فإن الاستهزاء بالله ورسوله والمؤمنين من المعاصي التي ظهرت عند بعض الناس ممن ضعف إيمانهم بربهم عز وجل ، وتأثروا بأفكار واعتقادات مخالفة للهدي النبوي - على صاحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم - ويعتبر ذلك من الأسباب القوية التي أثرت في أخلاق الناس ومعاملاتهم فيما بينهم ، بحيث أصبح كل واحد يسخر من الآخر، وربما تطور ذلك الأمر إلى السخرية بالصالحين لصلاحهم ولتمثلهم السلوك السليم الذي بينه لهم النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو الأخطر من سابقه ، والأخطر من ذلك كله الوقوع في شرع الله تعالى بالاستهزاء والاستنقاص والسخرية ، أو الكلام في الله بما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى ، أو الاستهزاء برسل الله أو أحدهم ، وكذا الاستهزاء بكتبه وملائكته ، ومن ذلك ما وقع من اليهود والنصارى والمنافقين كما حكاه القرآن الكريم وحكته السنة المطهرة - على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم - وما حصل بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحصل اليوم في عدد من البلدان الكافرة ، وما يحصل كذلك بين المسلمين أنفسهم كما يظهر ذلك من خلال تتبع أحوالهم اليومية ، وانتشار الأفكار القادمة من البلاد الكافرة فيما بينهم وخاصة من يدرسها كمنهج وفكرة وعقيدة ممن تأثر بالأفكار العلمانية التي تدعو إلى نبذ الدين والسخرية ممن انتسب إليه .
وفي هذا البحث الذي أقدمه ذكر لبعض النصوص القرآنية والنبوية التي تكلمت عن الاستهزاء ، مع بيان كلام العلماء حول الاستهزاء وحكمه ، ونبدأ قبل ذلك بالتعريف .
تعريف الاستهزاء لغة :
الاستهزاء لغة مصدر قولهم : استهزأ يستهزيء ، وهو مأخوذ من مادة ( هـ ز أ ) ، التي تدل على السخرية أو على مزح في خفية ، أو على السخرية واللعب ، يقال : هزئت به واستهزأت ، والاستهزاء ارتياد الهُزء (1)
وقال الجوهري : الهُزء - بسكون الزاي وبضمها - السخرية ، تقول : هزئت منه وهزئت به ، واستهزأت به ، وتهزأت به ، وهزأت به أيضا ، هزأ ومهزأة ، ورجل هزأة - بتسكين الزاي - أي يهزأبه ، وهزأة - بالتحريك - يهزأ بالناس(2)
الاستهزاء اصطلاحا :
قال أبو هلال العسكري : إن الاستهزاء لا يسبقه فعل من أجله يستهزأ بصاحبه (3). وفي المفردات للراغب : الاستهزاء : ارتياد الهزء ويعبر به أيضاً عنه .(4)
فالاستهزاء بذلك هو : ارتياد أو طلب الهزء دون أن يسبق من المهزوء منه فعل يقتضي ذلك .(5) والاستهزاء : هو السخرية : وهو حمل الأقوال والأفعال على الهزل واللعب لا على الجد والحقيقة(6) ، وهو من الأخلاق الذميمة والتي تعتبر من أبرز صفات الكفار والمنافقين ، ويترتب عليها الإثم والعقاب في الدنيا والآخرة ، ويظهر ذلك من خلال النصوص الشرعية كما يلي :
بعض النصوص من القرآن الكريم :
قال الله تعالى عن المنافقين : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُون ، وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ، اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ البقرة:13-15] وقال سبحانه : ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ [التوبة:65 ، 66]، وقال تعالى : ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [ الرعد: 32 ]، وقال تعالى ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الحجر 94، 95 ]، وقال تعالى : ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً ﴾ [ الكهف: 56 ]، وقال تعالى : ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ، إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [الفرقان: 