قال عنه
- أ. عاكف: تربَّى في مدرسة الإخوان وحفظ العهد على نصرة الدين
- د. الشافعي: عايش تقلبات الوطن العديدة وتفاعل معها بإيجابية
- د. قميحة: الفكرة الإسلامية عاشت في شخصيته وعلمه وعمله
- د. عوض: مدافع صلب لا يخشى في الله لومة لائم
- د. فهمي: بوفاته انقطع طوفان من العلم وحبل من المعرفة
رحل عن عالمنا الدكتور عبد الصبور شاهين عن عمر يناهز 82 عامًا بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض تاركًا وراءه آلاف التلاميذ الذين نهلوا من علمه الغزير، فاستحق أن يكون ممن لا ينقطع ذكرهم بعد الموت.
ويعدُّ الفقيد واحدًا من أشهر المفكرين في مصر والعالم الإسلامي؛ حيث عمل لسنوات طويلة أستاذًا متفرغًا في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وهو ما جعله يساهم في تكوين فكر الكثيرين، كما قضى فترةً من الزمن بقسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك فهد بالسعودية.
وحرص العالم الجليل على التواصل مع الجماهير من فوق منبر مسجد عمرو بن العاص؛ حيث كان الآلاف يواظبون على حضور خطبته ودروسه الأسبوعية في علوم القرآن قبل قيام الأمن بمنعه من الخطابة والتدريس نهائيًّا في المسجد؛ بسبب نقد الدكتور شاهين المتكرر لفساد الحكم ودعوته لتطبيق الشريعة الإسلامية باعتبارها السبيل الوحيد لكي تنجو مصر من مشكلاتها.
وخط العالم الجليل بقلمه أكثر من 65 مؤلفًا في كافة العلوم الشرعية كان أكبرها كتابه في شرح القرآن الكريم الذي سطَّر منه 10 مجلدات، وسماه "المفصل في القرآن الكريم"؛ وذلك بالإضافة إلى عدد كبير من المطبوعات التي أثارت نقاشات حادة بين العلماء والمفكرين؛ نظرًا لما طرحه فيه من أفكار جديدة.
وكان د. شاهين أول مَن اشترك مع زوجته في التأليف، وقد أخرجا معًا موسوعة "أمهات المؤمنين" و"صحابيات حول الرسول" في مجلدين، كما كان له الفضل في تعريب لفظ "كمبيوتر" بابتكاره كلمة "الحاسب الآلي" التي تم وضعها في العديد من المقررات الدراسية في معظم الدول العربية تقديرًا لمجهوده في تعريب العلوم والمصطلحات.
ودخل الراحل العديدَ من المعارك الفكرية مع التيار العلماني، وكان له دور كبير في انحسار فكره وتضاؤله، في مصر، وكان من أشهرها السجال الذي جرى بينه وبين د. نصر حامد أبو زيد واليوم ما زال شاهين واحدًا من أهم مَن تصدّوا لحرب تغريب البلاد والعباد وإبعاد الناس عن شمولية القرآن والتشكيك في السنة النبوية التي قادها البعض بضراوة خلال السنوات الماضية.
من جانبه قال الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد السابق للإخوان المسلمين: "مات شيخي وأستاذي وعالم الأمة وفقيهها وخطيبها، مضيفًا أن معرفته بالعالم الراحل امتدت منذ أكثر من 60 عامًا؛ حيث وجدت فيه خلالها الصحبة الطيبة والأخوة المباركة والمواقف الجادة.
وأشار إلى أن الراحل تربَّى في مدرسة الإخوان المسلمين، وحفظ العهد على نصرة دينه والعمل لكتاب الله، ومن أجل رفعة شأن الإسلام على مدار سنوات حياته، حتى لقي ربه محافظًا على الأمانة متمسكًا بها.
وأضاف أن د. شاهين صاحب مواقف بطولية وشجاعة دافع فيها عن الإسلام، وجاهد في الله حق جهاده، نحسبه كذلك ولا نُزكّي على الله أحدًا، ومهما تحدثنا لن نوفيه أجره.
وقال: "نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يتقبله في الصالحين ويُسكنه فسيح جناته، وأن يجزيه عنا وعن الأمة خيرًا، ويلحقنا به في زمرة النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا".
ويضيف الدكتور محمود عزت نائب المرشد العام للإخوان المسلمين: "نحسب الفقيد ممن أفنوا حياتهم من أجل هذا الدين العظيم، وضحّوا في سبيل الله بكل غالٍ ونفيس، ولم يخش في الحق لومة لائم".
وشدد على أنه تتلمذ على يد الدكتور شاهين وعلى يد شقيقه الدكتور عبد الرحمن، وتربطه به علاقات ود واحترام وتقدير بأسرته، مضيفًا: "نسأل الله العلي القدير أن يعوضنا ويعوض الأمة الإسلامية عن فقد عالمنا الجليل".
جهاد في محراب العلم
ويضيف د. حسن الشافعي رئيس الجامعة الإسلامية بباكستان ورفيق الفقيد في كلية دار العلوم جامعة القاهرة أن أسرة الدكتور شاهين لها باع طويل في العلم والجهاد؛ فابن عمه أحد شهداء أحداث القناة 52 وشقيقه أستاذ في كلية دار العلوم أيضًا.
واستطرد قائلاً: "صلتي به قديمة، فأنا أعرفه منذ 60 عامًا وهو شخصية ذات تأثير مميز تترك انطباعًا مختلفًا عند كل مَن يعرفه، كما أنه معروفٌ بثراء إنتاجه العلمي، فرغم أنه كان أستاذًا في فقه اللغة كان له في الوقت نفسه باع كبير في علوم القرآن والقراءات.
وأوضح أن الفقيد من براعته في تخصصه كان على درايةٍ واسعةٍ بعلوم عديدة منها الترجمة من اللغة الفرنسية؛ حيث أصبغ على الكتب المترجمة أسلوبه البارع العميق فكان سببًا في نشرها بما تحمله من علمٍ نافعٍ في العالم العربي وتعريفنا ببعض الإسهامات الغربية في العلوم الإسلامية.
وأكد أن الدكتور شاهين من الناحية العملية عايش تقلبات الوطن العديدة على مرِّ الأزمان وتفاعل معها إيجابيًّا, فحياته العلمية الطويلة لم تخلُ من شغبٍ وصراعٍ وانتصار تارةً وانكسار تارةً أخرى.
وشدد على أنه افتقد أخًا عزيزًا وعالمًا جليلاً ومجاهدًا في سبيل الحق لا مثيلَ له, وأن ألم فراق عبد الصبور شاهين لا يُحتمل، ولكن أنا على أمل أن يجمعنا الله تعالى في جنات الخلد وأن يحشرنا مع الأنبياء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
ويصف الدكتور جابر قميحة أستاذ الأدب العربي الراحل بأنه كان أمةً، وعاش من أجل الفكرة الإسلامية سواء في شخصيته وعلمه وعمله، علاوةً على إصراره على نصرة الحق أينما وُجِدَ, كما أن الحديث عنه يحتاج لصفحات كبيرة لذكر مناقبه العديدة التي تنوعت وتجمعت في شخص واحد.
ويصف الدكتور جابر قميحة أستاذ الأدب العربي الراحل بأنه كان أمةً، وعاش من أجل الفكرة الإسلامية سواء في شخصيته وعلمه وعمله، علاوةً على إصراره على نصرة الحق أينما وُجِدَ, كما أن الحديث عنه يحتاج لصفحات كبيرة لذكر مناقبه العديدة التي تنوعت وتجمعت في شخص واحد.
ويكشف د. قميحة أن أول مرة تعرَّف فيها بالدكتور شاهين كانت في كلية دار العلوم؛ حيث كان يشد الأنظار بعلمه الغزير وطلاقة حديثه وكلامه المرتب, فكان أول مَن جذبني إليه من شباب الإخوان، خاصةً عندما كان يتحدث عن القرآن وفضله في إحدى قاعات دار العلوم بالمنيرة.
وأضاف أن شاهين كان شعلة نشاط وطاقة ضخمه انعكست على كل أفعاله فكان إذا مشى تعتقد أنه يجري، وإذا ناقش وعالج أحد أبواب العلم استوفاه لآخره, وكان- رحمه الله- دارسًا للغة الفرنسية بصورةٍ وافيةٍ مكَّنته من ترجمة العديد من الكتب والمجلدات للغة العربية، وكان من أولها كتاب (دستور الأخلاق في القرآن) لعبد الله دراز؛ حيث ترجمه ترجمةً بارعةً تنمُّ عن تميز واختلاف عن باقي التراجم، فقد تمتع بأسلوبٍ يتسم بالعمق والوضوح ويؤكد لمَن يقرأ له أنه صاحب علم لا ينضب.
ووصف الراحل بأنه كان ذا ملامح وضيئة ومتعددة، والدور الذي قام به في الدفاع عن الشريعة الإسلامية واللغة والفقه أكبر من أن يقوم بإنكاره أي إنسان.
ويتذكر د. إبراهيم عوض الأستاذ بكلية الآداب جامعة عين شمس بأنه تعرَّف على الدكتور شاهين عن طريق أعماله العلمية وتراجمه التي كانت تشعُّ نورًا في دلالةٍ على علمه الغزير، وأوضح أن أول ما اطلع عليه هو تراجمه الرائعة للفيلسوف الجزائري (مالك بن نبي) قائلاً: "لولا ما قام به شاهين ما كنا لنسمع عن هذا المفكر العربي الكبير".
وأشار عوض إلى أن كتابات الراحل تتميز بأسلوبها الجمالي الخلاب الذي يتميز به عكس باقي الباحثين الذين يصيغون أعمالهم دون الاهتمام بجودة الأسلوب، وهو ما جعله مختلفًا عنهم.
