ما الفرق بين العدل والرحمة
قَد تعيِّن موظفاً تحت التدريب مدة ستة أ شهر ، فيمكن أن تراقبه فقط فكلما أخطأ سجلتها عليه خطيئته ، حتى أصبح حجم أخطائه لا يحتمل ففصلته وأنت في بحبوحة لأن هذا الفصل كان ضمن الستة أشهر ، فأنت ماذا فعلت ؟ عاملته وفق قيم العدل، ولكنك اذا أردت أن تعامل هذا الموظف بالرحمة ، فكلما أخطأ تقول له : لا، هذا لا يصح وهذا هو الصحيح ، فاذا هو يستقيم شيئاً فشيئاً ، وبعد حين يعجبك وتتمسك به ، شتان بين أن تعامل من حولك بالعدل ، وبين أن تعاملهم فوق العدل بالرحمة.
فالله سبحانه وتعالى خلق الانسان ومنحه العقل وأعطاه العقل ، وركّب فيه الفطرة، وزوّده بالشرع ، وخيّره وأودع فيه الشهوات ، وتركه الى أن يأتيه أجَلُهُ ، فإذا هو من أهل النار .
فالله عز وجل عامله بالعدل ، لكنه لما كان في مقتبل حياته لو أنه اتجه الى أن يسرق فأدبه الله عز وجل وخَوّفَهُ تارةً وأدبّه تارةً وضيّق عليه تارةً وجمعهُ مع أهل الحق تارةً وقبضه تارةً وشرح صدره تارةً إلى أن صلح هذا الانسان وصار من أهل الجِنان ، بماذا عامله الله عز وجل ؟ بالرحمة .
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ {فصلت/46} )
إذاً : اسم التواب من أين نفهمه ؟ من رحمة الله عز وجل الله معك في كل خطراتك ،
معك في كل حركاتك معك في سرِّك ، معك في جهرك ، معك في خلوتك معك في كل حال من أحوالك ، وكل شأن أنت فيه هو معك وله شأن ، كل شأن أنت فيه فلله معك شأن يقابله ؛ إن كان شأنك الإعراض فشأنه التأديب ، وإن كان شأنك الإقبال ، فشأنه التجلّي ، وإن كان شأنك العدوان ، فشأنه العِقاب ؛ وإن كان شأنُك الإحسان ؛ فشأنه الإكرام
الفرق بين العالم والمربى
حتى في الدعوة الى الله عزّ وجل فهناك عالِم وهناك مربٍ ، فالعالِم يُلقي الدرس وانتهى الأمر لا يعنيه المجتهد ولا مَنْ يفهم ، ولا من استوعب ولا من لم يستوعب ، ولا من طبّق ولا من لم يُطبق ،لكنَّ المُربي هو الذي يُتابع ،وذاك هو الفرق بين علم الشريعة وعلم الطريقة
فالقضية قضية الرحمة ، قضية أن الله عزَّ وجل يُمكن أن يُعاملنا بعدلِه فنستحق النار ، ولكنه إن عاملنا برحمته فإنّما يؤهِّلَنا لدخول الجنة ، هذا هو التواب
معنى تواب أى تواب كثير التوبة على عباده أو أنه يتوب على عبده مهما كَبُرَ ذنبه،إمّا كمّاً أو نوعاً ولكنَّ المعنى الدقيق مُستنبط من قوله تعالى :{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {التوبة/118
فما معنى تابَ عليهم ؟ تابَ عليهم يعني أنه ساقَ لهم من الشدائد كي يَحمِلَهُم على التوبة.
أعرف رجلاً رَبِحَ أرباحاً طائلة وأراد أن يُمتّع نفسه فأزمعَ السفر الى أمريكا وكأنه يتمنى أن يفعل فيها ما يشتهيه وأن يغرق في بحر المعاصي ، وهناك شعر بألم شديد في ظهره فتوجه إلى مستشفى ، وصور عموده الفقري ، فكانت نتيجة التشخيص ؛ ورمٌ خبيثٌ في النخاع الشوكي لم تستطع قدماه على حمله حينما سمع الخبر ، قطع رحلته وعاد إلى الشام ومن مسجد الى مسجد ومن مجلس علم الى مجلس إلى أن تاب إلى الله توبةً نصوحاً ..وهذا معنى تواب " إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب.... أعرف كيف أداويهم .{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {البقرة/160
وهذه آيةٌ ثانية : " ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا " يعني إذا جاءت توبة الله قبل توبة العبد فتعني الشدائد التي يسوقها للعبد وإذا جاءت توبة الله بعد توبة العبد فتعني قبول التوبة .
يحملك على التوبة ثم يقبل توبتك وأنت بين دافع إلى التوبة وبين قبول لهذهِ التوبة .فما بال أحدنا إذاً ينتظر الشدة أن تقع ، إذاً فليُعدْ إلى الله بلا شدة وبلا تأديب وبلا مشكلة وبلا مصيبة وبلا تضييق ، هذا هو الذكاء ، وهذا هو العقل ، وهذه هي الحِكمة.
ما معنى تمام التوبة
هُناكَ شيٌء آخر : قالوا : الله عزَّ وجل يتوب على عبده ابتداء أي يسوق له من الشدائد ما يحمله على التوبة وأما تمام التوبة أن يقبَلُهَا منه وأن يُثبّته عليها فمثلاً : لو قال عبد : يا رب أنا تُبتُ إليك ، فهذا الذنب لا أقع فيه مرة ثانية ، ولم يقل : يا رب ثبتني اللهم يا مثبّت القلوب ثبّت قلبي على دينك فلو قال أنا تبت واكتفى بمقاله هذا فهذا الذي ينسب التوبة إلى نفسه ويعتدُّ بإرادته وبقدرته على متابعة التوبة ربما ضَعّفَ الله مقاومته ، فوقع في الذنب مرةً أخرى . لذلك تمام التوبة قبولها والثبات عليها
وأقول وأكرر إن دعوتي مُلخّصة بكلمتين : إما أن تأتيه راكضاً أو أن يأتي بك ركضاً. ويعلم الله كيف يأتي بك ، ويعلم كيف يخوفك ويعرف كيف يجعل ركبتيك ترتجفان ، ويعلم كيف تسمع الخبر وتقع مغشيّاً عليك ، فأقبل على الله طائعاً منيباً فهو الأجدى والأسلم .
مُلخص من شرح إسم الله التواب
للدكتور الفاضل محمد راتب النابلسى