عشّاق مصر (= مصر المكان والإنسان) ، العارفون بمكانتها ، والمُدركون لحجم أثرها - تاريخا ، وحاضرا ، ومستقبلا - والمتأملون مَلِيّا أسرار جمالها الغابر والحاضر ، والمستوعبون لاستحقاقات عبقرية المكان ، يقفون اليوم موقف المشفق على مصر في زمنها الديمقراطي الذي بدأت ملامحه في الظهور ، يُشفقون عليها مما يمكن أن تُؤدي إليه عبثية الفوضى التي يُراد لطوفانها أن يكتسح كل الحدود ، وأن يُحطّم كل السدود ، وأن يحمل الجميع إلى شاطئ المجهول .
عُشّاق مصر - وأنا أحدهم - يضعون اليوم أيديهم على قلوبهم خشية أن تعيش مصر في مستقبلها القريب زمناً غير مصري ، زمناً غير حضاري ، زمناً بدائيا قبائلياً يدّعي كل فرد فيه أن له الصدر دون العالمين أو القبر ، وأنه سيجهل فوق جهل الجاهلين . وحينئذٍ لابد أن يفترس الجميعُ الجميعَ ؛ بدعوى البحث عن مصلحة الجميع .
لا قيمة للديمقراطية ؛ ما لم تستصحب الوعي الديمقراطي ؛ ما لم تستوعب العناصرُ الفاعلةُ في السياقات الجماهيرية جوهرَ الفعل الديمقراطي . لا يكفي أن تريد الحريةَ والعدلَ والمساواةَ والتنميةَ (فهذه المفردات كلٌّ يتغياها ؛ إذ هي الغرض الأسمى للتوق الإنساني منذ أن وُجد الإنسان) وإنما لابد من وعي بها ؛ من حيث استيعابها كمفاهيم متمايزة
لا قيمة للديمقراطية ؛ ما لم تستصحب الوعي الديمقراطي ؛ ما لم تستوعب العناصرُ الفاعلةُ في السياقات الجماهيرية جوهرَ الفعل الديمقراطي . لا يكفي أن تريد الحريةَ والعدلَ والمساواةَ والتنميةَ (فهذه المفردات كلٌّ يتغياها ؛ إذ هي الغرض الأسمى للتوق الإنساني منذ أن وُجد الإنسان) وإنما لابد من وعي بها ؛ من حيث استيعابها كمفاهيم متمايزة لها طابع الاستقلال ، وكمفاهيم متضمنة ضرورة في بنية العمل الديمقراطي ، إضافة إلى الوعي بها من حيث شروطها الذاتية ، ومن حيث شروط مَوْضعتها في الواقعة الإنسانية التي دائما ما تتنازعها الغرائز والميول ، وتغريها الانفعالات المنبهرة براهنيتها، وتفعل بها أكثر مما يفعل بها العقل ، حتى ولو تحدث معها بأصدق وأفصح لسان .
أول قراءة فلسفية حاولت الإحاطة بالإشكالية الديمقراطية ، سواء من حيث هي تصور نظري ، أو من حيث إمكاناتها الواقعية في واقع مخصوص ، كانت قراءة اليونان لها قبل أكثر من ألفيْ عام . الأُمّة المعجزة (= اليونان) هي أول من مارس العمل الديمقراطي عن وعي بالمعنى الإنساني المُتضمن فيه ، وهي أول من تفلسف على هامشه (= العمل) ، ولكن في سياق المتن الإنساني ؛ بغية الارتقاء بالإنسان إلى ما هو أبعد من الإنسان .
صحيحٌ أن بعض الأمم قبل اليونان مارست شيئا ما ، من ديمقراطية ما ، ولظرف ما . لكنها - حقيقة - لم تكن تتقدم بممارسة ديمقراطية بالمعنى المعاصر لهذه الكلمة ؛ لأنها لم تكن واعية بمعنى ما تمارسه ؛ لا من حيث علاقته بشروطه الجوهرية المُحددة لهويته ، ولا من حيث علاقته بالإطار العام للوجود الإنساني ، ذلك الوجود الذي يمنح الأشياء والأفعال والوقائع (فضلا عن الأشخاص) معانيها ، وبدونه تكون عَدَمَاً في عَمَاء .
