في باريس عندما نسير في شارع (سانت أونور) الذي يفضي إلى ساحة الكونكورد لانتخيل أن هذا الشارع الفخم الباذخ الذي تزدان واجهاته بأجمل ماركات ومنتجات الذوق والأناقة الفرنسية , هو نفسه الشارع الذي كانت تسير فيه العربات أثناء الثورة الفرنسية وهي محملة بالأسرى المتوجهين إلى المقصلة الشهيرة مقصلة (ماكسيمليان روبيسبير) السفاح الذي أزهق آنذاك الآلاف من الأرواح بحجة كونهم اعداء لقيم وروح الثورة، وخلال ستة أسابيع تلاطمت الدماء في ساحة الكونكورد إلى درجة أن الحيوانات كانت تجفل من التقدم نحوها أو المرور بجانبها .
روبيسبير باندفاعه الدموي كان يظن أنه يجتث نظاما قديما ورموزه من الجذور ,ولعل هذه هي الغلطة الكبرى التي يقع فيها الثوار عادة تحت نشوة الانتصار وانفعالات العواطف العارمة حيث تغيب وتتنحى النظرة العقلانية المتأنية القادرة على الفرز بين رموز النظام القديم من جهة، ومن كان يعمل معهم من طاقم التنفيذيين والموظفين .
والتاريخ يظل يخبرنا أن عملية الاستئصال والتصفية والإزالة للنظام القديم لها انعكاساتها الخطيرة على هيكلية الدولة واستقرارها الأمني وحتى على قيم الثورة نفسها , لأن تلك القيم لن تتحول من نظرية مهومة في أرض المثال إلى واقع وممارسة يومية دون مؤسسات تنفيذية مستقرة تحفظ الأمن الاجتماعي من ناحية ، وتستقبل الاستراتيجيات التغييرية من ناحية أخرى , ليتم عندها التغيير التدريجي عبرالإحلال والإبدال الذي من الممكن أن لايشل أو يعطل عجلة الحياة في الدولة، ولكن في نفس الوقت يتخلى عن الرؤى والقيم القديمة البائدة , فالتغيير يتم عادة في القيادات والأيدلوجيات والفلسفة والفكر بينما البنية التحتية هم جيوش من الموظفين التنفيذيين الذين سرعان ماسيستجيبون للأوامر العليا.
وأبرز مثال على هذا ما حل بالعراق من انفلات أمني واضطراب سياسي إثر الغزو الأمريكي , فالكاوبوي الأهوج (بوش) عندما اقتحم العراق قام جيشه بفكفكة وتحطيم جميع رموز ومؤسسات النظام البعثي بما فيها المؤسسات الأمنية والجيش , ولم يدر بخلد منظّريه ومستشاريه أنهم قد عادوا بالعراق إلى الصفر إلى هياكل مؤسساتية خاوية، ومدن يعبث بها الانفلات الأمني , ولا أحد إلى الآن يعلم متى سيستطيع العراق استعادة عافيته وأن ينهض من جديد , مما جعل الرئيس الأمريكي الحالي أوباما يصرح أثناء مشاركة الولايات المتحدة في التحالف ضد إسقاط نظام القذافي (بأنه لن يرتكب الخطأ الكبير الذي ارتكبوه في العراق في ليبيا عبر تفكيك الجيش) . فلابد أن تظل المؤسسات الحكومية قائمة لكي تحتفظ الدولة بملامحها , وعند تغيير الرئيس والأيدلوجية وطبيعة الخطاب السياسي بالتأكيد سيتبنى الموظف النظام الجديد فهو محض موظف تنفيذي .
وفي مصر إلى الآن مابرحت المظاهرات تحتشد بهدف تغيير جميع رموز النظام السابق ومن ضمنهم القيادات الإعلامية ونخب الانتلجانسيا المصرية , وهي نخب بالتأكيد ذات خبرة ووعي وتجربة وكانت مضطرة للمسايرة وتحاول أن توائم بين الحد الأدنى من المهنية , ومتطلبات العمل في أنظمة إعلامية متخلفة تسعى دوما للتطبيل والتزمير للقيادة العليا بشكل فج مستفز.
على كل حال لم يكن الثوار المصريون بحاجة إلى تغيير بعض الأسماء الإعلامية فهم غيروا (بوصلتهم) تلقائياً بعد ساعات من سقوط النظام السابق , والمشاهد للقنوات المصرية قبل وبعد سيفغر فمه دهشة , وسيسترجع فورا مقولة (عمرو بن العاص) القديمة حول براجماتية ومرونة المصريين وولائهم لمن غلب . المحصلة أن عملية التصفية والاستئصال الجامحة التي يمضي بها الثوار بالتأكيد ستأخذ في طريقها الكثير من القدرات والتجارب والخبرات التي قد تكون مصر الآن أحوج ماتكون إليها في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة