لقد أصبحت عملية إثبات وجود الله مسألة ذات أهمية بالغة، بالرغم من أن إثبات وجوده ليس في حاجة إلى كثير من العناء، فالشعور بوجود الله سبحانه وتعالى تحكمه الفطرة المخلوقة في الإنسان، أي هو أمر غريزي يشعر به الإنسان، وهو ليس في حاجة إلى كثير من العناء، وقد وجد كل من فتح عينيه على الإسلام ونشأ في أحضانه الراحة والاطمئنان بالإجابات التي حصل عليها في تفسير مسألة خلق الكون والإنسان والحياة، وعلى وجه الخصوص عندما كان حكم الله قائماً، وعندما كانت دولة الإسلام تعمل على فتح كل الأبواب والنوافذ والقنوات لطلب العلم وتلقي العلم وتدريسه، ومجادلة أمر العقيدة وما يتعلق بها، ومجادلة ما يخالفها .
فكان سهلاً على الإنسان أن يتلقى العلم فيما يتعلق بأمر وجود الله ويجادله ويمحص الحق فيه، فضلاً عن كونه مطبقاً في الواقع من خلال أحكامه ونظام الإسلام، وقرب فكرة وجود الله إلى العقل والقلب، بأن يرى الإنسان عدل الله ورحمتَه وكرمَه وحكمتَه وقدرته وحبَّه لعباده، وذلك من خلال نظامه (أي دينه) الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكان سهلاً على المسلم في حكم الإسلام أن يرى النقيض من الإسلام عند الأمم الأخرى، وأفكار الكفر بوجود الله عندهم، ومآلها الخسيس عليهم وعلى المجتمعات والأمم غيرهم .
ذلك الواقع كان مُيسِّراً ومُقرِّباً لعقول الناس وقلوبهم ومشاعرهم بوجود الله، وبالقرآن وبرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بخلاف الواقع الحالي الذي تعمل كل ظروفه بإبعاد العقول والأفهام والقلوب والمشاعر بوجود الله، وإبعادها للتعرف على دين الإسلام على وجهه الحقيقي، بل وبالتدليس على الناس والإصرار بالعمل على إثبات عدم وجود الله، وأن الكون هذا كله مادة ليس لها خالق، وهي التي خلقت نفسها، فلا وجود بزعمهم لخالق للكون والإنسان والحياة .
نعم لقد اضطررنا للحديث عن إثبات وجود الله اضطرارا، وذلك لأن كل القناعات باتت تتحول في يومنا عن الإيمان بوجود الله بالإنكار على الفطرة السليمة والتشكيك فيها، وبفضل قفل أبواب العلم الجدلي العميق المستنير بطريقة التلقي من العلماء الربانيين، وبفضل إزاحة حكم الله من الواقع، وبفضل فرض فكرة المادية (عدم وجود الله) على عقول الناس وأفهامهم عن طريق القنوات العلمية والتعليمية والأكاديمية وغيرها، وعن طريق وسائل الإعلام والقنوات الفضائية والأفلام الأمريكية وغيرها .
وجود الله، بالرغم من شعور الإنسان به ووجوده في فطرته، إلا أنه يجب على الإنسان أن يثبت وجوده عقلاً، فالفطرة لوحدها لا تكفي لهداية الإنسان، لأنها قد توصله إلى عبادة النار أو الأوثان أو الشجر أو المطر أو غير ذلك كثير .
ولقد تحدثنا عن الإثبات العقلي المستند إلى الحواس، كالذي يرى سيارة أمامه ويدرك وجودها وماهيتها (وهذا هو الدليل العقلي)، أو كالذي يرى سيارة أمامه ويؤمن بوجود طاقة (بنزين، مازوت، كهرباء أو غيره) تحركها وهو لم ير الطاقة، بل وبإمكانه أن يستدل بمن صنع هذه السيارة، الله أم الإنسان، ويستدل عن ماهية وطبيعة صانعها وقدرته ومستوى إبداعه وهو لم يره (وهذا ما يسمى الاستدلال العقلي)، فالدليل والاستدلال العقلي كلاهما واحداً .
وهكذا فبالإمكان الاستدلال حتماً بوجود خالق لهذا الكون، والاستدلال حتماً بأن هذا الكون عاجز عن أن يخلق نفسه، فهو كائن عاجز على أن يقوم بأي فعل، قليله أو كثيره، فضلاً على أن يخلق شيئاً أو أن يخلق نفسه، والاستدلال حتماً أن هذا الكون إنما هو خلق عظيم ومُعجِز ورفيع الصنع ومُحكم، ومُطلق الإبداع والإتقان، كما نرى في خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان والحيوان والنبات، وليس هو خلق عشوائي مضطرب متداخل المقاييس الرياضية والفنية وبلا ضابط ولا إتقان .
بهذه الكيفية يستطيع الإنسان حتماً أن يدرك وجود خالق لهذا الكون، بل ويستطيع أن يدرك صفات هذا الخالق من خلال عظمة الخلق، وإدراك مستوى إبداع هذا الخالق، وقوة حكمته ومنتهى عظمته، هذه هي الطريقة الفطرية، وهي الطريقة العقلية السليمة في التفكير والبحث عن وجود خالق لهذا الكون .
هذه هي الطريقة التي يُستند إليها عادة في التحقيق والبحث في أعقد الأمور وشائكها، ومن خلالها تستنتج أعظم الحقائق، وعليها يعتمد القضاء بين الناس، وهي الطريقة التي لا يصح أن يؤمن الإنسان في مسألة خلق الكون والإنسان والحياة بدونها، وهي الطريقة التي أمر الله عباده الاستناد إليها في إيمانهم به ودخولهم في الإسلام، وهي الطريقة التي أعجزت كل أصحاب العقائد الأخرى بجرأتها ووضوحها وقوتها وخلوها من الأوهام والخيالات، وهي الطريقة التي استمد الإسلام وعقيدته قوته منها .
إلا أن هذه العقيدة بعد أن غُيبت كما ذكرنا وتعرضت للتشويه والتحريف، أدخل الكفار من الشيوعيين والعلمانيين وغيرهم فلسفاتٍ قوية تناقض فكرة وجود خالق لهذا الكون والإنسان والحياة، كفكرة التطور المادي، وفكرة "من خلق الخالق؟"، ونشوء البيضة أولاً أم الدجاجة، هذه الفلسفات للأسف لم تجد من يرد عليها من كثير من علماء المسلمين الحاضرين أو خاصتهم أو عامتهم .
فكرة التطور المادي هي فكرة أن الكون كله كان كتلة صخرية واحدة، انفجرت قبل بلايين السنين، وكوّن هذا الانفجار مجموعات شمسية متعددة ومتفرقة تعلقت في السماء، كل مجموعة كان لها فلك خاص بها، منها المجموعة الشمسية التي نعيش بها، حيث كان من نصيب الكرة الأرضية أن تعرضت لظروف بيئية خاصة أنتجت الخلية الأميبية الأولى، التي هي منشأ الحياة على الكرة الأرضية وهي منشأ كل المخلوقات الحيوانية، مروراً بالزواحف التي أصبحت ذوات أربع، ثم أصبح بعضها قروداً، ومن القرد نشأ الإنسان .
هذا السخف النظري الذي قام به الكافرون أياً كانوا، ثبت علمياً في آخر المطاف بعد أن ضللوا الناس قرناً من الزمان، ثبت على لسانهم هم أن هذه فكرة لا أساس لها من الصحة، لا من حيث الجينات الوراثية، ولا من حيث تطور الجينات، ولا من حيث نشوء المعلومات السابقة التي تتكون في الدماغ، ولا من حيث تطور عقل الإنسان المميز عن باقي المخلوقات، إضافة إلى حقائق عديدة لا طائل لها، تثبت حتى للأعمى أن خلق الكون والإنسان والحياة هذا يستحيل أن يكون نتيجة عشوائية متراكمة، أو كما قالوا نتيجة صدف متتالية ومتراكمة .
أما فكرة من خلق الخالق فهي فكرة عقيمة تظهر من السؤال نفسه، وخدمتها هي التشويش على عقل الإنسان السّوي، فالخالق لا يمكن أن يكون مخلوقاً وخالقاً في آن واحد، أي لا يمكن أن يكون هناك من خلقه ويقوم هو بخلق غيره، لأن المخلوقات يجب أن تكون مخلوقة من عدم وليس من تجميع مواد الخلق من خالق آخر، أو من خالق أكبر منه أو دونه، فالخالق لا بد أن يكون هو الأول والآخر، لا قبله أحد ولا بعده أحد، واسم الخالق لا يعني إلا قدرة خلق الشيء من العدم، بقدرةٍ ليست كقدرة المخلوقات الضعيفة العاجزة التي لا تقوى حتى على خلق ذرة تراب، بل تستند هي في وجودها إلى خالقها من ناحية أصل منشئها وطبيعة نموها وتطورها وحتى فنائها ، ويظهر عليها العجز وهي تستخدم ما سُخّر لها من مواد للصنع، فتقوم بتجميعها وتوليفها وتطويرها، فآلة هنا وجهاز هنا وطائرة هناك يخدم مصالحها .
فالخالق بالتالي واحد غير متعدد، ولا يستقيم في صفته كخالق أن يكون مخلوقاً كصفة مخلوقاته، وإلا كان عاجزاً عن الخلق، ولا يستقيم في صفته أن يكون هناك خالق غيره، أو مكافيء له . وسبحان الله العظيم.
قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة، آية 164
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون
وقال تعالى في سورة غافر 57
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون
وقال تعالى في سورة الأنعام آية 73
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ، قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير