هناك من يرى بأن ثمة شكوكاً عادة ما تساور دوائر صناعة القرار في الولايات المتحدة إزاء الوضع في العالم العربي، فما بالك حينما يكون الأمر متعلقا بسقوط أنظمة حليفة لها.
لقد دفعت الثورات العربية بسيل من القلق والارتباك والغموض لخارطة السياسة الأميركية الخارجية، ما جعلها تخشى على مصالحها وما يتعارض مع سياساتها من جهة، وضبابية التنبؤ بطبيعة أنظمة ما بعد الثورة وتوجهاتها من جهة أخرى. بالتأكيد كانت الثورات حدثا مهولا ومفاجئا، وبمثابة صدمة غير متوقعة للدوائر السياسية والاستخباراتية والبحثية فيها، بغض النظر عما قيل من ادعاءات غير موثقة بوجود دور أميركي وراء تحريكها.
هناك من يرى أن مطالبة أمريكا الأنظمة العربية بالإصلاح هو من باب الاستهلاك الإعلامي،كون مصالحها تدور حول النفط وبقاء إسرائيل، بل ذهب البعض في القول بأن من مصلحة الولايات المتحدة أن تعيش المنطقة باستمرار في حالة من عدم الاستقرار، ما يجعل تدخلها مبررا دائما لطلب الحماية أو المساعدة صحيح أن الولايات المتحدة ومنذ أكثر من عقد من الزمان، كانت تنادي دول المنطقة بضرورة القيام بإصلاحات جذرية، لكنها في ذات الوقت لم تكن تحبذ في مغادرة حلفائها لكرسي الحكم، لأنهم على الأقل كانوا يدعمون سياستها في المنطقة، ويحمون مصالحها، وبالتالي كانت ترى أن في مشاريع الإصلاح حلًا للمعضلة، فهي تحقق مرادها في بقاء النظام الموالي لها من ناحية، واستجابة لمطالب الشعب الذي يصر على تنفيذها من ناحية أخرى. وفي هذا الرأي ما يضعف في تقديري مقولة أن واشنطن وراء تحريك المظاهرات لأننا لو سلّمنا بصحتها، فإن النتيجة بكل بساطة تصب في غير صالحها إن ارتهنا للمنطق.
وفي هذا السياق، وعقب زيارتها للقاهرة بعد الثورة، قالت وزيرة الخارجية الأميركية "إن الولايات المتحدة سيكون لها شكل مختلف من النفوذ في مصر..إننا نتعامل الآن مع ديمقراطية آخذة في النمو" ثم وصفت الربيع العربي بالشتاء الذي كما قالت "بدأ يعرف الدفء وللمرة الأولى... ومن دون الشروع بإصلاحات حقيقية ومتزنة، فإن الربيع سيتحول في نهاية المطاف إلى سراب" على أن حديث الوزيرة يعكس حالة القلق التي انتابت واشنطن على مصالحها، وان غُلفت اللغة بالدبلوماسية لاسيما عندما قالت عن سياسة مصر الخارجية" انه ستكون فيها قرارات مختلفة عما كانت عليه أيام حكم الرئيس مبارك". ناهيك عن حالة التردد والتخبط اللذين سيطرا على تعاطي البيت الأبيض مع الثورات العربية، بدليل أنها اضطرت أن تتعامل مع كل ثورة على حدة، بسبب تسارع وتيرة الأحداث، مع عدم القدرة على استيضاح المشهد السياسي آنذاك بشكل جلي، وصعوبة اتخاذ قرارات حاسمة بشأنها.
على أن الأحداث الأخيرة كشفت عن تناقضات واضحة في الموقف الأميركي، وصراعه ما بين المصالح والمبادئ. فواشنطن تحمل شعار الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان من جهة، ومن جهة أخرى تريد حليفاً يضمن لها مصالحها في المنطقة كما كان يفعل لها ذلك الأتراك ودول أميركا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات عندما كانت واشنطن تدعم جيوشها مقابل موالاة تلك الأنظمة لها.
غير أن بقاء الحال من المحال، فتلك الدول أو أغلبها لم تعد تدور في الفلك الأميركي ، وتمردت على قرارها بعدما غزت الديمقراطية عوالم تلك الدول ودساتيرها، فإسلاميو تركيا ويساريو أميركا اللاتينية ناهضوا النفوذ الأميركي في بلدانهم أو حجموه بمعنى أدق.
