يعد مصطلح "الإسلاموفوبيا" من المصطلحات الحديثة التداول نسبياً في الفضاء المعرفي المعني بصورة خاصة بعلاقة الإسلام بالغرب. وقد تم نحت المصطلح الذي استعير في جزء منه من علم الاضطرابات النفسية للتعبير عن ظاهرة الرهاب أو الخوف المرضي من الإسلام. وهي في الواقع ظاهرة قديمة جديدة، قديمة قدم الدين الإسلامي نفسه، وإن كانت قد تصاعدت حدتها في عالم اليوم، وبخاصة في دول الغرب بعد التفجيرات الشهيرة التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من أيلول عام 2001، التي أسندت إلى تنظيم القاعدة. وربما كان من الممكن القول إن تلك الظاهرة تضرب بجذورها عميقاً في تاريخ قديم حافل بمسلسل طويل من العلاقات المضطربة بين الغرب و الإسلام، استقر فيه هذا الأخير في الذهنية الغربية بوصفه تعبيراً عن خطر داهم محدق يتهدد كل ما هو غربي، ربما انطلاقاً من الاقتران المتكرر الذي يمكن ملاحظته في مسيرة التاريخ، الذي يوحي وكأن هناك نوعاً من العلاقة الحتمية بين صعود نجم الحضارة الإسلامية وانحدار نظيرتها الغربية!.
هذا، ولا تعد تلك الظاهرة حكراً على مجال العلاقات بين الإسلام والغرب كما قد يتبادر للذهن، بل إنها تمتد لتطال رقعة العالم الإسلامي نفسه أيضاً. إذ إن ظاهرة الخوف المرضي من الإسلام قد نشأت في الأصل بين أوساط العرب واليهود في جزيرة العرب، وثمة من المؤشرات ما يؤكد استمرار حضورها على ساحة الأرض العربية والإسلامية حتى الآن!.
وانطلاقا من الزعم بأن الفهم الجدي والعميق لأي ظاهرة من الظواهر هو الخطوة الأولى الضرورية للتمكن من علاج ما يرتبط بها وينجم عنها من مشكلات؛ يأتي إجراء هذه الدراسة، ذات الطابع التحليلي، في محاولة لتناول تلك الظاهرة بالفحص والتشريح، بما يتضمن بيان أسبابها، وعوارضها المختلفة المتصلة بالعلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي. إضافة إلى التوقف عند مسألة تفشي تلك الظاهرة إلى الوطن العربي، وتنامي مخاوف بعض الأطراف المنتمية إلى المجتمع العربي من تصاعد المد الإسلامي، وصولاً إلى اقتراح بعض المقاربات التي قد تسهم في معالجة تلك الظاهرة المقلقة، التي تجعل من العالم الإسلامي وآهليه عرضة لمسلسل مستمر من إساءة الفهم والإدراج ضمن صور نمطية سلبية شائهة، مع ما يترتب عن ذلك من مخاطر وتحديات جسيمة، تعصف بإمكانات تبلور مفاهيم التسامح والتعايش السلمي والاحترام المتبادل، ليس على مستوى العلاقات بين العالم الإسلامي ودول الغرب فحسب، وإنما على مستوى العلاقات داخل المجال الإسلامي أيضاً.
الإسلاموفوبيا/ وقفة عند المفهوم:
كما سبقت الإشارة، فإن مصطلح "الفوبيا" أو الرهاب، مستمد في الأصل من علم الأمراض النفسية، ليتم التعبير بواسطته عن نوع من أنواع العصاب القهري، بحيث لا يملك المريض القدرة على التحكم في ردود أفعاله عند تعرضه لموضوع خوفه، فيضيق صدره ويجف ريقه وتتزايد ضربات قلبه ويشحب وجهه وترتعش أطرافه، ليدخل في حالة فعلية من الفزع غير المسيطر عليه.
كما سبقت الإشارة، فإن مصطلح "الفوبيا" أو الرهاب، مستمد في الأصل من علم الأمراض النفسية، ليتم التعبير بواسطته عن نوع من أنواع العصاب القهري، بحيث لا يملك المريض القدرة على التحكم في ردود أفعاله عند تعرضه لموضوع خوفه، فيضيق صدره ويجف ريقه وتتزايد ضربات قلبه ويشحب وجهه وترتعش أطرافه، ليدخل في حالة فعلية من الفزع غير المسيطر عليه.
كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن مخاوف المريض بالرهاب لا تستند إلى تهديد جدي وفعلي في أغلب الحالات، كأن يخاف المرء من قطة صغيرة أليفة، أو من مكان مرتفع لا مجال لسقوطه منه، أو من وجوده في قاعة مكتظة بأشخاص ودودين لا يمكن أن يشكلوا خطراً عليه، ...الخ. وهذا يعني أن المرض يعبر في حقيقته عن اضطراب نفسي وإدراكي، لعل بالإمكان عزوه إلى أسباب متعددة، ربما كان من أبرزها معايشة خبرات مؤلمة تتعلق بموضوع الرهاب، وبخاصة في مرحلة الطفولة المبكرة، حيث تتسرب تلك الخبرات غير السارة إلى ما يعرف باللاوعي عند الإنسان، ليقوم عند مواجهته لموضوع خوفه، وبصورة غير إرادية يصعب السيطرة عليها، باستحضار مظاهر الاضطراب التي عايشها عند التعرض لتلك الخبرات للمرة الأولى، وبشكل قد يكون أكثر تضخماً وحدة.
في أسباب الظاهرة:
كأي ظاهرة أخرى تعصى على الانحصار ضمن إطار الأحادية السببية، فإن لظاهرة "الإسلاموفوبيا" أسباب متعددة تتفاوت في أهميتها وقوتها، بيد أنها تتضافر فيما بينها لتشكيل الظاهرة على النحو الذي تتراءى به. وفيما يلي محاولة لاستعراض أبرز الأسباب التي يمكن أن تكون مسؤولة عن إيجاد تلك الظاهرة:
أولاً ـ احتشاد التاريخ بالكثير من وقائع الصراع بين الإسلام والغرب:
قد يمكن القول إن الفتوحات الإسلامية التي بدأت منذ عهد الرسول (عليه الصلاة والسلام)، وتوسعت حدودها وآفاقها على امتداد قرون طويلة لاحقة، قد شكلت بما ارتبط بها وتمخض عنها من دحر جحافل الروم وتهديم معاقل وجودهم في المناطق التي اكتسحتها راية الإسلام، أولى وأبرز الخبرات المؤلمة التي تعرض لها الغرب في علاقته بالعالم الإسلامي، تلك الخبرات التي غرست بذور الخوف من الإسلام في ذهنيته، وجعلته يطور نزوعاً مرضياً يحكم تفاعله مع ذلك الدين وأتباعه. فعلى سبيل المثال، وبعد الهزيمة المنكرة التي منيت بها جيوشه الجرارة في معركة اليرموك في السنة السادسة عشرة للهجرة، التي ترتب عنها جلاء الاحتلال الرومي عن المنطقة العربية حيناً من الدهر، أثر عن (هرقل) عظيم الروم قوله: "السلام عليك يا سوريا، سلاماً لا لقاء بعده، ونعم البلد أنت للعدو وليس للصديق، ولا يدخلك رومي بعد الآن إلا خائفاً"
ويزخر التاريخ بسلسلة لا تكاد تنتهي من الخبرات غير السارة التي اتخذت طابعاً دموياً في كثير من الحالات، التي كرست النظرة المرتابة، بل العدائية، من جانب الغرب ـ وهو الوريث الشرعي للإمبراطورية الرومانية ـ حيال الإسلام وأهله. إذ لم تتوقف تلك الخبرات المؤلمة عند حدود معركة اليرموك المشار إليها بكل تأكيد، بل تعدتها إلى سلسلة طويلة من مواقف المجابهة العنيفة، التي سجلها التاريخ في العديد من المعارك الحاسمة، التي جسّد بعضها، أو كاد، تهديداً جدياً للعالم الغربي، كفتح الأندلس سنة 91 هـ، ومعركة بلاط الشهداء (لابواتيه) سنة 114هـ، التي لو انتصر المسلمون فيها لدخل الإسلام إلى باريس نفسها، وفتح القسطنطينية على يد العثمانيين سنة 857 هـ ...الخ قائمة لا تكاد تنتهي من وقائع الصراع الدامي بين الجانبين.
ويبدو أن التفاعل المباشر لأبناء الغرب مع المسلمين لعقود طويلة، سواء في سياق احتلالهم بعض الديار الإسلامية إبان ما عرفت عند بعض المؤرخين بالحروب الصليبية، أو في إطار استفادتهم عن طريق رحّالتهم وطلابهم من النهضة العلمية والحضارية التي ازدهرت في كثير من مدائن العالم الإسلامي، يبدو أنه لم يكن كافياً للنجاح في تبييض الصورة القاتمة التي رسموها في أذهانهم تجاه الإسلام وأتباعه، بوصفه ديناً دموياً لا يمكن أن يقترن إلا بالعنف والتخلف والإرهاب!.
ثانياً ـ الجهـل بالإســلام:
وفقاً لمقولة دارجة لا تخلو من الصحة، يميل الإنسان في العادة إلى معاداة ما يجهل، بوصفه يشكل خطراً غامضاً يحسن الاحتراس منه وتجنبه. وهذا ما قد يفسر خوف الكثيرين من الإسلام وميلهم إلى معاداته والنفور منه، حتى بين بعض أبناء المسلمين أنفسهم، الذين يملكون معرفة سطحية بالإسلام!. والواقع إن هناك جهلاً صارخاً بحقيقة الإسلام، وبخاصة في العالم الغربي، الذي يستقي معلوماته عن الإسلام من مصادر قد تفتقر في كثير من الحالات إلى الموضوعية والنزاهة والتجرد، أو الإحاطة الكافية بحقيقة الإسلام وجوهره. فالمناهج المدرسية وحتى الجامعية في العالم الغربي، ما تزال مثقلة بكم هائل من المعلومات المغلوطة والمضللة عن الإسلام، التي تعود في جذورها إلى نتاجات المدرسة الاستشراقية، إحدى الأذرع التقليدية الرئيسة للاستعمار الغربي. التي يوجد من الشواهد ما يؤكد انطلاقها من مرجعيات قروسطية مصطبغة بروح الحروب (الصليبية)، لا ينقصها الكثير من التعصب والتحيز وتزييف الوقائع وليّ أعناق الحقائق لإثبات مزاعم وافتراضات قبلية عارية عن الصحة
وفي هذا الإطار، يشير أحد الباحثين إلى "أن القليل من إنتاج المستشرقين الجدد، وهو كثير في حد ذاته، يذهب إلى صانعي السياسة والقرار في الغرب. بينما يذهب الكثير من إنتاجهم إلى الرأي العام عن طريق أجهزة متطورة للإعلام والدعاية ليؤكد صوراً نمطية أو يشوهها"