رغم ذلك ، أي رغم كون الديمقراطية منتجا حضاريا يونانيا في أصله ، إلا أن أعظم فيلسوفين في الحضارة اليونانية (= أفلاطون ، أرسطو) رفضا الديمقراطية الشعبية بوضوح ، رفضاها ؛ لأنهما كانا يستريبان بغوغائية الجماهير ، ويتوجسان من حجم الزخم الانفعالي الذي يرتبط بظاهرة التجمهر الشعبوي ؛ خاصة بعد أن أثبت الواقع لهما صدق ما يتوقعانه ، من خلال ملاحظتهما المباشرة لما كان يجري في (دولة المدينة ) اليونانية ؛ حتى في أوج ازدهار حضارة اليونان .
وكما أن المفكر ليس انعكاساً لما يجري في واقعه ، فهو كذلك لا يفكر خارج واقعه ؛ لأن الواقع بقدر ما هو المحفز على الفكرة ، هو مختبر الفكرة ، وميدان التصديق أو التكذيب . ولا شك أن شبح الحروب الأهلية في انجلترا هو ما جعل الفيلسوف السياسي : توماس هوبز يساند الحكم الفردي المطلق بوضوح وصراحة ، بل ببجاحة ؛ حتى وإن حاول بعضهم ربط موقفه برؤيته التشاؤمية لطبيعة الإنسان .
لا يعني هذا أن أرسطو وأفلاطون وهوبز ، وغيرهم كثير ، كانوا على صواب في ازورارهم عن نظرية التمثيل الشعبي الديمقراطي . ما يعنيه موقفهم هذا ، واستشهادي به هنا ، هو مجرد التأكيد على أن أجمل الأشياء وأكثرها إنسانية قد لا تستسيغها أكبر العقول وأكثرها ثراء بالإنساني ، لما قد تُوحي به من كونها فتح باب للعبث بالإنسان من خلال آليات لا يشك عاقل في إنسانيتها ، ولا في كونها الضمان الوحيد الكفيل بتحجيم وتحديد وتقييد جنون الطغيان .
الذين رفضوا الديمقراطية الشعبية ، وخاصة من الفلاسفة المتجذرين بالهَمِّ الإنساني ، لم يفعلوا ذلك إلا من خلال ربط تصور النظرية بالواقع ، إذ من المؤكد أنهم لو نظروا إلى المسألة الديمقراطية من خلال الواقع الراهن في أمريكا (كندا والولايات المتحدة) وغرب أوروبا ؛ لكانت النظرة أكثر تفاؤلًا ، بل ولربما كانوا سيتخذون مواقف منحازة إلى الديمقراطية الجماهيرية بالكامل ؛ لأن تصورهم الفلسفي للإنسان لا يسمح لهم إلا بما يعزز من تحقيق الوجود الأكمل للإنسان ، وهو الوجود المرتبط بكرامته التي لا وجود لها إلا عندما تتحقق حريته في دورة الاكتمال .
تَحققُ الديمقراطية بكل شروطها في الواقع لايمكن أن يبدأ بمحض قرار . والتدرج في هذا المجال لا يعني مهادنة الوعي اللاديمقراطي ، وإنما يعني تهيئة شروط الواقع ؛ كي تستطيع هذه الشروط التفاعل (بأقصى حدود الممكن) مع مستويات الطموح النظري . فتفككيك البُنى المضادة للفاعلية الفردانية ، لابد أن يكون متواقتا مع محاولات تنزيل النظرية الديمقراطية في الواقع ؛ لأن الإبقاء على تلك البنى من جهة ، ومطالبة الواقع بالاستجابة الفورية والكاملة لاستحقاقات النظرية الديمقراطية ، هو نوع من تفجير المجتمع من أسفله ومن أعلاه ، ورميه في مسارات الفوضى التي لايمكن أن تعيد للإنسان إلا بؤسه الذي يحاول الهروب منه قدر الإمكان .
لهذا ، لا مُبرر اليوم لما يجري في مصر من محاولات عبثية ، تحاول جرّ مصر إلى الفوضى ، عن حسن نية مشوبة بجهل ، أو عن سوء قصد مشوب بخداع .
