لقد علق الكثير من الكتاب والمفكرين على طول العالم الاسلامي وعرضه على الاستفتاء السويسري الشهير (الذي عارضته الحكومة السويسرية نفسها) الذي سيمنع بناء مآذن للمساجد الجديدة حيث ستبقى الأربع مآذن الحالية كما هي ولن يزيد عددها نتيجة لهذا الاستفتاء. هناك من يرى ان هذا الاستفتاء يتعارض مع حرية الاديان وحرية التعبير عن المعتقد الذي تؤمن به أوروبا وتؤكد عليه في كل مناسبة، وتم ربط هذه الحرية بالمئذنة كرمز "إيقوني" يشير للمسجد، رغم أن الاستفتاء نفسه لم يتعرض لبناء المساجد والصلاة فيها، وهو المهم هنا من وجهة نظري. بالنسبة لي شخصيا، أرى في المئذنة دلالة رمزية مهمة تشير للجامع، فالدلالات البصرية لها تأثيرها العميق في النفس والمعاني التي تصنعها في الذهن والحضور المشهدي التي تحدثه في المكان، لكني أعلم كذلك أنه من الناحية الشرعية البحتة لا يستوجب بناء الجامع وجود مئذنة لأن الحديث يقول "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" بل حتى أن وجود مبنى للجامع غير ضروري، لولا ظروف الحر والبرد والمطر والغبار التي يحتاج فيها الانسان أن يقي نفسه من الظروف المناخية المحيطة. وبالتالي فإن فكرة البناء نفسها ليست هي الهاجس في عمارة الجامع بقدر ما هي فكرة العمارة الانسانية/الروحية التي تصنعها الصلاة والعقد الاجتماعي الذي تشكله بين المسلمين عندما يلتقون لخمس مرات في اليوم، خصوصا في الغرب.
ومع ذلك لا يمكن أن ننكر ما لهذا القرار من مؤشرات سياسية واجتماعية تؤكد عدم الارتياح السويسري بل والغربي من تزايد عدد المسلمين في أوروبا، فهناك نصف مليون مسلم في هذا البلد والعدد مرشح للزيادة مع تفاقم المشاكل الاقتصادية/السياسية في الدول المصدرة للمسلمين في العالم الثالث وهو ما يخشاه السويسريون والأوروبيون، فهذه الهجرة، غير القانونية منها على وجه الخصوص، هي التي تهدد استقرارهم، ولا اعتقد أن هناك من ينكر عليهم الحق في هذه المخاوف، لذلك أتت ردة الفعل بمنع بناء المآذن، وإن كنت أراها غير مبررة لأنها تثير المشاكل والاحتقانات بين المسلمين والغرب دون حاجة لذلك فلم تصبح المآذن ظاهرة في سويسرا ولا حتى في أوروبا ولم تتحول المدن الأوروبية إلى مدن يصدح فيها الأذان خمس مرات يوميا بشكل ملحوظ، فلماذا هذه الزوبعة التي ستزيد دون شك الكراهية بين المسلمين والغرب. هذا السؤال يسأله العقلاء السويسريون والأوروبيون قبل المسلمين، لماذا نصنع مشكلة من لا شيء، فلم يبن المسلمون إلا أربع مآذن بينما ترتفع لافتات (ماكدونالاد) أعلى من المآذن وأبراج الكنائس في بعض شوارع المدن الأوروبية.
الحق يقال ان اختيار السويسريون للمآذن كان يصب في صورة "الهوية" أو هوية المدينة والمجتمع السويسري وتاريخه المسيحي، فمخاوف الأوروبيين تتركز على هذا التاريخ، الذي لا يؤمن به كثير من أبناء بلدتهم، لكنها وسيلة للدفاع عن الوجود ربما تؤدي إلى إقصاء الآخر وتهميشه عمدا. السويسريون لا يريدون هوية إسلامية في قلب هويتهم المسيحية، فاختاروا أهم العناصر البصرية التي تشير لوجود المسلمين وتعبر عن هويتهم الدينية ومكان عبادتهم، فأرادوا إيقافها والحد من نموها، فحتى لو زاد عدد المسلمين يجب أن لا يزيد تأثيرهم الثقافي والمجتمعي. ربما يكون هذا الاقصاء الثقافي فيه إجحاف لمواطنين يحق لهم ما يحق لكل أفراد المجتمع وتهمتهم فقط هي كونهم مسلمين. أذكر هنا الحرب الثقافية التي تم شنها على المركز الاسلامي في مدينة أكسفورد الإنجليزية وكان ذلك بسبب مئذنة الجامع التي رأى فيها سكان المدينة "تشويها" لتاريخ مدينتهم "العريق". والأمثلة التي تضيق من مساحات حرية تعبير المسلمين عن مكان عبادتهم
أذكر هنا الدراسة التي قام بها المعمار وائل المصري في تسعينيات القرن الماضي (1993م)، وهي عبارة عن رسالة ماجستير قدمت لجامعة (أم أي تي) (معهد ماساشوستس للتقنية) حول "العمارة وسؤال الهوية: قضية التعبير عن الذات في مراكز الجاليات الاسلامية في الولايات المتحدةى الأمريكية". ترى الدراسة أن هذا الهاجس المبكر للوجود الاسلامي في الغرب جعل بعض المفكرين يتخوفون من "تشريق أمريكا" Orientalizing America حسب قول (ميكائيل فيسكر) Michael Fischer، وهذه المخاوف أصلا مرتبطة بتهديد الهوية العامة للمجتمع الأمريكي الذي بات يهدده المسلمون بأسلوب عبادتهم وعدم اندماجهم في المجتمع الامريكي حسب ما يراه الأمريكيون أنفسهم لا حسب ما يراه المسلمون. والحقيقة أن الدراسة، رغم أنها معمارية، فهي لا ترى ضرورة اقتصار الرموز الاسلامية البصرية في المئذنة والقبة، لأنها رموز سطحية وتم استحدثها في الحضارة الاسلامية. على أن المشكلة هنا هي ما نسميه "الشكل الجماعي" الذي عادة ما يتحول إلى تعبير "إيقوني" رمزي صارخ يختزل كل التاريخ في صورة واحدة أو شكل واحد، وهو ما تصنعه المئذنة في حقيقة الأمر، لأنها تعرض تاريخ الحضارة الاسلامية كله دفعة واحدة في الأذهان بمجرد أن تراها منتصبة في أحد الميادين والشوارع الأوروبية أو الأمريكية، رغم أنها لا تعطي نفس التعبير في مدن المسلمين. اختلاف الدلالة هنا مرتبط بالرغبة في "التعبير عن الذات" وبشكل ملح كحماية للوجود في وسط مهيمن، في حالة وجود المسلمين في المدينة الغربية.
رغم كل هذا فإنني ما زلت أرى أن "الحضارة الإسلامية" أكبر من المئذنة ومن القبة وأن الوجود الاسلامي في الغرب سيحميه السلوك الذي يعبر عن هذه الحضارة والوجود السياسي والاقتصادي للمسلمين في المجتمعات الأوروبية، والذي يجب علينا أن نتوقعه أن الغرب سيحمي تاريخه ولن يدع فرصة يمكن له منعنا وإيقافنا من التواجد في عقر داره، وإلا سيغتنمها ويوظفها قدر الامكان. المآذن السويسرية ما هي إلا "فقاعة" غير مهمة، لكنها ستزيد من التباعد بين المسلمين والغرب، على أنها لن تقلل من وجود المسلمين في أوروبا، ولن تصبح حربا على الاسلام وأهله، لأن الحضارة القوية ستبقى مهما كان شكل التعبير البصري والحركي الذي تظهره للآخرين.
ومع ذلك لا يمكن أن ننكر ما لهذا القرار من مؤشرات سياسية واجتماعية تؤكد عدم الارتياح السويسري بل والغربي من تزايد عدد المسلمين في أوروبا، فهناك نصف مليون مسلم في هذا البلد والعدد مرشح للزيادة مع تفاقم المشاكل الاقتصادية/السياسية في الدول المصدرة للمسلمين في العالم الثالث وهو ما يخشاه السويسريون والأوروبيون، فهذه الهجرة، غير القانونية منها على وجه الخصوص، هي التي تهدد استقرارهم، ولا اعتقد أن هناك من ينكر عليهم الحق في هذه المخاوف، لذلك أتت ردة الفعل بمنع بناء المآذن، وإن كنت أراها غير مبررة لأنها تثير المشاكل والاحتقانات بين المسلمين والغرب دون حاجة لذلك فلم تصبح المآذن ظاهرة في سويسرا ولا حتى في أوروبا ولم تتحول المدن الأوروبية إلى مدن يصدح فيها الأذان خمس مرات يوميا بشكل ملحوظ، فلماذا هذه الزوبعة التي ستزيد دون شك الكراهية بين المسلمين والغرب. هذا السؤال يسأله العقلاء السويسريون والأوروبيون قبل المسلمين، لماذا نصنع مشكلة من لا شيء، فلم يبن المسلمون إلا أربع مآذن بينما ترتفع لافتات (ماكدونالاد) أعلى من المآذن وأبراج الكنائس في بعض شوارع المدن الأوروبية.