وحول النوايا العدائية للاستشراق وسعيه إلى المزيد من اختلاط الأوراق وتوتير العلاقات بين الإسلام والغرب يتابع الباحث نفسه القول: "إن الاستشراق الجديد الساعي قولاً وفعلاً إلى صدام (حضاري) مع الشرق الإسلامي حريص أيضاً على فتح حوار على مستويات متعددة يختلط فيه الدين بالسياسة والفاهمون بغير الفاهمين
ويشكل الجهل بالإسلام وحمل تصورات مغلوطة عنه، مع ما يترتب عن ذلك من الحيلولة دون تشكل أرضية ملائمة لفهمه وتفهمه والتواصل الإيجابي مع معتنقيه، معلماً بارزاً من معالم الحياة في العالم الغربي. وربما كان هذا هو ما دفع عضو مجلس النواب الأمريكي السابق (بول فندلي)، الذي خبر العالم الإسلامي عن قرب، إلى أن يأخذ على عاتقه السعي إلى كسر حاجز الجهل الغربي بالإسلام، والعمل على تصحيح المفاهيم والصور النمطية الخاطئة المتصلة به، ودحض الأضاليل التي تستوطن أذهان الغربيين بشأنه، وبخاصة في المجتمع الأمريكي. ويجمل (فندلي) الأسباب التي تقف خلف جهل الأمريكيين، والغربيين عموماً، بالإسلام وتبنيهم صوراً نمطية مضللة عنه فيما يلي من أسباب
1ـ دور اللوبي اليهودي في تقديم صورة سيئة عن المسلمين، وتصوير (إسرائيل) على أنها دولة ضعيفة يهدد العرب والمسلمون أمنها ووجودها.
2ـ الاقتصار على الحديث عن الأخلاق اليهودية والمسيحية في المجتمع الأمريكي، بوصفها الأخلاق العالية المقبولة الجديرة بالاتباع، مع تجنب الإشارة إلى الأخلاق الإسلامية، وتصويرها بشكل سلبي منفر في حال الحديث عنها. بحيث غدت اليهودية والمسيحية في نظر الأمريكي أنموذجاً للتقدم والحضارة والأخلاق، وأصبح الإسلام تعبيراً عن القوة المتخلفة والخطرة.
3ـ وسم الإسلام بالإرهاب والتعصب، واحتقار المرأة، والافتقار إلى التسامح مع غير المسلمين، ورفض الديمقراطية، وعبادة إله غريب وانتقامي.
4ـ تخوف الغربيين من خطر إسلامي متصاعد، وخشيتهم من الحرب الإسلامية ـ الغربية القادمة، وتغذية الهيئات الصهيونية لتلك المخاوف، حتى لا يتراجع الدعم الغربي للكيان الصهيوني في فلسطين.
5ـ تركيز وسائل الإعلام الغربي على تصوير الحركات الإسلامية، وبخاصة حركات المقاومة، على أنها حركات إرهابية لا تحترم الديموقراطية وحقوق الإنسان. وعمل تلك الوسائل في بعض الأحيان على فبركة برامج يتم عن طريقها تضخيم دعوات بعض المسلمين إلى محاربة أمريكا و (إسرائيل) والغرب، وإخراج تلك الدعوات عن سياقها الأصلي.
ثالثاً ـ تضارب المصالح واختلاف المنطلقات القيمية:
على الرغم من أن الجهل بالإسلام قد يشكل سبباً أساسياً للخوف منه ومعادته، إلا أنه ليس السبب الوحيد بكل تأكيد. فقد سجل التاريخ أن معرفة الكثيرين بالإسلام لم تحل دون الخوف منه ومناهضته، بل ربما يمكن القول إن تلك المعرفة قد كانت المدخل الرئيس لاتخاذ موقف سلبي منه. فقد جاء الإسلام ليشكل مشروع رؤية تجدد ما دأبت تعاليم السماء على الدعوة إليه والمناداة به مذ وجد الإنسان على الأرض، رؤية تقوم على تدمير معاقل التظالم بين البشر، ونشر قيم العدالة والأخوة والمساواة والفضيلة فيما بينهم. وبطبيعة الحال، كان من المحتم أن يصطدم ذلك المشروع بمصالح كثير من الفئات الانتهازية التي كانت تحرص على استمرار الأوضاع المختلة القائمة، بكل ما فيها من استغلال وظلم واعوجاج. فاليهود في الجزيرة العربية على سبيل المثال، وهم الذين احترفوا العمل بالمراباة والدعارة وتجارة الخمور... الخ، كانوا متأكدين من صدق النبي محمد (عليه السلام) وصدق رسالته، حسب ما جاء في أسفارهم المقدسة من نبوءات. إلا أنهم أصروا على معاداة الإسلام والكيد له، استناداً إلى رفضهم التضحية بالمكاسب غير المشروعة التي لا يقرها الإسلام، التي كانوا يجنونها جرّاء استغلال الناس وإشاعة الرذيلة بينهم، وانطلاقاً من استكبارهم عن اتباع رسول ليس من أبناء جلدتهم، بعد أن انحصر كل الأنبياء المعروفين ضمن نطاق بني إسرائيل منذ عهد النبي إسحق (عليه السلام). وقد فضح القرآن الكريم مكر اليهود وإنكارهم معرفة الرسول تبعاً للنبوءات التي تبشر به في كتبهم المقدسة بقوله تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون
هذا، وقد انسحب الحال نفسه على كثير من زعماء قريش والعرب في بداية الدعوة الإسلامية، الذين رفضوا اتباع الرسالة المحمدية، ليس من منطلق عدم تصديقها، بل من باب الاستكبار والحرص على مكتسبات الزعامة ورفض النزول عنها. فقد ورد عن (أبي جهل) أحد أشهر أعداء الإسلام عبر التاريخ في معرض تفسيره الإصرار على عدم الإيمان بالرسول ومعاداة رسالته قوله: "والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء. إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا نعم، ثم قالوا: فينا السقاية، فقلنا نعم، ثم قالوا: فينا الندوة، فقلنا نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي، فلا والله لا أفعل
والواقع إن المنطق ذاته يمكن أن ينطبق على الحالة الغربية اليوم. فمن المعروف أن الغرب يتبنى الكثير من السلوكيات الخاصة به، التي ترتبط في كثير منها بالنظام الرأسمالي ومبادئه البراغماتية الساعية إلى تعظيم الربح واللذة والمنفعة الخاصة، وتدخل في الوقت نفسه ضمن دائرة الحريات الاجتماعية والاقتصادية المعترف بها هناك من قبيل: حرية المقامرة، وتناول الكحول، والاشتغال بالربا، وقوننة ممارسة البغاء والعلاقات الجنسية المثلية، والسماح بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية ... الخ. وبكل تأكيد، لا يمكن أن تحظى مثل تلك السلوكيات بمباركة الدين الإسلامي، الذي يعدها ومثيلاتها من المحرمات التي يستدعي اقترافها التجريم والعقاب. ومن ثم، فإن من الطبيعي أن يجد كثير من أبناء العالم الغربي في الإسلام وتعاليمه تهديداً صارخاً لما يعتبرونها حريات أساسية، لا ينبغي المساس بها أو التفريط فيها!.
وتتداخل التعارضات المصلحية والحضارية لترسيم شكل العلاقة بين الإسلام والغرب إلى حد بعيد. فبينما يمكن الإقرار ـ إلى هذا القدر أو ذاك ـ بأن الصراع الذي يحكم علاقة العالم الغربي بالإسلام يستند في جزء منه إلى اختلافات حضارية عميقة ضاربة بجذورها في التاريخ، كما تزعم نظرية (صراع الحضارات) الشهيرة لصاحبها المنظر الأمريكي (صامويل هنتجتون) فإن من الممكن أيضاً القول إن جزءاً مهماً من ذلك الصراع يرتكز إلى تضارب المصالح بين الإسلام والغرب، بحيث يبدو هذا الأخير على درجة من الاستعداد للقبول بإسلام (معتدل) يضمن مصالحه السياسية والاقتصادية ولا يشكل تهديداً لها
رابعاً ـ الخلط بين الدين الإسلامي وواقع المسلمين:
ليس من الخافي على أحد أن الأمة الإسلامية تعاني منذ قرون عديدة واقعاً مأزوماً على مختلف الأصعدة والمستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهو ما ينعكس في وقوف تلك الأمة في ذيل سائر أمم الدنيا على صعيد الإسهام الحضاري والمشاركة في ارتقاء الإنسانية وتقدمها. فعلى المستوى السياسي، عصفت الحروب والنزاعات المسلحة وما تزال تعصف بأرواح الآلاف من أبناء العالم الإسلامي كل عام، كما هي الحال في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والجزائر على سبيل المثال. وتبدو الدول الإسلامية عاجزة عن فعل الكثير من أجل إيقاف تلك الصراعات أو الانتصار فيها أو تسويتها. كما ما يزال العديد من الدول الإسلامية يخضع بشكل أو بآخر لقوى أجنبية تصادر حريتها وتحد من إمكانات استقلالها الفعلي.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من نصف مليار مسلم يعيشون تحت خط الفقر، وهذا يعني أن أكثر من ثلث سكان العالم الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر هم من أبناء العالم الإسلامي، على الرغم من كل ما تتمتع به دول ذلك العالم من ثروات بشرية وطبيعية هائلة. الأمر الذي يوجه الأنظار إلى ما تكابده تلك الدول من استشراء الفساد وسوء الإدارة واختلال العدالة في توزيع الموارد والثروات. ليس هذا فحسب، بل إن دولاً إسلامية عديدة قد اجتاحها شبح المجاعات وافترس وحش الجوع مئات الآلاف من أبنائها، كما جرى في كل من النيجر والصومال والسودان.
وفي المجال الاجتماعي، يمكن الحديث، بوجه عام، عن معاناة دول العالم الإسلامي تفاوتات طبقية صارخة تتفاقم حدتها عاماً بعد آخر، فضلاً عن تصدع بناها المؤسسية التقليدية مع العجز عن إيجاد بناءات حديثة قادرة على الإنجاز الناجح الفعال، وانحطاط مكانة المرأة، وتهميش دور الشباب، وضعف الاهتمام بالأطفال، ناهيك عن اهتزاز المنظومات القيمة وتخلخلها تحت وطأة القيم الغربية الغازية.
وعلى الصعيد الثقافي، يبدو العالم الإسلامي منقطعاً بصورة شبه تامة عن الثورات المعرفية والمعلوماتية والعلمية التي يشهدها العالم، فيبدو الأقل إسهاماً في تلك الثورات، سواء على مستوى الإبداع أو التطوير، ليغدو في أفضل الحالات مستهلكاً نهماً، وبصورة استعراضية فجة، لما تنتجه تلك الثورات من تطبيقات وتقانات!.