ويبدو أن هذا ما تخشاه واشنطن، على اعتبار أن ما سيفرزه الربيع العربي من جماعات وتيارات قد تصل إلى الحكم وتكون لها مواقف مناهضة للسياسات والمصالح الأمريكية في المنطقة. وهنا تحديداً تكمن معاناة واشنطن، إلا أن ما زاد طينها بلة كما يبدو، هو في صعود وبروز شعبية الجماعات الإسلامية بأخوانيها وسلفييها في دول عربية عديدة، والذين مثّلوا لواشنطن فزاعة رسختها عبر العقود الماضية الأنظمة التي سقطت لغرض في نفس يعقوب. على أي حال، هذه المتغيرات إن ارتهنا لحقيقة الأشياء، تستدعي من الإدارة الأميركية بطبيعة الحال إعادة نظر ومراجعة متأنية للسياسة الخارجية بدءاً بالتخلص من الهاجس الأمني الذي مثل حجر عثرة في التواصل بين أميركا والعالم الإسلامي ، فضلا عن الأحكام المسبقة تجاه جماعة أو تيار، أو إقحام مسألة المعونات الاقتصادية على سبيل المثال، واستخدامها كوسيلة ضغط على الدول المحتاجة. على أن هناك من يرى أن مطالبة أميركا الأنظمة العربية بالإصلاح هو من باب الاستهلاك الإعلامي،كون مصالحها تدور حول النفط وبقاء إسرائيل، بل ذهب البعض في القول بأن من مصلحة الولايات المتحدة أن تعيش المنطقة باستمرار في حالة من عدم الاستقرار، ما يجعل تدخلها مبررا دائما لطلب الحماية أو المساعدة، بدليل ما جاء في وثيقة الأمن القومي والتي صدرت من البيت الأبيض في مايو 2010 والتي تضمنت : حماية امن إسرائيل، واستمرار الإمدادات النفطية، وعدم السماح لإيران من امتلاك سلاح نووي، ومواجهة الإرهاب، والعمل على حل القضية الفلسطينية. على أن هذا المناخ يهدف إلى حالة اللاسلم واللاحرب ، وهو ما يعني خلق تهديدات لدول المنطقة كما حدث مع العراق سابقا، ويتكرر نفس السيناريو الآن مع إيران. هذا الوضع يسمح لها في البقاء في المنطقة من جهة ، ودفع دول المنطقة لشراء الأسلحة بصفقات كبيرة من جهة أخرى. وبغض النظر عن صحة تلك القراءة من عدمها، فإن ما يهم دول المنطقة هو أمنها واستقرارها. فهي ترفض الاملاءات والتدخل في شؤونها الداخلية. وأن يتم التعامل معها بالحوار بعيدا عن التصنيفات والصور الذهنية النمطية. ولئن كانت الولايات المتحدة فعلا حريصة على تحسين صورتها، فعليها مد جسر الثقة مع الجميع، والقيام بسياسة متوازنة وعادلة، وذلك بأن تكون راعيا محايدا لعملية السلام وليست منحازة وداعمة لإسرائيل، لان النتيجة ستكون تعزيز الكراهية للغرب وتفاقم ظاهرة التطرف.
كما أن عليها احترام خيارات الشعوب، وان تدعم دولهم سياسيا واقتصاديا، وهو ما يكفل لها حماية مصالحها، لا أساليب "لي الذراع" و"العصا والجزرة" و"الاحتواء المزدوج".
صفوة القول، إن الأمل يحدو الجميع في أن تُغلب واشنطن المبادئ التي وضعها الآباء السبعة المؤسسون لاستقلال بلادهم قبل أكثر من قرنين على مصالحها الآنية. ولعل ما رفع سقف توقعاتهم هو ما ذكره اوباما في خطابه قبل أشهر، من أن مصالح بلاده في المنطقة لايمكن أن تأتي على حساب خيارات الشعوب وتطلعاتها للإصلاح. وهو بذلك يؤكد انحياز إدارته للمبادئ، ما يجعلها تلعب دورا يليق بتاريخها ومكانتها ليعم الأمن والسلام في العالم، وذلك متى ما تم ترجمتها على الأرض، فالنوايا الحسنة لم تعد تكفي يا فخامة الرئيس!