لا مبرر لهذا ، لا قانونيا ولا واقعيا ، خاصة بعدما أجريت الانتخابات البرلمانية بنزاهة ، وكانت هذه النزاهة مؤكدة بشهادة الجميع ، حتى بشهادة من خسر الرهان في معركة البرلمان ، بل حتى بشهادة الباحثين عن شرعية ديمقراطية غير شرعية البرلمان .
ماذا يعني البحث عن شرعية جماهيرية ؛ مع وجود برلمان منتخب في انتخابات نزيهة لا مطعن فيها ؟!. من يُمثلّها ؟ وبأية وسيلة انتخابية جرى تحديد الممثلين ؟ ولماذا أجريت الانتخابات البرلمانية ؛ إذا لم تكن هي الآلية القانونية / الشرعية لتحقيق التمثيل في الديمقراطية الجماهيرية ؟ وما معنى وجود شرعية للميدان مُوازية - كما يقولون - للشرعية التي يمثلها البرلمان ؟ بل مَن يُمثّل الميدان ، وكم هو عدد الأصوات التي يجب توفرها في الميدان ؛ ليصبح للرأي الميداني وجه حق ديمقراطي ؟ ...إلخ تلك الأسئلة التي تعرّي واقع الفوضى في العقول قبل تعريتها واقع الفوضى في الميدان .
هناك فرق بين الاعتراض على الفائزين في الانتخابات البرلمانية ، وتتبعهم بالنقد ، من خلال تحليل مقولاتهم وسلوكياتهم ومرجعياتهم الإيديولوجية ، وبين الاعتراض على شرعيتهم التي تحققت لهم من خلال الاقتراع الديمقراطي الحر . الأول مشروع ، والثاني مرفوض ؛ لأنه (= الاعتراض على شرعية الفائزين) يعني بالضرورة الاعتراض على الإرادة العامة للجماهير ، خاصة بعد الرضا بالديمقراطية كآلية تمثيل . فسواء اتفقنا أو اختلفنا مع الفائزين ، أشخاصاً وإيديولوجيات ، إلا أن شرعيتهم - إلى حين إجراء انتخابات أخرى - لا يجوز أن تكون محل نزاع ؛ وإلا كنا - في حقيقتنا - معترضين على الديمقراطية من الأساس .
اليوم ، كل عشرة ، أو حتى خمسة أو ثلاثة ، تراهم يجتمعون (وربما في موقع إلكتروني افتراضي) ليكوّنوا ائتلاف ثورة ، وليصبح كل واحد منهم : (عضو ائتلاف الثورة) ، بحيث يظهر على الإعلام بهذه الصفة ، ويتحدث بكل الثقة الثورية الممكنة ، وكأنه يتحدث بلسان الملايين من ورائه ، حتى أصبحت الائتلافات بالآلاف ، والأعضاء المتحدثون بعشرات الألوف ، سواء مَن استطاع منهم الوصول إلى الإعلام ، أو من قعد به حظه ؛ فلا يجد غير الصخب في الميدان .
طبعاً ، ليس هذا اعتراضاً على حق من يريد التعبير عن رأيه ؛ من حيث هو مبدأ ديمقراطي مكفول للجميع ، وإنما هو اعتراض على من يريد (فرض) رأيه بضغط التهديد بالشغب على النظام العام ، بل على الإرادة العامة التي أنتجها الواقع الديمقراطي .
ليست المشكلة في حرية التعبير ، وإنما المشكلة (التي تتفاقم اليوم في ميادين مصر) أن كل مُعترض يمارس حقه في الاعتراض السلمي ، لا يتصور الفرق الكبير بين العرض، والفرض ، بين عرض رأيه في مساحات الحرية ، وبين محاولة فرضه ، فضلًا عن تصوره لحجم التحديات التي تعكسها تعقيدات الواقع من جهة ، وتراكم الفساد لعقود ، بل لقرون ، من جهة أخرى ، والتي هي بدورها تجعل تصحيح كلّ الأخطاء المركبة بضربة واحدة قاضية في حكم المُحال .