لم يحضر اسم تنظيم القاعدة في أيٍّ من الثورات العربية كما حضر في أحداث الثورة الليبية الطويلة، والتي تعتبر الأعنف؛ ذلك أنها الثورة الوحيدة التي تدخل بها المجتمع الدولي بكل ثقله عسكرياً، حضور اسم "تنظيم القاعدة" في الخطابات السياسية جاء مبكراً، حيث نسب معمر القذافي أحداث ليبيا إلى:"تنظيم القاعدة، أسأمة بن لادن، أيمن الظواهري، أصحاب اللحى" نسب إليهم كل ما يجري في ليبيا منذ بدء سيل خطاباته.
مشكلة أي حديث عن وجود تنظيم القاعدة في أي بلد أنها صعبة الإثبات وصعبة النفي، ذلك أنه ليس تنظيماً علنياً له مراكزه ومقراته بل هو تنظيم سري يتحرك عبر حرب العصابات والتفجير والعمليات المنظّمة سراً، والتجنيد الخفي، والاستخبارات وحدها التي تقطع بوجودها من عدمه، لكن الصحافي يبني تحليله على ما بين يديه من معطيات وفق أيديولوجيا التنظيم أو من خلال المعلومات المتاحة في الصحف والكتابات!
غير أن للقاعدة سلوكيات تنظيمية لم تتغير منذ البدء، فهي تنظيم يلعب على الثغرات، ويتمتع بالكرّ والفرّ إبان الأزمات، يخرج من صيغة تكتيكية إلى أخرى وفق الثغرات الممنوحة له على أرض الواقع. من أبجديات التنظيم أنه يحطّ رحاله في أيّ دولة ساعة الاضطراب، والتنظيم وجد في ليبيا ميداناً كبيراً لقذف شباكه على شطآن الثورة باحثاً عن صيدٍ ثمين يتغذى به بعد أن غدت الأرض مطويةً ضده من خلال الخطط الأمنية البارعة التي تعاون العالم على إقرارها في مختلف دول العالم.
حلف "الناتو" لم ينف هذه النظرية المستمدة من سلوك التنظيم على مرّ السنين، لهذا يقول أمين عام حلف شمال الأطلسي اندريس فوغ راسموسين:" لا وجود لمعلومات لدى الحلف حول تورط تنظيم "القاعدة" في الاحداث بليبيا، والناتو لا يملك معلومات عن تورط القاعدة، لكن في نفس الوقت يجب التنويه بأن إمكانية حدوث ذلك في المستقبل تثير القلق، ففي حال وصول الاوضاع في هذا البلد إلى طريق مسدود فإن ليبيا من المحتمل أن تتحول إلى منطقة تجنيد للمقاتلين في صفوف المنظمات المتطرفة".
ونفي المعلومات لا يعني جاهزية الأرض الليبية لأن تكون مستقبلاً مقراً لعمليات تنظيم القاعدة، وميداناً لمختلف الجماعات الإرهابية المتطرفة. والمشكلة في معضلة "القاعدة" في ليبيا أن موقف النظام الليبي منها مر بمرحلتين، وكل مرحلةٍ تناقض الأخرى، في حالة "فانتازيا سياسية" نادرة، الحالة الأولى: إعلان القذافي أن القاعدة هي التي تسيطر على "بنغازي" وان أسامة بن لادن وأيمن الظواهري هما اللذان يقودان العمليات!
الحالة الثانية: ما نقلته وكالة "فرانس بريس" للانباء في 15 مارس عن صحيفة:" ايل جورنالي" الإيطالية حيث توعد القذافي الغرب قائلاً:"سنتعاون مع "القاعدة" ونعلن الجهاد (على الغرب)".
هذا الاضطراب من قبل القذافي تجاه موقف تنظيم القاعدة من نظامه يطرح أسئلة كثيرة حول "التوظيف السياسي الليبي" لتنظيم القاعدة، وهو توظيف مسيّس لا يمكن أن يُعتمد عليه من الناحية التحليلية؛ وإلا كيف يهدد بأنه سيتعاون مع تنظيم اتهمه من قبل بأنه هو من يحرك الثوار في بنغازي؟!
من الواضح أنه لا القاعدة هي التي حركت الثوار في بنغازي، ولا القاعدة يمكن أن تتحالف مع القذافي التي انتقدت القذافي عبر أيمن الظواهري منذ 3-11-2007 حين اتهم الظواهري القذافي بأنه "ركع للغرب" بعد أن تخلى عن البرنامج النووي، لكن التنظيم سيحضر في ليبيا من خلال خطة يعمل عليها، ما لم يتم التحكم بالأرض الليبية وإنقاذها من فلول النظام القديم، وتحصينها من مخطط تنظيم القاعدة، ذلك أن التنظيم لم يكتم مخططه في ليبيا، ففي الرسالة التي وجهها عبدالملك درودكال، المكنى "أبو مصعب عبدالودود" رسم ملامح الدولة التى يريد تنظيم القاعدة إقامتها فى ليبيا، متحدثاً عن إمارة إسلامية!
إن مستقبل ليبيا بموقعها الاستراتيجي المهم، يحتم على المجتمع الدولي أن يأخذ بالاعتبار أن ليبيا بين جنونين، جنون النظام من جهةٍ، وجنون التنظيمات الأصولية وعلى رأسها القاعدة من جهة أخرى، وما لم يتم تحصين ليبيا أمنياً من كل ثغرة تجذب الإرهابيين الرُّحّل فإن ليبيا ستكون مرمىً لكارثة سياسية واجتماعية وإنسانية، خاصةً وأن أميركا لا تزال ترفض التدخل البري لإنقاذ ليبيا من "الجنونيْن" حيث قال وزير الدفاع الأميركي إن:"أوباما لا يزال يعارض إرسال قوات برية أميركية إلى ليبيا"، وهذه المعارضة الأميركية للتدخل البري تسلّم ليبيا إلى مستقبل مجنون. فهل يعي المجتمع الدولي وقوف ليبيا بين الجنونين؟! هل يمكن له أن ينقذ ليبيا من مستقبلٍ معتم؟!
أسئلة كثيرة تتوالد في مثل هذا التيه!