إزاء الواقع المتردي الذي يتخبط فيه العالم الإسلامي، ومع أخذ الجهود الصهيونية والاستعمارية في تعميق ذلك الواقع وإبرازه وتضخيمه بعين الاعتبار، يغدو من الطبيعي انبعاث حالة من المماهاة التلقائية بين الإسلام من جهة، والفقر والتخلف من جهة أخرى، ليتم تحميل الإسلام جرائر ضعف أبنائه وتخلفهم. وعليه؛ يبدو أن من العسير أن يتعاطف الغربي الذي لا يعرف إلا صورة مشوهة عن الإسلام مع هذا الدين، بل إن من الطبيعي أن يتخذ منه ـ وهو يظنه سبباً رئيساً لتخلف أرجاء واسعة من العالم ـ موقفاً سلبياً عدائياً، ويولي جزءاً من اهتمامه لمحاربته واستئصال شأفته!.
خامساً ـ تبني صورة نمطية سلبية للمسلمين:
في الأصل، تتمتع المبادئ والنظريات، وبخاصة العقائدية، بطابع مثالي يتيح هامشاً معقولاً من الانفصال بينها من جهة، وبين أتباعها وتطبيقهم لها على أرض الواقع من جهة أخرى. إلا أنه وفي كثير من الأحيان، يتم الخلط بين الأفكار ومعتنقيها، فيتم عزو ما يقترفه هؤلاء من أخطاء وتجاوزات إلى الأفكار التي يزعمون تبنيها. وهذا يظهر واضحاً تماماً في حالة الإسلام والمسلمين، إذ يتم تحميل الإسلام مسؤولية السلوك غير السوي الذي يصدر عن بعض المسلمين. وبالإضافة إلى الجهل بحقيقة الإسلام، كما سلفت الإشارة، فإن من مصلحة الكثيرين من أنصار التوجهات الاستعمارية والصهيونية استغلال السلوك السيء للمسلمين للنيل منهم ومن دينهم، وإثبات صحة الصور النمطية المرتسمة في أذهان الكثيرين من أبناء الغرب عنهم. وبتسليط الضوء على تلك الصور النمطية الماثلة في الذهنية الغربية عن المسلمين، التي تطورت عبر قرون طويلة ظللتها أجواء التصارع والتفاعل المتوتر غير المتوازن بين الجانبين، فإنها تسقط على الشخصية المسلمة كماً هائلاً من الافتراءات والخيالات المريضة، فتصورها بالجشع والنهم والغباء والسفه والمكر واحتقار المرأة والتكالب على الشهوات ..الخ.
وقد لعبت السينما العالمية ووسائل الإعلام المغرضة التي تخضع لسيطرة واضحة من جانب الدوائر الصهيونية في العالم دوراً أساسياً في ترسيخ معالم تلك الصور النمطية وتضخيمها وتعميمها، حتى غدت بمثابة الحقائق الثابتة التي لا تحتمل النقاش، التي تحكم تعاطي كثير من أبناء الغرب مع الإسلام والمسلمين!.
وللحقيقة، فقد لعب بعض أبناء المسلمين أنفسهم دوراً لا يستهان به في تصديق تلك الصور النمطية الشائهة، وذلك عن طريق سلوكهم المتخلف والمنحرف أثناء تجوالهم في عواصم الدنيا، مقدمين بذلك الأنموذج الأسوأ عن الشخصية المسلمة، ومن ثم عن الإسلام نفسه!.
كما كان للتطبيق المتزمت للاسلام، الذي يركز على الشكل على حساب الروح والمضمون، من جانب بعض أنظمة الحكم التي تزعم اتخاذ الإسلام منطلقاً للتشريع فيها، نصيب في عملية الإساءة إلى الإسلام وتخويف الناس منه. إذ أظهرته تلك الأنظمة وكأنه جلاد قاس متحجر يطارد الناس لسلب حرياتهم وحرمانهم من كل مظاهر البهجة، وإجبارهم على إتيان الفرائض والطقوس الدينية على الرغم منهم!.
وجاءت التفجيرات المدوية على أهداف مدنية في عدد من البلدان الغربية، كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسبانيا، والإسلامية أيضاً، كالسعودية ومصر وباكستان والأردن، التي تبنتها جماعات تزعم انتماءها للإسلام، كتنظيم القاعدة بتفرعاته، لتصب في تيار تصعيد المخاوف من الإسلام، ولتعطي لأعدائه المزيد من المبررات لمحاربته وتضييق الخناق عليه، بحجة مسؤوليته المباشرة عن توليد الإرهاب والإرهابيين!.
أعراض ظاهرة "الإسلاموفوبيا" ومظاهرها:
منذ بروزها الذي تزامن مع بدايات الفتوحات الإسلامية، عبرت ظاهرة الخوف المرضي من الإسلام عن نفسها عبر جملة من المظاهر، التي تفاوتت ما بين فترة زمنية وأخرى وحيز مكاني وآخر في طبيعتها، وفي درجة سلبيتها وحدتها. ويمكن الحديث في هذا الإطار عما يلي من مظاهر:
1ـ الطعن في رسالة الإسلام والتشكيك بنبوة الرسول (عليه الصلاة والسلام):
منذ انبعاث رسالة الإسلام، لم تكد تتوقف الأصوات التي تشكك بصحة تلك الرسالة وصدق صاحبها (عليه السلام). فكما هو معلوم، تعرض الإسلام منذ بزوغ نجمه إلى حملة شرسة من جانب كثير من قبائل العرب واليهود لمحاربته وإجهاض دعوته. حيث أسند إلى الرسول الكريم الكثير من الصفات والنعوت الباطلة التي تطعن فيه على المستوى الشخصي، وترميه بالكذب والجنون والكهانة والسحر والاستبداد والتهالك على الشهوات...الخ.
