الأربعاء، نوفمبر 25، 2009

تأملات فى الحج و حكمته

لست أتحدث عن مناسك الحج وشعائره، فقد أبان شيوخنا العلماء قديماً وحديثاً كل ما يجب في ذلك، معتمدين على القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.. لكنني خالجتني خواطر وتساؤلات عن حقائق هذا الركن الخامس من أركان الإسلام.. لماذا؟ وما عرفات؟ ولماذا الحج عرفة؟
جاءت كلمة الحج إحدى عشرة مرة في القرآن الكريم، منها ثماني مرات في سورة البقرة، وأخرى في سورة آل عمران، والعاشرة في سورة الحج، والأخيرة في سورة التوبة. تأملت طويلاً عند قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) إنه بحق الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم عامة.. وهذه الآية خاصة، (ولله) تقديم الجار والمجرور (لفظ الجلالة) على سائر كلمات الآية هو من باب القصر البلاغي المراد به التخصيص، والحصر (لله) أي لله وحده.. ثم إن اللام تشعر بالملكية بجانب التخصيص، (على الناس) تقديم آخر على المراد (حج البيت) يوحي هذا التقديم البلاغي بحصر الحج بحتميته على الناس، ومن هذا نجد أن من أنكر الحج فهو كافر.. كما نجد أن الحج بفرضيته يكون مرة واحدة في العمر - ولمن استطاع إليه سبيلاً ، وقد أسهب الفقهاء في تحديد (السبيل).. ويوحي قوله تعالى: (على الناس) بحصر الحج وفرضيته على الناس فقط، فليس هناك من يحج غير الناس.. كالصلاة.. والصوم.. فالعبادات الأخرى لله تعالى كالتسبيح مثلاً يقوم بها كل المخلوقات (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض). الحج عرفة.. وعرفات ملاصقة لحدود الحرم المكي، ومكة أشرف بقاع الأرض، هي أول بيت لله في الأرض (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين)، وفي فضل مكة وحرمتها أحاديث نبوية شريفة كثيرة، تؤكد ما لها من قدسية، منها قوله - صلى الله عليه وسلم - (هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة).
لقد شاء الله أن يجعل هذا البلد حراماً إلى يوم القيامة، فقد أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يرفع قواعد البيت، فقام إبراهيم ببناء البيت العتيق، يحمل الحجر من على كتف ابنه إسماعيل وهما يقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) فكان أن حقق الله دعاء إبراهيم، وجعل هذا البيت مثابة للناس وأمناً، محفوظاً من كل شر ومكروه.. آمناً من كل عبث واعتداء.. ويكرم كل من حوله بهذه المكرمات الإلهية، بل البلدة كلها مكة المكرمة بلداً آمناً.
وأعود إلى عرفات.. لماذا سمي المكان (عرفة - عرفات)؟. أقوال كثيرة أميل إلى أن المسلمين يتعارفون فيه، وقد قال البعض إنما سميت عرفات لأن آدم لما أهبِط من الجنة وكان ما كان من فراقه حواء فلقيها في ذلك الموقع فعرفها وعرفته.
الحج.. مؤتمر سنوي عالمي.. وليس هناك على مدى التاريخ مؤتمر سياسي أو اقتصادي أو علمي يعقد كل عام بانتظام، وتحضره كل الدول كما هو الحال في الحج، يأتي الحجاج من دول العالم.. لا يُمنَع طالب حج مهما كانت السياسة في دولته، يأتي الحجاج في أيام معلومة.. آمنين لا خوف ينتابهم، ميسرة لهم الأمور لا تعثر يمنعهم.
في الحج زماناً ومكاناً يتحقق الأمن والأمان الذي تدعو إليه الدول والأمم، وتسعى إليه الحكومات قدر المستطاع، جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - واختار الله مكة أرضاً مباركة، وأعلنها حرماً آمناً، أي أرضاً منزوعة العنف والأذى، (أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم..) فأمَّن الله الناس في الحج على أرواحهم، وممتلكاتهم، وأعراضهم، أمَّنهم حتى من سماع القول القبيح اللفظ السيئ (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) بل أمن الطير والحيوان.
ما أعظم أمن الإسلام - ما أشمل الأمان في البلد الحرام.. أمان سائر في موسم الحج، وقبله وبعده، فهل هناك مثل ذلك في أي مكان أو زمان على مدى التاريخ.
في الحرم المكي الشريف، في عرفات.. في منى.. ألغيت الفروق البشرية، ونزعت الشعارات المختلفة، وليست هناك عنصرية، ولا طائفية، ولا جنسية.. الحجاج من كل بلاد الدنيا معاً في موقع واحد، وزمن واحد، وفي زي واحد.. آمنين.. يدعون ربهم وخالقهم ما يشاؤون.. وهم جميعاً في هذا الموقع مجتمعون.
تقفز إلى فكري هذه الحالة التي لا مثيل لها مقارنة بما نحن فيه اليوم من الطائفية العنصرية الممقوتة. ومن الاضطرابات والأحداث في الوطن الواحد.. المتكررة المفسدة.. وما يشتعل كل يوم من اعتداءات سافرة، وتفجيرات مرعبة.. سلاح قاتل، وهجمات غادرة.. كل ذلك يقتل الأمن الذي يجب أن تنعم به البشرية - ويقضي على الأمان الذي يجب أن يعم سائر الدنيا.
أقول للعالم المتمدن المتحضر.. لكن بعضه بحق هو عالم معتد غادر.. أقول لهم: تعالوا وتعلموا من الحج حقائق الأمن، والتزموا جميعاً بما فيه من حقائق الأمان..