الحق يقال ان اختيار السويسريون للمآذن كان يصب في صورة "الهوية" أو هوية المدينة والمجتمع السويسري وتاريخه المسيحي، فمخاوف الأوروبيين تتركز على هذا التاريخ، الذي لا يؤمن به كثير من أبناء بلدتهم، لكنها وسيلة للدفاع عن الوجود ربما تؤدي إلى إقصاء الآخر وتهميشه عمدا. السويسريون لا يريدون هوية إسلامية في قلب هويتهم المسيحية، فاختاروا أهم العناصر البصرية التي تشير لوجود المسلمين وتعبر عن هويتهم الدينية ومكان عبادتهم، فأرادوا إيقافها والحد من نموها، فحتى لو زاد عدد المسلمين يجب أن لا يزيد تأثيرهم الثقافي والمجتمعي. ربما يكون هذا الاقصاء الثقافي فيه إجحاف لمواطنين يحق لهم ما يحق لكل أفراد المجتمع وتهمتهم فقط هي كونهم مسلمين. أذكر هنا الحرب الثقافية التي تم شنها على المركز الاسلامي في مدينة أكسفورد الإنجليزية وكان ذلك بسبب مئذنة الجامع التي رأى فيها سكان المدينة "تشويها" لتاريخ مدينتهم "العريق". والأمثلة التي تضيق من مساحات حرية تعبير المسلمين عن مكان عبادتهم
أذكر هنا الدراسة التي قام بها المعمار وائل المصري في تسعينيات القرن الماضي (1993م)، وهي عبارة عن رسالة ماجستير قدمت لجامعة (أم أي تي) (معهد ماساشوستس للتقنية) حول "العمارة وسؤال الهوية: قضية التعبير عن الذات في مراكز الجاليات الاسلامية في الولايات المتحدةى الأمريكية". ترى الدراسة أن هذا الهاجس المبكر للوجود الاسلامي في الغرب جعل بعض المفكرين يتخوفون من "تشريق أمريكا" Orientalizing America حسب قول (ميكائيل فيسكر) Michael Fischer، وهذه المخاوف أصلا مرتبطة بتهديد الهوية العامة للمجتمع الأمريكي الذي بات يهدده المسلمون بأسلوب عبادتهم وعدم اندماجهم في المجتمع الامريكي حسب ما يراه الأمريكيون أنفسهم لا حسب ما يراه المسلمون. والحقيقة أن الدراسة، رغم أنها معمارية، فهي لا ترى ضرورة اقتصار الرموز الاسلامية البصرية في المئذنة والقبة، لأنها رموز سطحية وتم استحدثها في الحضارة الاسلامية. على أن المشكلة هنا هي ما نسميه "الشكل الجماعي" الذي عادة ما يتحول إلى تعبير "إيقوني" رمزي صارخ يختزل كل التاريخ في صورة واحدة أو شكل واحد، وهو ما تصنعه المئذنة في حقيقة الأمر، لأنها تعرض تاريخ الحضارة الاسلامية كله دفعة واحدة في الأذهان بمجرد أن تراها منتصبة في أحد الميادين والشوارع الأوروبية أو الأمريكية، رغم أنها لا تعطي نفس التعبير في مدن المسلمين. اختلاف الدلالة هنا مرتبط بالرغبة في "التعبير عن الذات" وبشكل ملح كحماية للوجود في وسط مهيمن، في حالة وجود المسلمين في المدينة الغربية.
رغم كل هذا فإنني ما زلت أرى أن "الحضارة الإسلامية" أكبر من المئذنة ومن القبة وأن الوجود الاسلامي في الغرب سيحميه السلوك الذي يعبر عن هذه الحضارة والوجود السياسي والاقتصادي للمسلمين في المجتمعات الأوروبية، والذي يجب علينا أن نتوقعه أن الغرب سيحمي تاريخه ولن يدع فرصة يمكن له منعنا وإيقافنا من التواجد في عقر داره، وإلا سيغتنمها ويوظفها قدر الامكان. المآذن السويسرية ما هي إلا "فقاعة" غير مهمة، لكنها ستزيد من التباعد بين المسلمين والغرب، على أنها لن تقلل من وجود المسلمين في أوروبا، ولن تصبح حربا على الاسلام وأهله، لأن الحضارة القوية ستبقى مهما كان شكل التعبير البصري والحركي الذي تظهره للآخرين.