وبطبيعة الحال، لم تقف تلك الاتهامات المغرضة عند حدود الرسول (عليه السلام)، بل تعدته لتطال الإسلام أيضاً، الذي اتهم من بعض الحاقدين بأنه دين مادي لا يأخذ الأبعاد الروحية بعين الاعتبار، وأنه دين دموي قام وانتشر بقوة السيف، وأنه دين يخلو من الأصالة فيسرق أفكاره من الأديان السابقة عليه كاليهودية والمسيحية ...الخ. وفي الواقع، فإن من نافل القول إن من المحال الفصل بين الإسلام ورسوله، فالرسول (عليه السلام) هو صاحب الدعوة إلى الإسلام وهو رمزها الأهم وهو التجسيد العملي لتعاليمها. ومن ثم فإن الإساءة إلى الرسول لا يمكن إلا أن تعد إساءة للإسلام نفسه، والعكس صحيح بكل تأكيد.
وكأمثلة عارضة على ما تقدم، كان التنويري الفرنسي الشهير (فولتير) قد نشر في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي كتاباً بعنوان: (التعصب أو النبي محمد)، وصف فيه الرسول الكريم بأنه "منافق وخداع ومحب للملذات الجسدية ومستبد"
وقبل ذلك بقرون، أي في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، كانت ملحمة (الكوميديا الإلهية) لكاتبها (دانتي أليغري) قد تطاولت على شخص رسول الإسلام وصورته بما لا يليق به. وهو ما كرر فعله قبل عدة سنوات الكاتب الهندي (سلمان رشدي) عندما نشر سنة 1988م روايته الشهيرة (آيات شيطانية)، التي حظيت وصاحبها وما يزالان بدعم الغرب وحمايته وتكريمه، بدعوى الانتصار لحرية التعبير!.
وتأتي الرسومات الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة (يولاندز بوسطن) الدنماركية في الثلاثين من شهر أيلول عام 2005 لتنضاف إلى قائمة الإساءات المتعمدة ضد الإسلام ورموزه. فقد نشرت تلك الصحيفة 12 رسماً هزلياً للرسول محمد (عليه الصلاة والسلام)، وصفت من جانب الكثيرين بأنها في منتهى الصفاقة والانحطاط. واقترن نشر تلك الرسوم مع مقال لرئيس تحرير الصحيفة يعرب فيه عن دهشته واستنكاره لهالة القداسة التي يتوج بها المسلمون نبيهم، معتبراً أن ذلك لا يعدو كونه ضرباً من ضروب الهراء المستند إلى جنون العظمة، وداعياً إلى التحلي بالشجاعة للإقدام على كسر ذلك (التابو)، عن طريق فضح (التاريخ المظلم) لصاحب الرسالة الإسلامية، وإبراز حقيقته إلى الرأي العام العالمي
ويجدر التنويه إلى أن تلك الرسومات لا تعد الأولى من نوعها، فهي ليست إلا حلقة في سلسلة ممتدة من الحلقات التي لا تريد أن تنتهي. فعلى سبيل المثال، نشرت إحدى دور النشر البريطانية عام 2001 كتاباً لمؤلف يدعى (عبد الله عزيز)، يتضمن صوراً هزلية في منتهى السخرية والتطاول على عقيدة المسلمين وقرآنهم وسنة نبيهم. إذ عرضت تلك الصور بمنتهى الفحش والابتذال النبي الكريم وزوجته عائشة وبعض الصحابة أثناء تطبيقهم العديد من تعاليم الإسلام وأحكامه، بل إنها تجرأت على تصوير الذات الإلهية على شكل هلال يجلس على كرسي، ويقوم النبي محمد (عليه السلام) بالسجود له
2 ـ إثارة النزاعات بين المسلمين:
ما انفكت الدول الغربية، وبخاصة الاستعمارية منها، تبدي حرصاً واضحاً على تسليط الأضواء على مواطن الاختلاف القائم على أسس دينية في العالم الإسلامي والعمل على تضخيمها وتطويرها إلى مستوى الخلاف، سعياً إلى إثارة الصراعات بين المسلمين أنفسهم من جانب، والمسلمين والأقليات غير المسلمة من جانب آخر. وفي هذا المقام، ربما كان بالإمكان استذكار الجهود الحثيثة التي بذلتها فرنسا في أوائل القرن الماضي لتمزيق وحدة لبنان وإذكاء نار الخلافات الدينية بين أبنائه، وذلك بعد تمكن الدول الاستعمارية من تشظية المشرق العربي إلى دويلات ضعيفة عقب توقيع معاهدة سايكس بيكو عام 1916، حيث غدا لبنان مسرحاً لتوازنات دينية وطائفية هشة، أثبتت الأيام قابليتها للانهيار وتفجير الصراعات الدموية أكثر من مرة.