وقال: زاد الإعجاب به بعدما علمتُ مدى إتقانه للغة الفرنسية دون أن يتعلمها على يد معلم أو يذهب باريس؛ ليحصل على الدكتوراه، فهو راجل عصامي كوَّن نفسه بنفسه، واعتمد على عقله، وهو ما يعكس مدى الثراء الفكري الذي يتمتع به.
وأضاف أن ما شدني إليه أيضًا نشأته الأزهرية، وحفظه القرآن وعنايته بتعلُّم العربية، وهو ما يشير إلى أنه أخذ من كل شيء أحسنه.
وشدَّد على أن الراحل كان عالمًا لغويًّا بارعًا يتمتع بأسلوب كتابي مشرق ومتميز, كما كان له باع كبير في الفكر الديني والدراسات الإسلامية، كما كان له اجتهادات تدعو للتفكير والتدبر, بعيدًا عن التنطع والتشدد، كما كان خطيبًا مفوَّهًا ليس له مثيل، وكان الشيخ الغزالي دائم المديح له ولعلمه ولأسلوبه، وكان دائمًا يشبِّهه بالشيخ العز بن عبد السلام، وكان يقول عنه "خير خلف لخير سلف".
وكشف د. عوض أنه لم يقابل العالم الراحل سوى مرة واحدة ليشكره على دفاعه عنه عندما هاجمه بعض الحاقدين دون أن يلتقي به من قبل؛ حيث طلبت الجامعة من الدكتور شاهين أن يكتب عني تقريرًا، وأضاف بكيتُ عندما رأيت الكلامَ الذي كتبه عن رجل لم يرَه من قبل، موضحًا أن الفقيد تعامل معه في تلك الزيارة اليتيمة وكأنه يستقبلُ صديقًا قديمًا، وليس مشددًا على أنه كان رجلاً مرحًا لا تفارق الابتسامة شفتيه.
ويصف د. خالد فهمي (أستاذ علم اللغة بجامعة المنوفية) رحيل الدكتور شاهين بأنها أشبه بالطوفان الهادر الذي توقَّف جريانه وجبل علم انقض، مضيفًا أن المتأمل في عطاء الرجل يكتشف أننا أمام نمطٍ فريدٍ من الذين قدَّموا خدمات جليلة للعلم والثقافة العربية والإسلامية المعاصرة.
وقال: إن التوقف أمام نعي الدكتور- رحمه الله- يردنا إلى نمطٍ من التكوين المعرفي والوجداني لرواد الفكرة الإسلامية؛ ذالك أنه اجتمع في تشكيله 4 صفات، وهي: أولاً: الجانب التراثي بوحي من بدايته الأزهرية الأولى, ثانيًا: انتماؤه للثقافة العربية لدراسته في دار العلوم وتخرجه منها, ثالثًا: بالإضافةِ إلى ما حصَّله من معرفةٍ غربيةٍ بعد إتقانه اللغة الفرنسية بصورةٍ فريدة ساعدته على ترجمة نصوص لهنري فليش اليسوعي، وبارتيل ماليم بيرج، ومالك بن نبي، ومحمد دراز وغيرهم كثيرين, بالإضافةِ إلى هذا كله فإن صحبته لأعلام عصره من العلماء مثل محمود شاكر محمود قاسم، ومحمد فؤاد عبد الباقي، وعامر عثمان وغيره ممن أثَّرت فيه بصورةٍ كبيرةٍ، وجعلته متفوقًا على الكثير من أقرانه.
وأوضح د. فهمي أن تلك الروافد الأربع ظهرت في تجليات ثلاث, أولاً إنتاجه العلمي في حقل تخصصه؛ حيث أسهم في معالجة عددٍ من قضايا اللغة العربية، كما أن تراجمه توزَّعت على خدمة علم اللغة والفكرة الإسلامية, أما حركته فاشتبكت مع واقع الصحوة من خلال نشاطه في أقدم مسجد في إفريقيا- مسجد عمرو بن العاص- والذي أوصى بأن يُشيَّع منه جثمانه.
وأشار إلى أنه ليس بالخافي أن الحركة الإسلامية ممثلة في الإخوان المسلمين تعتز بإسهامها في تكوين هذا العالم الجليل؛ حيث لعبت دورًا كبيرًا في تشكيله وتنمية توجهه من أجل مناصرة الوسطية.
ويشدِّد د. أحمد الهندي (أستاذ اللغة العربية بجامعة عين شمس) على أن الفقيد كان أمةً في رجل؛ حيث أعطى مثالاً عمليًّا على العالم الرباني التي تجمَّعت فيه كل الصفات من تقوى وخلق وتواضع وعلم وعمل وجهاد وثبات على الحق.
ولفت إلى أن د. شاهين كان من أقوى علماء اللغة العربية، كما أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته وتراجمه المميزة من حيث الشكل والمضمون وأسلوب الصياغة وروعة الأداء, وأضاف يحسب له أنه كان ربانيًّا يعشق القرآن ويعمل به وبخسرانه فقدنا أحد أميز علماء اللغة العربية في مصر والعالم.