بعد الثورات المتتالية، تغيرت صورة العربي عالمياً، وأصبحت المطالب التي طرحت هي ذاتها من تمتع بها الغرب أولاً، ثم بلدان العالم الأخرى بالحرية والديمقراطية، وقد قيل أن العربي في بذرته الأساسية غير مهيأ لنظام كهذا، وأن الأسباب التي دعت إلى حكمه بسلطات قمعية تكمن في وجود استعداد ذاتي عنده، بدليل أن الهند بفقرها الهائل وجدت في الديمقراطية معوضاً عن الدكتاتوريات، وهي تنهض الآن بعد أن طورت وسائلها التربوية لتحدث نقلة كبيرة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبنظام سلمي..
هنا يأتي السؤال، هل من قاموا بتحريك المدن والقرى وحشدها في وجوه الزعامات الدكتاتورية، هم من يحملون ثقافات عليا ومؤلفات في الفكر والفلسفة، أم هم نتاج وعي كوني جديد جعلهم يفرضون قيمهم بأسلوب مختلف حتى إن الغالبية من أنصاف الأميين ممن لا يفرقون بين عاصمة وإقليم خرجوا بفطرتهم الإنسانية لتحرير أنفسهم، بل إن ظاهرة المثقف العربي المؤثر في الشارع انعدمت تماماً، لأنه صوت أحادي حولته ثقافته إلى عنصر يائس من أي تغيير في البنى القائمة، والتي رسخت مفهوم السلطة والرعب منها..؟!
قيل الكثير عن الفروق التي تطبع البشر، مؤثرات البيئة والنشأة وتراتبية التاريخ، وأن الشعوب التي ظلت قابعة في جهلها ليس لديها الاستعداد في خلق بذرة التطور، وحتى علماء الاجتماع عندما صنفوا الشعوب على قاعدة الغرب المتطور والشرق المتخلف كانوا خاضعين لنزعة عنصرية، وقد أهملوا حضارات العالم كلها التي ولدت في الشرق، وعندما بدأت اليابان تخلق النموذج الآسيوي المتطور تحولت الأفكار القديمة إلى ما يشبه المراجعة، واستقرت إلى أن العرب والأفريقيين وحدهما لا يملكان الرؤية للتغيير. أما الآن، فهناك تحليلات مختلفة تؤكد أن العربي لديه عوامل النجاح التي تقررها أجيال، وكانت الحيرة والصدمة كافيتين لتقرير أن فكرة التخلف في بنية المجتمعات فكرة قاصرة تنبئ عن تصنيف ظالم..
يبقى التحدي الأكبر أن لا تُخطف هذه الثورات من خلال الاكتفاء بإحداث تغييرات شكلية لأنظمة ترث سابقاتها، ثم على شباب هذه الأمة الذين عانوا القسوة والفقر والتشرد أن يكونوا مبدعين في مناخ العمل القادم، ورقباء على أي انحراف يؤدي إلى قتل الحلم..
فكل ما ورثناه عن الأنظمة السابقة؛ أنها تحيط نفسها بأحزمة من أجهزة الأمن والفاسدين، مسخرة وسائل رعايتها في الوصاية على مواطنيها، وقد جربنا التأميم، وفوضى الانفتاح غير المنضبط، وكيف تخلف التعليم والإنتاج، وانتشرت معالم وثقافات التزلف والارتزاق.
ولعلها المرة الأولى التي أصبحت الجمعة فيها من كل أسبوع يوم رهبة لا إرهاب، وأن الجماهير أخذت الدور المحجوب عنها لتكون صاحبة الإرادة فيما تفرضه وتعلنه من دون مشاعر خوف من ظل الدولة وسطوتها بعد أن وجدت أن عوامل سقوطها جاءت من بذور أجيالها القادمين للحياة