء الذي يعيش في العينين البرتقاليتين بجدية, بل اكتفيت بالاعتقاد أن ابنتي أصيبت بالخبال لشدة الحزن, وأنه عليّ أن أساعدها بأي وسيلةكنت أعرف أن تعلّق ابنتي بهذه الدمية غير طبيعي... كنت أعرف هذا لكني تجاهلته... لهذا أنا أستحق ما حدث بعد ذلكأستحقه تمامًا..*******في أحد الأيام وأثناء تجولي في السوق لأشتري ضروريات المنزل, شعرت بذلك الهاجس الخفي الذي تشعر به أي أم, والذي يخبرها أن طفلها في خطر.. هذا هو الهاجس الذي يوقظنا في منتصف الليل لنجد طفلنا الرضيع يكاد يسقط من على فراشه.. لا معجزات في الأمر.. لكنه شعور داخلي عميقكنت قد تركت رنا في المنزل –فهي لم تعد تذهب إلى مدرستها منذ زمن– لذا أخذت في طريق عودتي إلى المنزل, أبني تصورات سوداوية عمّا يمكن أن يكون قد حدثلقد أشعلت النار في الشقة، وهي الآن تختنق حتى الموت... لقد دسّت إصبعها في قابس الكهرباء... لقد ألقت بنفسها من الشرفة... شيء ما حدثلكني حين وصلت إلى المنزل, وجدت ما هو أسوأ من هذا كله... كانت ابنتي رنا تجلس على أرض الصالة , ورأس الدب ذو العينين البرتقاليتين أمامها يحدق فيها بثبات, وهي كانت تبكي بهستيريا مخيفة كأنها رأت مذبحة مخيفة منذ لحظاتألقيت بكل ما في يدي, لأرفعها من على الأرض، ولأدفنها في حضني وأنا أردد بجزع: رنا حبيبتي.. ما الذي حدث؟صرخت: باباااااااااااااااااااقلت: أعرف يا حبيبتي.. أعرف.. إنك تفتقدينه, لكن.. لا بأس سأتصل به، وأطلب منه أن يعود، وفتقول: بابا.. مااااااااااااااااااااااات!!!!!!!!!!!! -أريد باباااااااااا -أصابتني كلماتها بالجنون, فلم أشعر بنفسي إلا وأن أرجها بعنف, صارخة: من قال هذا؟ببطء أشارت بيدها إلى رأس الدب ذي العينين البرتقاليتينفي هذه اللحظة شعرت.. في هذه اللحظة فهمت... في هذه اللحظة أدركت الحقيقة كاملة بلا رتوشوهنا ارتكبت أكبر خطأ في حياتي كلهاتركت طفلتي وأسرعت أعدو إلى السنترال المجاور للمنزل, لأحاول الاتصال بزوجي.. يجب أن أسمع صوته الآن, ويجب أن يعود إلى المنزل اليوموصلت إلى السنترال، وطلبت الرقم بأصابع مرتجفةومع كل مرة كان يجيبني فيها الرنين المستمر كنت أفقد أعصابي أكثر وأكثر.. أين أنت أيها الوغد؟وارتفع ذلك الصوت المقيت في أعماقي يردد: لقد مات.. لقد مات.. لقد مات.. لقد مات.. لقد مات.. لقد مات.. لقد مات.. لقد مات.. لقد ماتوبعد محاولات استمرت لساعة كاملة كاملة, أصبح عندي يقين أنني تحولت إلى أرملة.. أرملة مسئولة عن طفلة مخبولةرنا.. لقد تركتها بمفردها.. يا إلهيوهكذا عدت أسرع الخطى إلى المنزل وأعصابي تحترق في رأسي, وحين وصلت إلى المنزل كنت أتمنى شيئًا واحدًاأن أعثر على ابنتي حيةوالواقع أنني عثرت عليها حيةالواقع أنني أذكر هذا المشهد بالذات جيداً، فأنا أراه في كل لحظة من حياتي وحتى الآنالواقع أن أحدًا لن يصدق ما رأيته أنا في تلك اللحظةكانت ابنتي تقف في صالة المنزل، وعلى وجهها تعبير جاف مخيف, بينما صوتها الخافت ينادي: أمي.. أميلم تكن شفتاها تتحركان, لكني كنت أسمع صوتها واضحًا, وحين انتبهت إلى مصدر الصوت الحقيقي, تجمدت الدماء في عروقيومأخوذة تجاوزت ابنتي التي تحولت إلى تمثال صامت لم ينطق إلى يومنا هذا, وحملت رأس دمية الدب ذي العينين البرتقاليتينالرأس الذي ارتفع منه صوت ابنتي الخافت يقولأمي.. أنا هنا -
وتعليقا و إذا كان من السفر بد فيجب أن تجمع شمل الأسره حتى لا تحدث مثل هذه الآثار السلبيه للأطفال بغياب الآباء عنهم