تأخّر الخطاب كثيراً؛ لكنني كنت أدرك يقيناً أنه قادم، ومع الوقت بدأت أقلق.. هناك خلل في بريدي أو في شخصي بالتأكيد.. ربما أنا لا أستحق أن ينذروني؟
ثم جاء الخطاب الذي انتظرته طويلاً.. الحمد لله.. الدنيا لاتزال بخيرخبيرة غذائية تحذّرنا من استعمال المكرونة الآسيوية الدقيقة المسماة "إندومي"، التي يدخل في تكوينها ملح صيني يدعى "إجني موتو"، وهو يسبب تلفاً في خلايا المخ ويسبب سرطان الدماغ
إن الإندومي يحتوي مادة
E621
التي تسبب تسمم المخ وتسبب تراجع الذاكرة وضعفها. وتدهور القدرات العقلية وفقدان القدرة على التركيز ومعالجة الأمور الحسابية أو الرياضية المتوسطة، ثم تؤدي إلى غباء فعلي بدون مبالغة
كذلك تؤدي الإندومي إلى الإصابة بالشلل الرعّاش والزهايمر والصداع المزمن، ومع الاستمرار في تناولها تؤدي للسرطانات مثل سرطان الثدي وارتفاع الكولسترول وضغط الدم والأزمات القلبية الحادة وغير ذلك الكثير
وهكذا أضيف عنصر جديد إلى قائمة الإنذارات اليومية التي سترسل بنا إلى معهد الأورام ثم القبر. كلنا ذاهبون للقبر قطعاً؛ لكن لا يحبّ أحدنا أن يسبق ذلك ترانزيت في معهد الأورام أو مركز الكلى أو معهد الكبد لا سمح الله على كل حال يسهل تصديق هذا الخطاب جداً؛ لأن كل أب يعتبر أبناءه أغبياء وغير طبيعيين.. ما هو السبب؟.. لا يمكن أن يكون السبب وراثياً لأنه -الأب- عبقري.. إذن المشكلة فيما يأكله هؤلاء الأوغاد الصغارهذا الخطاب بالذات قوي التأثير جداً لدرجة أنه أدى لصدور فتوى عراقية تقضي بتحريم أكل الإندومي، ولا لوم على صاحب الفتوى طبعاً لأنه استند إلى كلام العلماء الذي يقضي بوجود ضرر أكيد هذه القائمة الطويلة من الأمراض التي تسببها الإندومي - كأنك تتعامل مع مخلفات الشيطان- تثير الريبة فعلاً. عندما يشكو لي المريض من رأسه وقلبه ومعدته وقدميه وتنفّسه؛ فإنني أرجح أن المرض الحقيقي موجود في عقله
مادة مونو صوديوم جلوتامات أو
MSGهي نفسها
E621ونحن نعرف أنها تستخدم كمكسب طعم في كل شيء تقريباً. معظم الدراسات التي أجريت عليها تقول إنها مأمونة بالجرعات العادية.. لو أخذت أي شيء بجرعات زائدة؛ حتى لو كان فيتاميناً فهو مضرّ بالتأكيد، وبالطبع هناك أشخاص قد يكونون مصابين بحساسية للجلوتامات، أو لا يجب أن ينالوا جرعات إضافية من الصوديوم، هم يعرفون هذا؛ لهذا اشترطت الحكومات كتابة أن المنتج يحتوي هذه المادة.. الدراسات كثيرة جداً لأن هذه المادة مفضلة للذعرومن حين لآخر يعود الكلام عن أنها خطرة أو مسرطنة.. لكن العالم الأمريكي "هارولد مكجي" يؤكّد في كتابه عن الطعام والطبخ: "العلم وتقاليد المطبخ – 2004" خلاصة هذه الدراسات التي تؤكّد أن هذه المادة بلا أي خطرنفس الشيء أكّدته ال
FDA
الصينيون أجروا دراسة مدققة واسعة فوجدوا أن الخطر الوحيد لهذه المادة زيادة الوزن
على كل حال تبيّن أن هذا التهديد الزائف يدور عبر الإنترنت منذ عام 2007، وهناك تهديد زائف آخر يعود لعام 2000 عن أن الأكواب الرغوية التي تقدّم فيها "النودلز" تسبب تسمّماً بالمادة الشمعية المغطية للمكرونة.. كلام فارغ هو الآخر
تهديد آخر من هذا الطراز العجيب يتعلق بأكل الجمبري.. لو أكلت جمبري ثم أكلت بعده البرتقال أو أقراص فيتامين (ج) فأنت تكتب شهادة وفاتك
الباحثون في جامعة شيكاغو وجدوا أن لحم الروبيان (الجمبري) يتضمن تركيزاً عالياً من مركبات الزرنيخ مع البوتاسيوم.. مع فيتامين سي، يتحول الزرنيخ إلى ثالث أكسيد الزرنيخ، ويقتل الشخص الأحمق حتى قبل أن تبحث عن المعلومة؛ فمن الصعب تصوّر أن يؤكسد فيتامين سي الزرنيخ؛ بينما هو عامل مختزل معروف.. فيتامين سي لا يؤكسد بل يمنع الأكسدة! طبعاً تبيّن أن هذا التهديد كلام فارغ خال من الصحة، وهذه الإشاعة تجوب شبكة الإنترنت منذ عام 2001، ولا يبدو أنها ستموت أبداً لأن كل واحد يعرفها يعتقد أنه عرف شيئاً لم يعرفه أحد من قبل
ما أريد قوله هنا يتلخص في نقاط
ـ1ـنصف العلم جهل.. والإنترنت كما أفادت، نشرت الجهل والمعلومات الخاطئة بسرعة البرق. ومن الصعب أن تقرر: هل انتشار المعلومات الخاطئة أفضل أم عدم انتشار المعلومات على الإطلاق؟
ـ2ـفي قصة لـ"برخت" يحكي عن رجل لم تعد لديه لذة في الحياة سوى الكلام عن السرطان الذي أصيب به.. هنا نجد أن الناس لم تعد لديها لذة في الحياة سوى التهديد بالسرطان.. هذا ما أطلق عليه "شهوة السرطان"؛ حيث كل شيء مسرطن، وهذا الكلام يظفر بالتصديق دوماً بسرعة البرق. بعض التحذيرات حقيقي وثابت علمياً ولا يحتمل المزاح، مثل أن رقائق البطاطس التي يلتهمها الجميع تحتوي مادة "الأكريلاميد" المسرطنة، ومثل أن السواد الدفين تحت قشرة البصل هو مادة أفلاتوكسين التي تسبب سرطان الكبد.. لكن هناك الكثير من الهراء كذلك: موجات الميكرويف تسبب السرطان.. بحثت بدقة عن هذه النقطة وأعرف يقيناً أنها كاذبةوفي أحد المؤتمرات العلمية الكبرى وقف أستاذ مصري كبير ليؤكد أن عقار البرازيكوانتل الذي أنقذ مصر من البلهارسيا يسبب السرطان، وهنا سأله أحد الأساتذة الذين يديرون الجلسة: "أين قيل هذا؟". قال مُصّراً: "في الأبحاث.. في كل مكان..". هنا قال الأستاذ الثاني: أنا لا أتحمل مسئولية أن تقال هذه الكلمات غير المسئولة في مؤتمر علمي، وأمام مئات من شباب الأطباء، الذين سيعتقد كل منهم أن هذا العقار الرائع يسبب السرطان، وبالتأكيد لن يكتبوه بعد اليوم بسببك نفس الشيء قيل عن عقار آخر مهم هو "رانيتدين".. لا مشكلة.. قل عن أي دواء إنه يسبب السرطان وسوف يصدّقك الجميع لأن الناس تحب أن تكون الأطعمة والأدوية خطيرة وقاتلة، وتكره جداً من يقول العكس
ـ3ـجزء كبير من هذه الحملات يتعلق بمعارك طاحنة بين علامات تجارية.. إشاعة أن البيبسي كولا تنقل التهاب الكبد (سي)؛ هي بالتأكيد من هذا الطراز.. طبعاً يعرف أصغر طالب طب أن هذا كلام فارغ
ـ4هناك كذلك الرغبة في الشعور بالتميّز وأنك تعرف ما لا يعرفه الآخرون.. لا ألوم المواطن العادي الذي لا يعرف؛ لكن ألوم الأطباء الذين يجرّهم تيار الخرافة معه وهم قادرون على التحقق.. عندما يقول طبيب على شاشة التلفزيون إن الجزر -مثلاً- يسبب السرطان؛ فهل تلوم المواطن العادي عندما يخاف؟
ـ5الخوف موجات.. موجة الخوف من جنون البقر -الذي لم يثبت قط أنه ينتقل من اللحم للبشر- ثم ظهرت أنفلونزا الطيور.. هذا مرض حقيقي مخيف؛ لكنك قادر على الوقاية منه ببعض التعليمات الصحية، والتخلص من جلد الدجاج والطهي الجيد والابتعاد عن أي مكان تغطي أرضه مخلفات الدجاج؛ لكن الناس أصيبوا بالذعر، وهكذا نسوا ما كان وعادوا يأكلون اللحم
ثم ظهرت أنفلونزا الخنازير فنسي الناس كل شيء عن أنفلونزا الطيور وعادوا يأكلون الدجاج!. ومن جديد لا لوم عليهم؛ فلابد أن يأكلوا شيئاً؛ لكني ألوم الإعلام غير المسئول وثقافة الرعب السائدة. أحياناً يلعب النجوم دوراً في هذا.. مثلاً كان هناك برنامج جماهيري استضاف الفنان محيي إسماعيل؛ ليعلن إعلاناً خطيراً: هو لن يأكل أي شيء بعد اليوم!.. كل شيء ملوّث مسمّم وخطر، وتكلّم عن الدودة التي تسكن عروق ورقة الخس لتبدو مثلها بالضبط فنلتهمها.. بعد هذا العمر لم أسمع عن هذه الدودة قط. لابد من طريقة انتقال تتحمل العصارة المعدية والحمض، والخس لا ينقل الفاشيولا أو الإسكاريس بهذه الطريقة أبداً
لابد من أن يزداد حظنا من العقلية النقدية: هل هذا ممكن؟.. ما الدليل؟
لا تصدق كل شيء؛ بل كن وغداً متشككاً.. بعض البحث على شبكة الإنترنت في المواقع المحترمة -وليس المنتديات- مفيد، وقد يفيد كذلك استشارة من تعرف من أطباء. ولا ترسل الرسالة لطرف ثالث قبل أن تكون واثقاً من أن هذه هي الحقيقة