لقد عني الكثير من العلماء بدراسة الوراثة والكشف عن قوانينها، وبخاصة الفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي وابن خلدون، ولقد أقر الإسلام قوانين الوراثة وحث الناس على الإفادة من خيراتها واتقاء شرورها[1].
وفيما يتعلق بموقف الإسلام من موضوع الوراثة والإصابة بالأمراض الوراثية فقد ذُكر الكثير من الآراء والأقوال حول هذا الموضوع من قبل أهل الشريعة من المتخصصين في الأسرة والطفولة والعلوم الاجتماعية والطبية بصفة عامة[2] مؤداها أن الإسلام قد حث على الزواج من الغريبات وحذر من الزواج من القرابة القريبة حرصا على قوة النسل ونجابة الولد وللوقاية من الإصابة بالأمراض الوراثية التي تنتقل من جيل إلى جيل، استندت تلك الآراء التي حذرت من الزواج من القريبات لعدة مسوغات أهمها (أن الزواج من القرابة القريبة يضعف إحساس الزوج بزوجته لأنه اعتاد النظر إليها، والنفس تشتهي كل ما هو غريب وجديد عنها، كما أن الزواج من الغريبات يوطد العلاقات الاجتماعية وينشئ صلات جديدة ويكون الود والتعاون والألفة بين الأسر في المجتمع، لدرجة أن بعض أهل الشريعة اعتبر أن الزواج من القرابة القريبة يعد أحد موانع النكاح، اعتمدت هذه الآراء والأقوال المشار إليها على مجموعة من الأحاديث التي اشتهرت على الألسنة.
ومن أمثلة هذه الأحاديث ما يلي:-((تخيروا لنطفكم فإن العرق نزاع)).((تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)).((اغتربوا لا تضووا)).يتضح مما سبق أن الإسلام وكذلك العلوم الطبية والاجتماعية ترشد في مجملها إلى الزواج من الغريبات وتحذر من الزواج من القرابة القريبة حرصًا على قوة النسل، وللوقاية من الأمراض الوراثية، وهذا هو الاعتقاد السائد والشائع في معظم الكتب والمؤلفات على اختلاف تخصصاتها ويلقى القبول لدى الكثيرين، إلا أن الباحث تمكن من التوصل إلى أحد البحوث النظرية القيمة بعنوان: (زواج الأقارب بين العلم والدين)[3]، قام بهذا البحث أحد الأساتذة المتخصصين في علم الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر ومن خلال الرجوع إلى مجموعة كبيرة جدًّا من أمهات الكتب المتعلقة بألفاظ الحديث النبوي والكتب التي تتعلق بعلم تخريج الأحاديث والكتب التي تضمنت الصحيح والضعيف والمكذوب وكتب تخريج الأحاديث الفقهية، انتهى من ذلك إلى حقيقة هامة وهي أنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث واحد صحيح ينهى فيه عن الزواج من الأقارب أو يحث فيه على الزواج من الغريبات، وأن جميع الأقوال والأحاديث المشار إليها سابقًا والتي اشتهرت على ألسنة الكثيرين وفي كتبهم لم تثبت صحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلل لذلك بقوله: كيف ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء وقد دلت السنة العملية على خلافه؟ فلقد تزوج من أقاربه ومنهم السيدة خديجة رضي الله عنها لها صلة نسب بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها ابنة عمته، كما زوج صلى الله عليه وسلم بناته جميعهن من الأقارب، فقد زوج ابنته زينب رضي الله عنها من أبو العاص ابن أخت السيدة خديجة رضي الله عنها، وزوج السيدة رقية رضي الله عنها من سيدنا عثمان رضي الله عنه وهو يشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في النسب، وزوج السيدة فاطمة من علي بن أبي طالب ابن عمه صلى الله عليه وسلم، وزوج أم كلثوم أصغر بناته من ابن عمها عتبة بن أبي لهب لكنه طلقها قبل الدخول بها فتزوجها عثمان بن عفان بعد وفاة أختها رقية، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الصحب الكرام والسلف الصالح كما زوج أحفاده من الأقارب، ولم يثبت دليل صحيح ينهى عن زواج الأقارب، كما وضح أن الإسلام قد بين المحرمات من النساء وأحل ما وراء ذلك، سواء كنّ من القريبات أو الغريبات*، وقد نص القرآن الكريم على إباحة الزواج من بنات العم وبنات العمة وبنات الخال وبنات الخالة**، ثم ذكر في بحثه دراسة علمية أجراها أحد الأساتذة المتخصصين في علم الوراثة خلاصتها أنه قام بإجراء موازنة بين ثلاث مجتمعات من حيث انتشار الأمراض الوراثية بها، مجتمع يكثر فيه زواج الأقارب، ومجتمع يكثر فيه زواج الأباعد، ومجتمع يكثر فيه الزواج من أجناس مختلفة، أسفرت تلك الموازنة عن عدم وجود فروق بين المجتمعات الثلاثة من حيث انتشار الأمراض الوراثية، لذا لا يمثل زواج الأقارب أي خطورة على الأجيال المتعاقبة.تأسيسًا على ما سبق ترى الدراسة الحالية أن الزواج يجب أن يتوافر فيه شرط الكفاءة من جميع الجوانب، فإذا لم تتوافر هذه الكفاءة في زواج الأقارب يصبح الأمر غير مقبول من الناحية الدينية والاجتماعية والطبية، أما إذا كان هناك صفات وراثية سائدة لدى الأقارب فإن تلك الصفات تؤدي إلى التعرض للإصابة بالأمراض الوراثية الخطيرة، وفي هذه الحالة يصبح الزواج من هؤلاء الأقارب ضررًا أكثر من كونه وسيلة تؤدي للتواصل والتواد الأسري، لذلك فحينما يكون بين أفراد الأسرة شخص مصاب بمرض أنيميا البحر المتوسط، فإنه من الأفضل من الناحية الطبية والاجتماعية عدم التوسع في الزواج بين أفراد تلك الأسر؛ إذ إن الصفات الناتجة عن زواج الغريبات تكون أفضل من صفات النسل الناتج عن زواج القريبات، حرصًا على قوة النسل، فعندما جاء رجل وقد خطب امرأة عقيمًا لا تلد، فقال يا رسول الله إني خطبت امرأة ذات حسب وجمال وأنها لا تلد، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"، وتكون المباهاة هذه في ضوء معيار التقوى لله عز وجل والكفاءة.
المراجع:
[1] عبده محمود سلام: ص 112.[2] انظر:-- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين (القاهرة: دار الشعب، الجزء الرابع، 1981) ص: 718 – 719.- السيد أحمد فرج: الأسرة في ضوء الكتاب والسنة (المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 1986) ص: 28.- عواطف علي إبراهيم سليمان: الأسرة والطفولة في الإسلام (القاهرة: دار التراث العربي للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1991) ص: 113.- علاء الدين علي إبراهيم، رضوان محمد عبد العال: بحوث في الشريعة الإسلامية (القاهرة: دار الأقصى للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2000) ص: 118.- عبد الناصر عوض أحمد جبل: مرجع سبق ذكره، ص: 104.- محمد شفيق: التشريعات الاجتماعية العمالية والأسرية (الإسكندرية: المكتب الجامعي الحديث، 2000) ص: 125.[3] علي أحمد السالوسي: زواج الأقارب بين العلم والدين (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1996) ص: 1-64.* الآيات رقم (22)، (23)، (24) سورة النساء.** الآية رقم (50) سورة الأحزاب.