إن النهج الذي شرعه الله في حرمة هذا البيت الحرام سابق لكل المحاولات البشرية في إيجاد منطقة منزوعة السلاح، أو إيجاد مناطق أمن، أو فصل بين الأعداء تحقن فيها الدماء، ويجد كل إنسان مأواه.
هل لنا اليوم أن تنعم البشرية كلها بما تنعم به مكة المكرمة، وأماكن الحج المقدسة من الأمن والأمان، والراحة والتأدب في القول والعمل، وكل ما يضر بالإنسان.
هل لنا في عالم اليوم الذي توصف بعض أقطاره بأنها البلدان المتطورة والسابقة لغيرها علماً، وحضارة، ومدنية.. هل لنا أن ننبذ ما بيننا من عصبيات إقليمية، وعداوات عرقية.. فلا أسود أقل من أبيض، ولا أحد من قارة إفريقية أو آسيوية أدنى من أحد من قارة أوروبية أو أمريكية.
المتأمل لفضل الله على البشرية بالحج وما فرض فيه من التزام بالأعمال والأخلاق يجد أن هذا هو شأن الحياة التي تليق بالإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض.
خاطرة أخرى بعد هذه الصورة الرائعة من الأمن والطمأنينة والمساواة، عندما يكون هناك احتفال أو اجتماع سياسي أو فني يحاول كل مدعو التزين بكل جميل الملابس وفاخر الثياب، والسيدات في ذلك أفظع تنافساً، وأشد تباهياً.. ولكن هذا المؤتمر السنوي الكبير الذي تحضره عدة ملايين من كل بقاع الدنيا من المسلمين في كل أنحاء الوجود، بينهم الفقير، المعوز، والغني الفائق الثراء.. والميسور الحال، والموظف الصغير، والمدير أو الرئيس الكبير.. لكنهم جميعاً بلا مباهاة في الثياب، ولا تفاخر في المظاهر.. الكل سواء في الملبس.. شكلاً ولوناً.. الكل سواء في الحضور والعمل بما هو مطلوب، والكل ملتزم بما هو محدد للحضور منذ دخوله هذا البقاع الطاهرة وحتى يخرج منها.
خواطر كثيرة، وصور متعددة تراودني الآن وأنا أكتب عن الركن الخامس من أركان الإسلام، والشعيرة الكبيرة من شعائره.
هذه الملايين التي تأتي إلى البيت الحرام، وتعيش أيامها في مكة المكرمة وعرفات، ومنى، وتنال حظها من الطعام والشراب، هذه الملايين جميعها تأكل، وتشرب، وتشتري كل ما يلزمها وما نقص في يوم شيء.. ما سمعنا أنه نفد طعام، أو خلت المحلات منه مثلاً.. وأثق أنهم لو كانوا اجتمعوا بهذا العدد في أي مكان آخر لحصل تأزم في الطعام وارتباك في الاتصال.
إن هذا هو التفضل الإلهي المستمر استجابة لدعوة سيدنا إبراهيم (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).
المسلمون في هذا المؤتمر الإسلامي الكبير جاؤوا والأمل أن تخلو نفوسهم من كل شر، وتطهر قلوبهم من كل ضغن وحقد، وليتهم مجتمعين لتبادل الرأي حول حياة المسلمين، ويعملون جهدهم لتحقيق التعاون الإنساني، وتثبيت دعائم السلام العالمي.. وكثيراً ما تعقد مؤتمرات إسلامية في أوقات متفاوتة، ويحضرها علماء ورؤساء الكثير من الدول الإسلامية، لكن المؤتمر الأعظم هو الحج الأكبر الذي يجب أن يكون الأكثر تحقيقاً لخير المسلمين، وإزالة الشرور والخصومات بينهم أجمعين،. ولو أنه استثمر استثماراً كحقيقة ما فرض له لتغير وجه الحياة تغيراً كبيراً.
وصورة أخرى أمامي الآن.. وهي ازدياد عدد الحجاج كل عام، إنها ظاهرة تبشر بالخير، وتسعد النفس.. لكن فيها بعض ما يجب التخلي عنه، وهو تكرار الحج لشخص واحد كل عام، أو عام.. وعام، ونحو ذلك.. والحج من رحمة الله فرض على من استطاع إليه سبيلاً مرة واحدة، فما أحرى بهؤلاء الحجاج المداومين على الحج أن يكتفوا بأداء هذه الفريضة مرة واحدة، وأن يفسحوا المجال لغيرهم، حتى يخف الزحام، وتقل المشقات، وإذا أراد أحدهم التزود من الخير فليساعد فقيراً على أن يحج، ليكون له الثواب كما لو حضر بنفسه، وليت قراراً رسمياً يلزم بذلك.
صورة أخرى.. هذه الملايين القادمة من شتى بقاع الدنيا تجد الآن - بحمد الله - كل شيء سهلاً ميسوراً.. الإقامة، والتنقل، والحضور، والسفر، والسعي والطواف، ورمي الجمرات بعد الوقوف بعرفات، جنّد الله تعالى بلادنا للقيام بهذه الخدمات الدائمة لعبادة الحجاج.. واحمد الله أنها تقوم بذلك خير قيام.
حجاً مبروراً للذين هيأ الله لهم شرف هذا العمل، وعوداً حميداً إلى أوطانهم، وعيداً مباركاً لكل أبناء الأمة الإسلامية.. أعاده الله على الجميع باليمن والمسرات.
وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.