الوسواس القهرى مرض منتشر للطب و الدين فيه آراء سأتناوله هنا من الناحيه الدييه
معنى (الوسواس القهري) لغةً وشرعاً:
أولاً: معنى (الوسواس القهري) لغة:
أ- معنى (الوسواس):
- أصل الوَسواس في اللغة: الصوت والكلام الخفي. ومنه قيل لصوت الحلي، وهمس الصياد، وللصوت الخفي الصادر من الرّيح: وَسواساً لخفائها.ومصدره يقال له: وَسواس بفتح الواو، أما الاسم منه فبكسرها
–وِسواس - . [انظر: لسان العرب، والمغرب: مادة: وسس] - ويكون الوسواس في الشر وما لا نفع فيه ولا خير.جاء في "الكليات" [ص942]: (..يقال لما يقع في النفس من عمل الشر، وما لا خير فيه وسواس..).
- ويدل على التكرار.قال في "المغرب" [مادة: وسس]: (..( وَسْوَسَ الرَّجُلُ ) ..... إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ يُكَرِّرُهُ..).- والوَسواس: اسم للشيطان، وحديث النفس. ويقال للمغلوب في عقله: مُوَسوِس. ووُسوِس الرجل: اختلط كلامه ودهش. والوَسواس أيضاً: مرض يحدث من غلبة السّوداء يختلط معه الذهن. [انظر: لسان العرب، والمغرب: مادة: وسس، والمعجم الوسيط: مادة: وسوس]
ب- معنى: (القهري):القهر في اللغة: الغَلَبَة. [انظر: لسان العرب: مادة: قهر].ويعلم مما سبق: أن مصطلح (الوسواس القهري) يتضمن في اللغة معنى: الكلام الخفي، غير النافع، المتكرر، الغالب لصاحبه.
ثانياً: معنى (الوسواس القهري) شرعاً:قبل البدء بتعريف مصطلح: (الوسواس القهري) شرعاً، لا بدّ من الإشارة إلى أن العلماء يستخدمون كلمة (وسواس) ليعبروا بها عن أحد ثلاثة أمور:
الأول: الأفكار والخواطر الاعتيادية التي تطرق ذهن الإنسان، كوساوس النفس، ووساوس الشيطان، وأكثر ما تستخدم كلمة الوسواس بهذا المعنى في كتب الأخلاق والتصوف.(اقرأ مثلاً: الوسواس القهري بين الفقهاء والأطباء نسخة مجانين).
الأمر الثاني: مرض يصيب الإنسان فيختل عقله ويجعله يتخيل خيالاتٍ فاسدةً، ويتكلم بغير نظام، وقد عدوا هذا المرض نوعاً من أنواع الجنون وأعطوه حكمه، أي يسقط معه التكليف فلا تصح معه ردّة، ولا طلاق، ولا وصية.... إلخ،ولكن أمثّل له بأمثلة:جاء في "حاشية ابن عابدين على الدر المختار" [3/285]: (....وعن الليث لا يجوز طلاق الموسوِس قال: يعني المغلوب في عقله، وعن الحاكم: هو المصاب في عقله إذا تكلم يتكلم بغير نظام...). فهذا التعريف لا ينطبق على المصاب بالوسواس القهري، وإنما هو إلى المصاب بالجنون أقرب.وقال الباجي المالكي في "المنتقى" [4/121]: (والموسوس، والذي يغيب مرة بعد مرة سواء........ ووجه ذلك أن هذه معانٍ يُعْدَم معها العقل، والميز فأشبهت الجنون). فجعل الموسوس معدوم العقل والتمييز كالمجنون، وهذا مختلف عن مريض الوسواس القهري.وهناك من أطلق لفظ الموسوس على من فسد عقله من مسِّ الشيطان كما فعل علاء الدين البخاري في "كشف الأسرار" [4/437] فذكر أن من الأسباب المُهَيِّجة للجنون: (...استيلاء الشيطان عليه [يعني على الإنسان] فيخيله الخيالات الفاسدة ويفزعه في جميع أوقاته فيطير قلبه ولا يجتمع ذهنه مع سلامة في محل العقل خِلْقَة، وبقائه على الاعتدال، ويسمى هذا المجنون: ممسوساً لتخبط الشيطان إياه، وموَسوَساً لإلقائه الوسوسة في قلبه، ويعالج هذا النوع بالتعاويذ والرقى، وفي هذا النوع لا يُحْكَم بزوال العقل.).
وفسر السيوطي الوسواس بأنه الاكتئاب وذلك في "حاشيته على سنن النَّسائي" [1/38] فقال: (....الذي يسمى في لغة العرب الوسواس هو الذي في لغة اليونان الماليخوليا [نوع من أنواع الاكتئاب]، وهي عبارة عن فساد الفكر..).وأظن أن هذه النصوص تحتاج إلى وقفة طويلة، وإلى بحث مستقل، حيث إنها مفتاح لمعرفة مدى مسؤولية المريض النفسي عن أفعاله شرعاً، ومعرفة ضابط المرض الذي يرفع التكليف عن الإنسان. .الأمر الثالث: -وهو المهم هنا- وهو حالة تعتري الإنسان فتهجم عليه أفكار مزعجة لا يستطيع الخلاص منها، أو تجعله يشك في أفعاله، ويعمل بمقتضى الأوهام.
وهذه الحالة هي التي تنطبق على مرض الوسواس القهري طبياً. ويتحدد الأمر المراد من كلمة (الوسواس) في نصوص العلماء من خلال سياق الكلام، ووصف الحالة المذكورة عموماً. غير أن هناك من خصّ الحالة الثالثة –أي حالة الوسواس القهري- بمصطلح خاص لتمييزه عن غيره فقال: الوسواس القهري، أو قال: الشك المستنكح.وسأبين تعريف الفقهاء لهذه الحالة فقط :بعد استقراء ما كتبه الفقهاء بشأن تعريف (الوسواس القهري) يمكن حصر أقوالهم بأربعة تعريفات:
1_ الوسواس: خواطر غير مستقرة، تجري في الفكر بلا اختيار، ليس عليها دليل، يتحرج منها الإنسان:قال القرطبي في تفسيره [7/222]: (..فالخواطر التي ليست بمستقرة، ولا اجْتَلَبَتْها الشبهة، فهي التي تُدفع بالإعراض عنها، وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة). وفي "حاشية إعانة الطالبين" للدمياطي الشافعي [1/343]: (..قوله: بوسواس قهري: وهو الذي يَطرُق الفِكر بلا اختيار). وجاء فيها أيضاً [2/75]: (..الشك يكون بعلامة، بخلاف الوسوسة، فإنها الحكم بالنجاسة [مثلاً] من غير علامة).
وقال الموَّاق المالكي في "التاج والإكليل" [4/102]: (... وقال عز الدين: الوسوسة ليست من نفس الإنسان، وإنما هي صادرة من فعل الشيطان، ولا إثم على الإنسان فيها لأنها ليست من كسبه وصنعه، ويتوهم الإنسان أنها من نفسه ........... فيتحرج لذلك ويكرهه).2- الوسواس هو: (العمل بكل ما يطْرُق الذِّهن أو يتخيله الوهم). [الفتاوى الكبرى الفقهية: 1/313].
5- الوسواس: (داء عضال قل من يقع في ورطته وينجو منها، والجنون دونه بكثير، فإنه ينحل البدن ويذهب العقل، بل والإدراك والفهم،......). [الفتاوى الكبرى الفقهية: 1/313].4- الوسواس هو: غلبة الشك وكثرته:قال الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع [1/51]: (...وإن كان يعرض له ذلك كثيراً [أي الشك] لم يلتفت إليه، لأن ذلك وسوسة..).
وجاء في "الفواكه الدواني" في تعريف المستنكح [1/224]: (وهو) أي المستنكح (الذي يكثر ذلك) أي الشك (منه).........والحال أنه (لا يوقن) بشيء يبني عليه، هذا هو معنى الاستنكاح...).وتجدر الإشارة هنا إلى أن المالكية يطلقون اسم المستنكح على كل من غلبه شيء وقهره: فيقولون: مسنتكح بالحَدَث: للذي معه سلس بول -مثلاً-، ومستنكح بالسهو: للذي ينسى كثيراً مع تيقنه أنه نسي، ومستنكح بالشك: للذي يشك كثيراً ولا يوقن من نفسه شيء يعمل بمقتضاه....[انظر: حاشية الدسوقي:
1/115-116، 434]غير أنهم عادة عندما يذكرون لفظ (المستنكح)، فإنما يريدون به المستنكح بالشك، أي: الموسوس.وضابط (المستنكح) عند المالكية أو المقياس الذي يعرف به وجود الاستنكاح (الوسوسة):
1-أن تزيد أيام إتيان الشك على أيام عدم إتيانه، أو تُساويها، فإن نقصت عنها كأن يأتيه الشك يوماً ويفارقه يومين فلا يعد الشخص مستنكحاً (موسوساً) في هذه الحالة.
2- أن لا يختلف الأمر الذي دخله الوسواس بين يوم وآخر: فمن شك يوماً في الوضوء دون الصلاة، ويوماً في الصلاة دون الوضوء....إلخ، فليس بموسوس، إذ الشك في الوسائل (كالطهارة التي هي وسيلة للصلاة) لا يُضَمُّ للشك في المقاصد (الصلاة نفسها). [انظر: حاشية الدسوقي: 1/434، والفواكه الدواني:
1/224]، وهذا يعني أنه لو كان يشك كلَّ يوم في كلا الأمرين فهو موسوس فيهما.ومما يصلح أن يكون ضابطاً (مقياساً) لمعرفة الموسوسين -أيضاً- عند العلماء:- من كان يشك في العلم الضروري، [وهو الذي لا يمكن دفعه عن النفس بشك ولا شبهة]،
–كالعلم الحاصل عن طريق الحواس مثلاً-، فهو موسوس، فمن شك في غسل يده مع رؤيته لذلك الغسل ببصره فهو موسوس. [انظر: درء التعارض: 3/317 ، وأصول السرخسي: 1/302].
- من أصابه النسيان في أمر مخصوص بعينه، مع أنه يتذكر سائر الأشياء فهو موسوس. [انظر: الفتاوى الكبرى الفقهية: 1/312].- من كان يحكم بحصول أشياء ويتصرف بمقتضاها دون دليل ظاهر مقبول فهو موسوس. [انظر: حاشية إعانة الطالبين: 2/75]هذا ما وجدته عند الفقهاء من تعريفات للوسواس القهري، ويبدو أن كل فقيه ذكر جانباً معيناً من أعراض الوسواس للتعريف به، ولكن هذه التعريفات بمجموعها تنطبق على أعراض الوسواس القهري طبياً.
ثالثاً: الفرق بين الوسواس والشَّك والوَرَع: إن الفرق الأساسي بين الوسواس، وبين الشك والورع، أن الوسواس لا يستند إلى دليل مقبول في العقل والشرع، بينما يكون لكل من الشك والورع دليله المقبول الذي يستند إليه.جاء في "حاشية إعانة الطالبين" [2/75]: (والفرق بين الوسوسة والشك، أن الشك يكون بعلامة، كترك ثياب مَنْ عادَتُه مباشرة النجاسة [كثياب الجزّار التي تتعرض للتلوث بالدم]، والاحتياط هنا مطلوب، بخلاف الوسوسة، فإنها الحكم بالنجاسة من غير علامة،..... كإرادة غسل ثوب جديد اشتراه احتياطاً، وذلك من البدع..).ويذكر العلماء –أيضاً- أن ورع الصالحين: (تَرْك ما يَتَطَرّقُ إليه احتمال التحريم، بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع [أي: دليل مقبول]، فإن لم يكن [يعني الدليل مقبولاً] فهو ورع الموسوسين). [فتح الباري: 4/236 نقلاً عن الغزالي، وانظر: إحياء علوم الدين: 2/94-99].
و سأواصل الموضوع إن شاء الله فتابعوهالمراجع:- إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي: دار المعرفة-بيروت.- أصول السرخسي: أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي: دار المعرفة-بيروت: 1997م، تحقيق: د.رفيق العجم.- التاج والإكليل: محمد بن يوسف الموَّاق: (مع مواهب الجليل للحطاب): دار الفكر-بيروت:2002م.- الفتاوى الكبرى الفقهية: شهاب الدين ابن حجر الهيتمي: جمعها تلميذه: عبد القادر المكي: دار الكتب العلمية-بيروت: 1997م، ضبطه: عبد اللطيف عبد الرحمن.
- الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: أحمد بن غنيم النفراوي المالكي: دار الفكر-بيروت: 2008م.
- الكليات:أبو البقاء الكَفَوي: مؤسسة الرسالة-بيروت:1993م، وضع فهارسه: د.عدنان درويش ومحمد المصري.- المعجم الوسيط: أحمد حسن الزيات وآخرون: مكتبة النوري-دمشق: الطبعة الثالثة.- المُغْرِب في ترتيب المُعْرِب: أبو الفتح ناصر الدين المُطَرِّزي: نسخة الكترونية تابعة للمكتبة الشاملة-الإصدار الثاني.
- المنتقى شرح موطأ الإمام مالك: أبو الوليد سليمان الباجي: دار الكتاب العربي-بيروت:1332هـ.- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: علاء الدين بن مسعود الكاساني: دار الفكر-بيروت.- تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن):أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي: دار الكتب العلمية-بيروت:1988م.
- حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار): محمد أمين ابن عابدين: دار الكتب العلمية-بيروت.
- حاشية إعانة الطالبين: (مع فتح المعين لشرح قرة العَين بمهمات الدين): عثمان بن محمد شطا الدمياطي البكري: دار الفكر-بيروت: 1998م.
- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: محمد عرفة الدسوقي: دار الفكر-بيروت: 2005م.- حاشية السيوطي على سنن النسائي (ومعهما حاشية السندي): جلال الدين السيوطي: دار المعرفة-بيروت:1994م.- درء تعارض العقل والنقل: تقي الدين ابن تيمية: إدارة الثقافة والنشر في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية-المملكة العربية السعودية: 1991م تحقيق: د.محمد رشاد سالم.
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني: دار إحياء التراث العربي-بيروت: 1988م.- كشف الأسرار عن أصول البزدوي: علاء الدين عبد العزيز البخاري: دار الكتاب العربي-بيروت:1991م،ضبط: محمد المعتصم بالله البغدادي.
- لسان العرب: محمد بن مكرم ابن منظور: دار صادر-بيروت: 1997م.
الأسباب التى جعلت الفقهاء يهتمون به :تعود أهمية البحث عند فقهاء المسلمين في هذا المرض إلى عدة أمور:أولها: ثبوت أهمية العلاج المعرفي السلوكي وفاعليته في علاج الوساوس القهرية، وأثره في إحداث تغييرات في المخ تماثل التغييرات الكيميائية التي تحدثها الأدوية، وهذا يعني ضرورة الاهتمام بهذا النوع من العلاج ودراسة جميع ما يتعلق به.وحيث إن المعارف والسلوك المرتبط بها تتنوع وتتغير من بيئة لأخرى، بل من فرد لآخر، فإنه من الواجب مراعاة ذلك التنوع وملاحظة تلك التغيرات، لمعرفة العلاج المناسب الذي يحدث قناعات معرفية قادرة على إحداث تغييرات سلوكية لدى المريض.
ووجوب مراعاة الاختلاف أمر بديهي لا يحتاج إلى برهان، وقد كان منهجاً للنبي (صلى الله عليه وسلم) في مخاطبة الناس، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال: (هل لك من إبل؟). قال: نعم قال (ما ألوانها؟).
قال: حمر، قال: (هل فيها من أَوْرَق؟) [أي: الأغبر الذي في لونه بياض إلى سواد]. قال: نعم، قال: (فأنَّى كان ذلك؟). قال: أُرَاهُ عِرْقٌ نزعه [أي يوجد في أصوله من هو كذلك فجاء يشبهه]، قال: (فلعل ابنك هذا نَزَعَه عِرْق).[البخاري:كتاب المحاربين/باب ما جاء في التعريض، مسلم: كتاب اللعان].
فقد خاطب النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك الأعرابي ومثّل له بالإبل التي هي من مفردات بيئته، ليصل معه إلى قناعة بثبوت نسب الولد منه رغم اختلاف لونه.وعليه: ففي المجتمعات المتدينة -ومنها المجتمع المسلم- لا بد من خطاب المريض بالمفردات الدينية التي يفهمها، والتي تشكل عنده ثوابت غير قابلة للنقاش، ثم الانطلاق منها إلى العلاج الذي يتماشى مع تلك الثوابت.
ومن الطبيعي جداً أن تكون المناهج العلاجية الغربية غير قادرة وحدها على إقناع الموسوس العربي المسلم، وخاصة إذا كان وسواسه متعلقاً بالأمور الدينية، إذ ما الذي يجعله يقتنع بضرورة عدم الالتفات لتلك الوساوس وأنه يجوز له
-مثلاً- إمضاء صلاته غير الصحيحة في ظنه إذا كان واضع العلاج لا يؤمن بالصلاة أصلاً فضلاً عن أن يعرف الجائز فيها من المحرم؟!فلا بد إذاً من أخذ علاجه من الفقهاء الذين هم أدرى بأحكام الشريعة سواء منها ما يخص الصحيح والموسوس.ثانيها: بيان سبق المسلمين في وصف الوسواس وتسميته، وفي وضع أسس الوقاية منه وعلاجه. فأما التشخيص وأصول الوقاية والعلاج، فقد وضع أسسها النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما كان الصحابة يستشيرونه في وساوسهم. وقد بنى العلماء سائر أحكام الوسواس القهري على تلك النصوص الواردة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ثم على ما ورد عن الصحابة والتابعين من بعدهم.(وسيتضح هذا من خلال المقالات الآتية إن شاء الله تعالى).وأما التسمية -فمن الجدير بالذكر-أن المالكية سموا المريض الموسوس باسم مماثل في معناه للاسم العلمي اليوم، وقد ورد عند العلامة المالكي خليل بن إسحاق (ت: 776هـ=1374م) في كتابه "مختصر خليل" أن الوضوء ينتقض (عندهم دون باقي المذاهب) (....بشكٍ في حَدَثٍ بعد طُهْرٍ عُلِمَ، إلا المستنكِح [أي لا ينتقض وضوؤه بالشك بالحدث بعد الوضوء حتى عندهم خلافاً لغيره]). [ج1/ص198]فلفظ المستنكَِح في اللغة يعني: المغلوب، جاء في "المعجم الوسيط": (اسْتَنْكَحَ النُّعاسُ عينَه: غَلَبَها).
[مادة: نكح]وفي التسمية الحديثة المستخدمة اليوم في الأوساط الطبية (الوسواس القهري) تأكيد على معنى الغلبة (قَهْرُ الوسواس للمريض). وأما عبارة [الوسواس القهري] فقد ذكرها الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي (909-974هـ=1504-1567م) في كتابه "تحفة المحتاج بشرح المنهاج" عندما تكلم عن العَذَبة (قطعة القماش التي تنزل من آخر العمامة) فذكر أن أصل فعلها سنة ثم تكلم على الذي يخاف أن يرائي بها إن فعلها فقال: (ولو خشي من إرسالها نحوَ خُيلاء [أي كبر وفخر] لم يُؤمَرْ بتركِها -خلافاً لمن زعمه-، بل يفعلُها، وبمجاهدةِ نفسِه في إزالةِ نحوِ الخيلاءِ منها، فإن عَجَزَ [أي عن طرد وساوس خوف الفخر والرياء من نفسه]لم يضرَّ حينئذٍ خُطورُ نحوِ رياءٍ [يعني وروده على ذهنه]؛ لأنه قهريٌ عليه فلا يُكلَّف به كسائرِ الوساوسِ القهريّة، غايةُ ما يكلفُ بهِ أنّه لا يسترسل مع نفسه فيها بل يشتغل بغيرها ثم لا يضرّه ما طرأَ قهراً عليه بعد ذلك). [ج1/ص372]وكذلك زين العابدين المليباري (ت:986هـ=1579م) -وهو فقيه شافعي أيضاً- ذكر في كتابه "فتح المعين" لفظ الوسواس القهري فقال: (..(تبطل الصلاة) فرضُها ونفلُها (بِنيَّة قطعها)(وتَرَدُّدٍ فيه) أي القطع، ولا مؤاخذة بوسواس قهري في الصلاة [ أي لا تبطل الصلاة به]). [ج1/ص343]تسمية الفقهاء للمرض -في القرن السادس عشر الميلادي- باسمه المعروف اليوم علمياً. بينما تذكر المراجع الغربية أن أول من ذكر الوسواس القهري في الطب النفسي هو الألماني كارل فيستفال Carl Westphal سنة: 1878م . [انظر: تاريخ اضطراب الوسواس القهري د.وائل أبو هندي].ثالثها: أن الفقهاء المسلمين إنما أخذوا منهجهم -في التعامل مع الوسواس القهري- من خالق البشر، العالم بنفوسهم وأمراضهم...، وهذا يجعلنا نوقن أن ما يأتون به هو الدواء الناجح لهذا المرض، وكل صانع أعلم بما صنع...، يستثنى من ذلك الأحكام التي ذكرها الفقهاء معتمدين فيها على المعلومات الطبية في زمانهم، فإنه يُنظر في تلك المعلومات، فإن وافقت المعطيات الطبية الثابتة حديثاً، أُخذت أحكامهم كما هي، وإن لم توافقها _أو لم يبحثوا في المسألة أصلاً-، نُظِر إلى القواعد الشرعية التي اعتمدوها في وضع الأحكام واستنباطها، ثم طُبِّقت على معطيات العلم الحديث ليُعرَفَ منها الحكم المناسب في الحادثة الطبية التي يُبحث فيها.رابعها: أنه يجب على الطبيب المعالج معرفة ما يلزمه من أحكام تتعلق باختصاصه، ومعرفة ما يجوز العلاج به وما لا يجوز في كل حالة...وكذلك يجب على المريض معرفة ما يتعلق بمرضه وعلاجه.مثل ما أنه يجب على التاجر تعلم أحكام البيع والشراء، و على الغني تعلم أحكام الزكاة دون الفقير، وعلى المعلم تعلم أحكام التربية والتعليم وما يتعلق بها، وهكذا......قال النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" : (لا يجوز لأحد أن يُقْدِم على أمر حتى يَعْلَم حكم الله فيه) [ج2/ص272]، أي أنه يأثم إن عمل دون علم.وهذا البحث يبين الأحكام الشرعية المتعلقة بالوسواس القهري، ويصوغها بشكل يظهر روح الشريعة، ليكون عوناً للطبيب والمريض في التعامل مع الوساوس القهرية، ولتكون العملية العلاجية مصدراً للثواب لكلا الطرفين.