ويكاد المسلسل ذاته يتكرر في العراق تحت هيمنة قوات الاحتلال الأمريكي. إذ يقف العراق اليوم على شفير حرب أهلية طاحنة تعصف بعشرات الأبرياء من أبنائه كل يوم، مردها الخلافات الطائفية والمذهبية، التي يسهم الاحتلال الأمريكي بتحالفاته المغرضة وتوجهاته المنحازة لبعض الفئات على حساب فئات أخرى في تأجيج اشتعالها
وفي ذات الإطار، يحسن التنبيه إلى البرامج الأكاديمية التي تحرص الدول الغربية على إنشائها وتطويرها في الجامعات والمراكز الأكاديمية والبحثية، التي تنصرف عناية جزء كبير منها إلى دراسة الاختلافات المذهبية والفرق الغالية التي تزعم انتماءها للإسلام ـ وهو منها براء ـ في محاولة لرمي الدين الإسلامي بما ليس فيه من التناقض والانفلات والشذوذ ...الخ
3ـ السعي إلى إخضاع بلاد المسلمين واحتلالها:
كانت حروب الفرنجة على العالم الإسلامي، التي سماها البعض حروباً صليبية، قد انطلقت بذريعة تحرير المدينة المقدسة، أي القدس، من أيدي المسلمين (الوثنيين) في زعمهم. والواقع إن المجازر التي ارتكبها (الصليبيون) في المدن الإسلامية خلال تلك الحملات قد لا تعكس مجرد الخوف المرضي من الإسلام وأتباعه، بل تعكس درجة متقدمة من الحقد والرغبة في الانتقام. وكأن في الانتقام الدموي البشع من المسلمين ضرباً من ضروب التعويض عن الخوف المزمن منهم ومن دينهم. فقد روي عن أحد شهود العيان من رهبان الفرنجة الذين شهدوا احتلال (الصليبيين) لمدينة القدس سنة 492 هـ قوله: "كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغـارها! كانوا يذبحـون الأولاد والشباب، ويقطعونهم إرباً إرباً، وكانوا يشنقون أناساً كثيرين بحبل واحد بغيـة السرعة، وكان قومنا يقبضـون كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية !!! فيا للشره وحب الذهب، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث"
ويصف راهب آخر المجزرة نفسها دون أن يخفي شماتته بقوله: "حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القـدس وبروجها، فقـد قطعت رؤوس بعضهم، فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم، وبقرت بطون بعضهم؛ فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النـار؛ فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكـان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا"
ويبدو أن تلك الروح (الصليبية) الحاقدة على الإسلام والمذعورة منه قد ظلت تتلبس العالم الغربي حتى أيامنا، وربما كان هذا يفسر جزءاً من الهوس الغربي بمحاربة المسلمين وإخضاعهم إلى هيمنته. فقد ظل العالم الإسلامي محط أنظار المطامع الغربية التي تقنعت خلف الرغبة في نشر رسالة المسيح وإنقاذ ذلك العالم من تخلفه وانحطاطه!. وهو ما ترجم على شكل عشرات الحملات والمؤامرات الاستعمارية التي انتهت باحتلال معظم أرجاء العالم الإسلامي وتمزيق وحدته، بإسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1918.
وقبل ذلك بسنوات قليلة، وفي ظل الشعور المستمر بالتهديد المحتمل للإسلام، كانت بريطانيا قد دعت عام 1907 إلى تشكيل لجنة عليا تألفت من سبع دول استعمارية غربية، وذلك لمناقشة الخطر الذي تشكله الخلافة العثمانية الإسلامية على تلك الدول. وقد خلصت اللجنة إلى تقرير أكدت فيه أن مصدر الخطر الحقيقي على تلك الدول يتمثل في "الولايات العربية في الدولة العثمانية، وفي الشعب العربي المسلم الذي يعيش في تلك الولايات"
وقد خلص التقرير المذكور إلى الخروج بجملة من التوصيات أبرزها:
1ـ العمل على خلق حالة من الضعف والتمزق والانقسام في المنطقة
2ـ إقامة دويلات مصطنعة تتبع لتلك الدول الاستعمارية وتخضع لها.
3ـ محاربة أي شكل من أشكال الوحدة والاتحاد الروحي أو الثقافي أو التاريخي بين أبناء المنطقة.
4ـ وكسبيل لتحقيق كل ذلك، ينبغي إقحام حاجز بشري غريب يتمتع بالقوة على المنطقة، بحيث يجسد قوة معادية لسكانها، تنسجم في مصالحها مع مصالح الدول الإستعمارية الراعية لذلك الكيان المختلق، الذي لعب دوره بإتقان مميز الكيان الصهيوني الغاصب
وتتعدد الشواهد التي تؤكد استمرارية حضور الذهنية التي انطلقت منها (الحروب الصليبية) في أعماق الكثيرين من أبناء الغرب حتى عصرنا الحديث. فعلى سبيل المثال، عندما احتلت القوات البريطانية مدينة القدس سنة 1917 بقيادة الجنرال (اللنبي) الذي كان أول غربي يدخل المدينة منذ تحريرها على يد صلاح الدين الأيوبي، هتف (اللنبي) معلناً: "الآن انتهت الحروب الصليبية"
وعندما اجتاحت القوات الفرنسية مدينة دمشق بعد انتصارها في معركة ميسلون عام 1921، توجه قائد القوات الفرنسية الجنرال (غورو) إلى قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاًً "أنظر يا صلاح الدين ها قد عدنا"
ويقال أن في جنوب فرنسا، وفي المكان الذي انطلقت منه الحروب الصليبية على وجه التحديد، جمعية تعقد اجتماعاً دورياً كل عام حتى يومنا هذا لاستحضار الأجواء التي احتضنت ولادة الحروب الصليبية، حيث يتم في الاجتماع إلقاء الخطب المحاكية لخطبة البابا (أوربان الثاني) الذي أعلن عن انطلاق تلك الحروب، كما يجري إعادة تمثيل انطلاق الحملة الصليبية الأولى
وتشكل (زلة اللسان) الشهيرة للرئيس الأمريكي الحالي (جورج بوش) التي انزلق فيها إلى القول بأن حربه على الإرهاب بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول هي (حرب صليبية) مؤشراً مهماً على استيطان فكرة الحروب الصليبية في أذهان كثير من رجال السياسة في العالم الغربي، وتعبيراً عن إرث غربي قديم يتم توارثه، وبخاصـة في الولايات المتحدة الأمريكية التي شهدت بعد تلك التفجيرات استحضاراً صاخباً لتلك الفكرة
فعلى سبيل المثال، يجاهر القس الأمريكي (فيليب بينهام) بالدعوة عبر منابر الإعلام إلى إطلاق "الحملة الصليبية ضد الشر لإنقاذ الولايات المتحدة… عن طريق كشف كذبة اسمها الإسلام، معلناً أن "النبي محمد ذبح الملايين منذ ظهوره مطلع القرن السابع"(
وتكمن المفارقة في تقاطع هذا الخطاب مع خطابات علمانية تتردد أصداؤها في دهاليز السلطة والإعلام الأميركي، مرددة المفردات العدائية للحروب الصليبية، وداعية لانقسام العالم إلى معسكرين متناقضين: أحدهما خيّر ومتحضر، والآخر ـ وهو المعسكر الإسلامي ـ شرير وبربري
4ـ تفعيل أنشطة التنصير:
ربما كان من الجائز القول إن هناك علاقة طردية بين ازدياد المخاوف الغربية من الإسلام وتصاعد وتيرة الأنشطة التنصيرية التي يلجأ إليها، وكأن في السعي إلى تنصير المسلمين وإدخالهم في "المحبة المسيحية" شكلاً من أشكال الحيل الدفاعية للتعويض عن كراهيتهم!. فعلى سبيل المثال، وقبل أن يمضي وقت طويل على جفاف حبر المعاهدة التي وقعتها مملكة إسبانيا مع الأمير (أبو عبد الله الأحمر) آخر أمراء غرناطة سنة 897هـ، تم إنشاء ما عرفت تاريخياً بمحاكم التفتيش، التي تورطت باقتراف كثير من الفظائع والمجازر بغية إجبار المسلمين على ترك دينهم واعتناق الديانة المسيحية. وكان أول ما قامت به تلك المحاكم هو جمع كل المصاحف والكتب العلمية والدينية وإحراقها على الملأ في ساحة عامة، كخطوة أولى لتنصير المسلمين بقطع صلتهم مع كتبهم الدينية والتراثية والعلمية. ثم عمدت عقب ذلك إلى تحويل المساجد إلى كنائس، وإجبار من تبقى من الفقهاء وأهل العلم على التنصر، ليوافق بعضهم مكرهاً ويواجه بقيتهم القتل شر قتلة، مع التمثيل بجثث الضحايا، وذلك لبث الهلع في صفوف المسلمين وإيصال رسالة لهم مفادها التخيير بين التنصر أو التعذيب والقتل وسلب الأموال والممتلكات
أما في عالم اليوم، فتشهد عملية التنصير نشاطاً محموماً في العالم الإسلامي، وبخاصة في البلدان الفقيرة التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي، التي يؤمن الغرب أنها تشكل بيئة مناسبة لتفريخ ما درج على اعتباره إرهاباً. ففي أفغانستان وحدها على سبيل المثال، التي تولت الولايات المتحدة الأمريكية قيادة حملة عسكرية شعواء لإسقاط نظام طالبان الإسلامي فيها بذريعة دعمه للإرهاب، هناك حالياً ما لا يقل عن (1000) منظمة أمريكية وأوروبية تعمل في مجالات الإغاثة والتنمية، يمارس كثير منها أنشطة تبشيرية مختلفة. الأمر الذي دفع القس (بن هومان) رئيس إرسالية التنصير المسيحي المجرية إلى أن يصرح في عام 2003، وبعد زيارة استطلاعية استغرقت شهراً كاملاً، عن اعتقاده بنجاح "عقيدة التثليث" في تثبيت أقدامها، وعن إمكان نجاح برنامج التنصير في أفغانستان
ظاهرة "الإسلاموفوبيا" في الوطن العربي:
مع صدمة احتكاكه بالغرب قبل قرابة القرنين، بات المجتمع العربي يعاني حالة من الانفصام والانشطار الحضاري، تتجسد وعلى شتى المستويات في سائر أنساق حياة ذلك المجتمع وتفاعلات أبنائه. فبات أسير التخبط والاضطراب والتصارع بين تيارين رئيسين يتنازعان الساحة: تيار إسلامي يعبر عن الفهم الذي حمله المسلمون للإسلام منذ وجد، الذي يدعو إلى جعل الشريعة مرجعية حاكمة وموجهة لسائر شؤون المجتمع، وتيار علماني ينادي بإقصاء الدين عن التدخل في مسائل إدارة المجتمع وتسيير أموره، ناظراً إليه ـ في أفضل الأحوال ـ باعتباره شأناً شخصياً بين الإنسان وربه، بما يذكر، إلى حد بعيد، بوجهة النظر السائدة عن طبيعة الدين في المجتمعات الغربية.