41، 42] ، وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ ( لقمان: 6 ]وقال تعالى : ﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾ [يس :30 ] وقال تعالى : ﴿ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ، وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ، فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [ الزخرف: 6-8] وقال تعالى : ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة: 231] وقال تعالى : ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾ [ النساء :140] ، وقال تعالى : ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ، ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ﴾ [ الكهف: 103-106] ، وقال تعالى : ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ الأنعام :10 ]
نصوص من السنة في ذكر الاستهزاء :
عن أم هاني - رضي الله عنها - قالت : سألت النبي - صلى الله عليه و سلم - عن قول الله عز و جل : ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ﴾ [العنكبوت: 29] قال : " كانوا يخذفون أهل الطريق و يسخرون منهم فهو المنكر الذي كانوا يأتون" (7) ، وعن أبي مسعود قال : أمرنا بالصدقة . قال : كنا نحامل . قال : فتصدق أبو عقيل بنصف صاع . قال : وجاء إنسان بشيء أكثر منه . فقال المنافقون : إن الله لغني عن صدقة هذا وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزل قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾ [ التوبة : 79 ] ولم يلفظ بشر ﴿بالمطوعين﴾ " (8)و(كنا نحامل ) معناه نحمل على ظهورنا بالأجرة ونتصدق من تلك الأجرة أو نتصدق بها كلها وقال ابن الأثير في تفسير المحاملة أي نحمل لمن يحمل لنا من المفاعلة أو هو من التحامل وهو تكلف الحمل على مشقة أه(9) ، وعن مالك أنه بلغه أن رجلا قال لعبد الله بن عباس :إني طلقت امرأتي مائة تطليقة فماذا ترى عليّ ؟ فقال له ابن عباس : طلقت منك لثلاث وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزو(10) وورد في الحديث عن حال المنافقين في استهزائهم وهو سبب نزول الآية قال تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ [التوبة:65 ، 66] حين ذكروا المؤمنين بسوء وخاصة قراءهم .
السخرية والاستهزاء :
ذهب كثير من العلماء إلى أن السخرية بمعنى الاستهزاء ، وقد سبق وأن بيّنا معنى الاستهزاء وتعريفه.
و أما السخرية : فهي من مادة سخر ، والتي تدل على احتقار واستذلال ، ومن ذلك قولهم سخّر الله الشيء - بتشديد الخاء - وذلك إذا ذلله لأمره وإرادته ، ومن الباب : سخرت منه إذا هزئت به ، ويقال : سخرت منه وسخرت به كما يقال : ضحكت منه وبه ، وهزئت منه وبه (11) ، وعليه فالسخرية والاستهزاء بمعنى واحد ، وقد ذهب إلى ذلك القرطبي وغيره . قال في التذكرة : و الهزء و السخرية بمعنى واحد (12) ، وبعضهم قال : بينهما فرق ، ويتمثل هذا الفرق في أن الهزء: هو إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه ، أي أنه يكون بالقول المصحوب بسوء النية ، ولا يشترط فيه أن يسبقه فعل من أجله يستهزأ بصاحبه من أجل ذلك الفعل ، أما السخرية فإنها تكون بالفعل أو بالإشارة ، وتكون بالقول ويسبقها في العادة فعل من أجله يسخر بصاحبه ، ويتلخص من ذلك أن بينهما فرقاً من جهتين :
الأولى : السخرية تكون بالفعل والقول ، والهزء لا يكون إلا بالقول .
الثانية : أن السخرية يسبقها عمل من أجله يسخر بصاحبه ، أما الاستهزاء فلا يسبقه ذلك (13).
والذي يظهر أن الاستهزاء يكون بمعنى السخرية لاشتراك الجميع في القصد والغاية ، ولذا يأتي أن الهمز واللمز من أنواع السخرية مع أنه يقصد من ذلك الاستهزاء . قال القرطبي : وعن ابن عباس أن الهمزة : القتات ، واللمزة : العياب ، وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح : الهمزة : الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل ، واللمزة : الذي يغتابه من خلفه إذا غاب ، ومنه قول حسان :
همزتك فاختضعت بذل نفس .:. بقـافية تأجـج كالشـواظ ، واختار هذا القول النحاس قال : ومنه قوله تعالى : ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَات ﴾ [ التوبة : 58 ] وقال مقاتل ضد هذا الكلام : إن الهمزة : الذي يغتاب بالغيبة ، واللمزة : الذي يغتاب في الوجه . قال قتادة ومجاهد : الهمزة الطعان في الناس ، واللمزة : الطعان في أنسابهم ، وقال ابن زيد : الهامز : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللمزة : الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم ، وقال سفيان الثوري : يهمز بلسانه ويلمز بعينيه ، وقال ابن كيسان : الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة : الذي يكسر عينه على جليسه ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه .
وأصل الهمز : الكسر والعض على الشيء بعنف ، ومنه همز الحرف ( ومن همزنا رأسه تهشما ) ، وقيل : أصل الهمز ، واللمز : الدفع والضرب لمزة يلمزه لمزا : إذا ضربه ودفعه ، وكذلك همزه : أي دفعه وضربه .(14)
ويقول يحي المعلمي : الهمز هو السخرية من الناس بالإشارة كتحريك اليد قرب الرأس إشارة إلى الوصف بالجنون ، أو الوغض بالعين رمزاً للاستخفاف ، أو نحو ذلك من الحركات . واللمز : هو السخرية من الناس بالقول ، كتسمية الشخص باسم يدل على عاهة فيه أو مرض ، أو اتهامه بخليقة سيئة ، أو التعريض بذلك .(15)
وقد ورد أن من السخرية ما كان يقع من الكفار مع صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال الضحاك : نزلت الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ... ﴾ [ الحجرات:11] في وفد بني تميم ، كانوا يستهزئون بفقراء الصحابة مثل عمار ، وخباب ، وبلال ، وصهيب ، وسلمان ، وسالم ، مولى أبي حذيفة ، وغيرهم ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فنزلت في الذين آمنوا منهم .(16)
وكذلك يكون من السخرية التنابز بالألقاب ، و التنابز بالألقاب كما قال القرطبي : هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة ، وعم الله بنهيه ذلك ، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض ، وغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها .(17) قال الطبري : وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [ الحجرات:11] يقول: ولا تداعوا بالألقاب، والنبز واللقب بمعنى واحد يجمع النبز : أنبازا واللقب : ألقابا .
واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الآية ، فقال بعضهم : عني بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقب ، وقالوا : إنما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية فلما أسلموا نهوا أن يدعوا بعضهم بعضا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية وقد ذكر ذلك ابن الضحاك : ( فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما منا رجل إلا وله أسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا الرجلُ الرجلَ بالاسم ، قلنا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت هذه الآية ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [ الحجرات:11) الآية كلها . وقال آخرون : بل ذلك قول الرجل المسلم للرجل المسلم : يا فاسق يا زاني ، وقد ذكر ذلك عن حصين قال : سألت عكرمة عن قول الله تعال: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [ الحجرات:] قال : هو قول الرجل للرجل : يا منافق يا كافر . وعن مجاهد قوله تعلى: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [ الحجرات:11] قال : دعي رجل بالكفر وهو مسلم .قال ابن زيد في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [ الحجرات:11] قال : تسميته بالأعمال السيئة بعد الإسلام زان فاسق . وقال آخرون : بل ذلك تسمية الرجلُ الرجل بالكفر بعد الإسلام وبالفسوق والأعمال القبيحة بعد التوبة ، وقد ذكر ذلك عن ابن عباس ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَان ﴾ [ الحجرات:11] الآية قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله . قال الحسن كان اليهودي والنصراني يسلم فيلقب فيقال له : يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب والتنابز بالألقاب : هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة وعم الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض ، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها ، وإذا كان ذلك كذلك صحت الأقوال التي قالها في ذلك أهل التأويل كلها والتي ذكرناها ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض لأن ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا .(18)
ويظهر من ذلك أن المراد بالاستهزاء بالآخرين : التنقص لهم وازدرائهم ووصفهم بالقبيح من الأسماء والصفات فيكون التنابز بالألقاب نوع من أنواع السخرية والاستهزاء ، وعليه فلا يجوز استخدام أي صفة أو اسم قبيح وإلصاقه بالآخرين ، كما أن الشيء المنهي عنه ليس مقصورا على ذلك بل كل ما يعاب به الآخر ويورث البغضاء والكراهية في النفوس ، وكان فيه إرادة الاستنقاص للآخرين .قال الطبري :واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى الله عنها المؤمنين في هذه الآية قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ... ﴾ [ الحجرات:11]
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله عم بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك.(19) ، قال القرطبي : وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال ، أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته ؛ فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهزاء بمن عظمه الله ، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع ، وعن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا .(20)
وعلى ما سبق فإنه يمكن القول بأن السخرية والاستهزاء شيء واحد ، ويدخل في ذلك ما هو في معناهما كالتنابز والهمز واللمز باعتبار أنها من أنواعه .
حكم السخرية والاستهزاء :
يفهم من النصوص الشرعية التي تكلمت عن الاستهزاء والسخرية أن الوقوع في ذلك حرام في حق كل مسلم، بل ومن أعظم المعاصي التي يقع فيها المرء ، وقد بين العلماء ذلك من خلال قراءتهم للنصوص الشرعية وقد سبق ذكر بعضها ومما جاء في كلامهم:
قال السفاريني : وتحرم السخرية والهزء لقول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ...﴾ [الحجرات:11]، ولنهيه - صلى الله عليه وسلم- عن ذلك في مواضع عديدة .(21) وقال ابن تيمية : وأما الاستهزاء والمكر بأن يظهر الإنسان الخير والمراد شر فهذا إذا كان على وجه جحد الحق وظلم الخلق فهو ذنب محرم(22) . والاستهزاء قد يكون في حق الله تعالى وهو أعظمه ، أو في حق العباد وذلك بصور شتى تهدف إلى ذلك الخلق الذميم والمعصية الكبيرة ، وبيان حكم العلماء في ذلك كما يلي :
الاستهزاء بشيء فيه ذكر الله والرسول :
جاء في كتاب تيسير العزيز الحميد : يقول تعالى مخاطبا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولئن سألتهم ، أي سألت المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاء ، ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ، أي يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب إنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب ، قل أبالله ورسوله وآياته كنتم تستهزؤن ، لم يعبأ باعتذارهم إما لأنهم كانوا كاذبين فيه ، وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذورا ، وعلى التقديرين فهذا عذر باطل فإنهم أخطؤا موقع الاستهزاء وهل يجتمع الإيمان بالله وكتابه ورسوله والاستهزاء بذلك في قلب ؛ بل ذلك عين الكفر ؛ لذلك كان الجواب مع ما قبله ، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم (23) .
فتبين من الآية وتفسيرها أن الاستهزاء ولو بقصد اللعب من الكفر ؛ لأن فيه مساساً بالدين وانتهاكاً لحرمته ؛ سواء الاستهزاء بالله أو بكتاب من كتبه أو برسول من رسله أو بملك من ملائكته . جاء في كفاية الأخيار :( ولو سب نبيا من الأنبياء أو استخف به فإنه يكفر بالإجماع)(24) ، وقال في الإقناع :
( باب حكم المرتد ، وهو الذي يكفر بعد إسلامه ولو مميزاً طوعاً ولو هازلاً ؛ فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته أو اتخذ له صاحبة أو ولداً ، أو ادعى النبوة أو صدق من ادعاها ، أو جحد نبياً أو كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه ، أو جحد الملائكة أو البعث ،أو سب الله أو رسوله ، أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله ، أو أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين ، أو وجد منه امتهان القرآن )(25) ، وقال في الصارم المسلول : ( وذلك أن نقول : إن سب الله أو سب رسوله كفرٌ ظاهرا و باطنا ؛ سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرماً أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلا عن اعتقاده ؛ هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول و عمل)(26) ، وجاء في الصارم أيضا :( وهذا مما بين لك أن الاستهزاء بالله أو برسوله ينافي الانقياد له لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته فصار الانقياد له من تصديقه في خبره ، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه و كلاهما كفر صريح )(27)
ومما يحرم الاستهزاء بالمؤمنين لإيمانهم بربهم واعتقادهم الصحيح بربهم وتمسكهم بدينهم ، قال ابن القيم عن المنافقين واستهزائهم بالمؤمنين : (والاستهزاء بأهل الإيمان والكذب والتلاعب بالدين وإظهار أنهم من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم على الكفر والشرك وعداوة الله ورسوله أمر اختصوا به عن الكفار فتغلظ كفرهم به فاستحقوا الدرك )(28) ، وجاء في الفتاوى المهمة :( سؤال : ما حكم الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله ورسوله ؟
الفتوى : الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله ورسوله لكونهم التزموا بذلك محرم وخطير جداً على المرء ؛ لأنه يخشى أن تكون كراهته لهم لكراهة ما هم عليه من الاستقامة على دين الله)(29) ، وقال البيهقي في الشعب : ( ومن هذا الباب قول الله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ... ﴾ [ الحجرات:11] إلى قوله تعالى : ﴿لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه ﴾ [ الحجرات: 12] فاشتملت هذه الآية على تحريم الاستهزاء والسخرية وتحريم اللمز وهو الغيبة والوقيعة (30) ، قال ابن تيمية :( فالذي يسخر بالناس هو الذي يذم صفاتهم وأفعالهم ذما يخرجها عن درجة الاعتبار ، كما سخروا بالمطّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ، بأن قالوا هذا مرائي ، ولقد كان الله غنياً من صاع فلان ؛ فمن تكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق ومقاصد ، مثل كلمة الأيمان وكلمة الله التي تستحل بها الفروج والعهود والمواثيق التي بين المتعاقدين ؛ وهو لا يريد بها حقائقها المقومة لها ولا مقاصدها التي جعلت هذه الألفاظ محصلة لها ؛ بل يريد أن يرتجع المرأة ليضرها ولا حاجة له في نكاحها ، أو ينكحها ليحللها ، أو يخلعها ليلبسها ؛ فهو مستهزىء بآيات الله فإن العهود والمواثيق من آيات الله) (31) . ومن الحرام السخرية والاستهزاء بالمساكين والضعفاء لضعفهم وقلة ما في أيديهم ؛ قال القرطبي بعد ذكر قول الله تعالى : ﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي ﴾ [ المؤمنون :110] ويستفاد من هذا : التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين ، والاحتقار لهم والإزراء عليهم ، والاشتغال بهم فيما لا يعني ، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل(32) .
وخلاصة ما سبق أن الاستهزاء بالله أو بآياته ، أو برسول من رسله ، أو بالمؤمنين لإيمانهم ، أو السخرية بالضعفاء لضعفهم من الأخلاق المذمومة والمحرمة في الشرع ، وقد توصل بصاحبها إلى الوقوع في الكفر والردة ، واختلاف الحكم في ذلك باختلاف الصفة التي يكون بها الاستهزاء ، وكذلك هي في حق الله أخطر منها في حق العباد كما ظهر ذلك سابقاً من خلال النظر في النصوص الشرعية وكلام العلماء والله أعلى وأعلم .
(1) أ نظر المقاييس لابن فارس 6-52 ، المفردات للراغب 543 ، القرطبي 1- 145
(2) انظر الصحاح( 1-83 ) .
(3) انظر الفروق في اللغة 249 .
(4) انظر المفردات ص 543 .
(5) انظر نظرة النعيم 9 – 3873 .
(6) الفتاوى الكبرى ( جزء 6 - صفحة 22 )
(7) المستدرك ( جزء 2 - صفحة 444 ) وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه تعليق الذهبي قي التلخيص : على شرط البخاري ومسلم ، قال الترمذي حديث حسن ، سنن الترمذي ( جزء 5 - صفحة 342 )
(8) صحيح مسلم ( جزء 2 - صفحة 706 )
(9) نظرة النعيم ج9-3882
(10) الموطأ - رواية يحيى الليثي ( جزء 2 - صفحة 550 ) .
(11) أنظر الصحاح 2- 679 ، مقاييس اللغة لابن فارس 3 – 144 .
(12)التذكرة للقرطبي ( جزء 1 - صفحة 499 )
(13) أنظر الصحاح للجوهري 1-83 ، غذاء الألباب للسفاريني 1-131 ، تفسير ابن كثير 4-4 ، الفروق لأبي هلال العسكري 249.
(14) تفسير القرطبي ( جزء 20 - صفحة 169 )
(15) أنظر مكارم الأخلاق في القرآن الكريم ليحي المعلمي 333 . نظرة النعيم 9- 4604 .
(16) أنظر تفسير القرطبي : 16 -275 .
(17) أنظر تفسير الطبري 11- 389 .
(18) تفسير الطبري ( جزء 11 - صفحة 389 )
(19) تفسير الطبري ( جزء 11 - صفحة 389 )
(20) تفسير القرطبي ( جزء 16 - صفحة 275 )
(21) انظر غذاء الألباب للسفاريني 1-135 ، نظرة النعيم 10- 4605 .
(22) مجموع الفتاوى ( جزء 20 - صفحة 471 ) .
(23) تيسير العزيز الحميد ( جزء 1 - صفحة 553 - 554 ) .
(24) كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 647 ) .
(25) الإقناع ( جزء 4 - صفحة 297 ) .
(26) الصارم المسلول ( جزء 1 - صفحة 513 ) .
(27) الصارم المسلول ( جزء 1 - صفحة 519 ) .
(28) طريق الهجرتين ( جزء 1 - صفحة 598 - 599 ) .
(29) فتاوى مهمة ( جزء 1 - صفحة 143 ) لعبد العزيز بن باز , محمد بن صالح العثيمين .
(30) شعب الإيمان ( جزء 5 - صفحة 294 ) .
(31) الفتاوى الكبرى ( جزء 6 - صفحة 22 ) .
(32) تفسير القرطبي ( جزء 12 - صفحة 139 ).
وفي هذا البحث الذي أقدمه ذكر لبعض النصوص القرآنية والنبوية التي تكلمت عن الاستهزاء ، مع بيان كلام العلماء حول الاستهزاء وحكمه ، ونبدأ قبل ذلك بالتعريف .
تعريف الاستهزاء لغة :
الاستهزاء لغة مصدر قولهم : استهزأ يستهزيء ، وهو مأخوذ من مادة ( هـ ز أ ) ، التي تدل على السخرية أو على مزح في خفية ، أو على السخرية واللعب ، يقال : هزئت به واستهزأت ، والاستهزاء ارتياد الهُزء (1)
وقال الجوهري : الهُزء - بسكون الزاي وبضمها - السخرية ، تقول : هزئت منه وهزئت به ، واستهزأت به ، وتهزأت به ، وهزأت به أيضا ، هزأ ومهزأة ، ورجل هزأة - بتسكين الزاي - أي يهزأبه ، وهزأة - بالتحريك - يهزأ بالناس(2)
الاستهزاء اصطلاحا :
قال أبو هلال العسكري : إن الاستهزاء لا يسبقه فعل من أجله يستهزأ بصاحبه (3). وفي المفردات للراغب : الاستهزاء : ارتياد الهزء ويعبر به أيضاً عنه .(4)
فالاستهزاء بذلك هو : ارتياد أو طلب الهزء دون أن يسبق من المهزوء منه فعل يقتضي ذلك .(5) والاستهزاء : هو السخرية : وهو حمل الأقوال والأفعال على الهزل واللعب لا على الجد والحقيقة(6) ، وهو من الأخلاق الذميمة والتي تعتبر من أبرز صفات الكفار والمنافقين ، ويترتب عليها الإثم والعقاب في الدنيا والآخرة ، ويظهر ذلك من خلال النصوص الشرعية كما يلي :
بعض النصوص من القرآن الكريم :
قال الله تعالى عن المنافقين : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُون ، وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ، اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ البقرة:13-15] وقال سبحانه : ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ [التوبة:65 ، 66]، وقال تعالى : ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [ الرعد: 32 ]، وقال تعالى ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الحجر 94، 95 ]، وقال تعالى : ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً ﴾ [ الكهف: 56 ]، وقال تعالى : ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ، إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [الفرقان: 41، 42] ، وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ ( لقمان: 6 ]وقال تعالى : ﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾ [يس :30 ] وقال تعالى : ﴿ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ، وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ، فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [ الزخرف: 6-8] وقال تعالى : ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة: 231] وقال تعالى : ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾ [ النساء :140] ، وقال تعالى : ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ، ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ﴾ [ الكهف: 103-106] ، وقال تعالى : ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ الأنعام :10 ]
نصوص من السنة في ذكر الاستهزاء :
عن أم هاني - رضي الله عنها - قالت : سألت النبي - صلى الله عليه و سلم - عن قول الله عز و جل : ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ﴾ [العنكبوت: 29] قال : " كانوا يخذفون أهل الطريق و يسخرون منهم فهو المنكر الذي كانوا يأتون" (7) ، وعن أبي مسعود قال : أمرنا بالصدقة . قال : كنا نحامل . قال : فتصدق أبو عقيل بنصف صاع . قال : وجاء إنسان بشيء أكثر منه . فقال المنافقون : إن الله لغني عن صدقة هذا وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزل قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾ [ التوبة : 79 ] ولم يلفظ بشر ﴿بالمطوعين﴾ " (8)و(كنا نحامل ) معناه نحمل على ظهورنا بالأجرة ونتصدق من تلك الأجرة أو نتصدق بها كلها وقال ابن الأثير في تفسير المحاملة أي نحمل لمن يحمل لنا من المفاعلة أو هو من التحامل وهو تكلف الحمل على مشقة أه(9) ، وعن مالك أنه بلغه أن رجلا قال لعبد الله بن عباس :إني طلقت امرأتي مائة تطليقة فماذا ترى عليّ ؟ فقال له ابن عباس : طلقت منك لثلاث وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزو(10) وورد في الحديث عن حال المنافقين في استهزائهم وهو سبب نزول الآية قال تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ [التوبة:65 ، 66] حين ذكروا المؤمنين بسوء وخاصة قراءهم .
السخرية والاستهزاء :
ذهب كثير من العلماء إلى أن السخرية بمعنى الاستهزاء ، وقد سبق وأن بيّنا معنى الاستهزاء وتعريفه.
و أما السخرية : فهي من مادة سخر ، والتي تدل على احتقار واستذلال ، ومن ذلك قولهم سخّر الله الشيء - بتشديد الخاء - وذلك إذا ذلله لأمره وإرادته ، ومن الباب : سخرت منه إذا هزئت به ، ويقال : سخرت منه وسخرت به كما يقال : ضحكت منه وبه ، وهزئت منه وبه (11) ، وعليه فالسخرية والاستهزاء بمعنى واحد ، وقد ذهب إلى ذلك القرطبي وغيره . قال في التذكرة : و الهزء و السخرية بمعنى واحد (12) ، وبعضهم قال : بينهما فرق ، ويتمثل هذا الفرق في أن الهزء: هو إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه ، أي أنه يكون بالقول المصحوب بسوء النية ، ولا يشترط فيه أن يسبقه فعل من أجله يستهزأ بصاحبه من أجل ذلك الفعل ، أما السخرية فإنها تكون بالفعل أو بالإشارة ، وتكون بالقول ويسبقها في العادة فعل من أجله يسخر بصاحبه ، ويتلخص من ذلك أن بينهما فرقاً من جهتين :
الأولى : السخرية تكون بالفعل والقول ، والهزء لا يكون إلا بالقول .
الثانية : أن السخرية يسبقها عمل من أجله يسخر بصاحبه ، أما الاستهزاء فلا يسبقه ذلك (13).
والذي يظهر أن الاستهزاء يكون بمعنى السخرية لاشتراك الجميع في القصد والغاية ، ولذا يأتي أن الهمز واللمز من أنواع السخرية مع أنه يقصد من ذلك الاستهزاء . قال القرطبي : وعن ابن عباس أن الهمزة : القتات ، واللمزة : العياب ، وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح : الهمزة : الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل ، واللمزة : الذي يغتابه من خلفه إذا غاب ، ومنه قول حسان :
همزتك فاختضعت بذل نفس .:. بقـافية تأجـج كالشـواظ ، واختار هذا القول النحاس قال : ومنه قوله تعالى : ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَات ﴾ [ التوبة : 58 ] وقال مقاتل ضد هذا الكلام : إن الهمزة : الذي يغتاب بالغيبة ، واللمزة : الذي يغتاب في الوجه . قال قتادة ومجاهد : الهمزة الطعان في الناس ، واللمزة : الطعان في أنسابهم ، وقال ابن زيد : الهامز : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللمزة : الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم ، وقال سفيان الثوري : يهمز بلسانه ويلمز بعينيه ، وقال ابن كيسان : الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة : الذي يكسر عينه على جليسه ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه .
وأصل الهمز : الكسر والعض على الشيء بعنف ، ومنه همز الحرف ( ومن همزنا رأسه تهشما ) ، وقيل : أصل الهمز ، واللمز : الدفع والضرب لمزة يلمزه لمزا : إذا ضربه ودفعه ، وكذلك همزه : أي دفعه وضربه .(14)
ويقول يحي المعلمي : الهمز هو السخرية من الناس بالإشارة كتحريك اليد قرب الرأس إشارة إلى الوصف بالجنون ، أو الوغض بالعين رمزاً للاستخفاف ، أو نحو ذلك من الحركات . واللمز : هو السخرية من الناس بالقول ، كتسمية الشخص باسم يدل على عاهة فيه أو مرض ، أو اتهامه بخليقة سيئة ، أو التعريض بذلك .(15)
وقد ورد أن من السخرية ما كان يقع من الكفار مع صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال الضحاك : نزلت الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ... ﴾ [ الحجرات:11] في وفد بني تميم ، كانوا يستهزئون بفقراء الصحابة مثل عمار ، وخباب ، وبلال ، وصهيب ، وسلمان ، وسالم ، مولى أبي حذيفة ، وغيرهم ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فنزلت في الذين آمنوا منهم .(16)
وكذلك يكون من السخرية التنابز بالألقاب ، و التنابز بالألقاب كما قال القرطبي : هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة ، وعم الله بنهيه ذلك ، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض ، وغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها .(17) قال الطبري : وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [ الحجرات:11] يقول: ولا تداعوا بالألقاب، والنبز واللقب بمعنى واحد يجمع النبز : أنبازا واللقب : ألقابا .
واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الآية ، فقال بعضهم : عني بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقب ، وقالوا : إنما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية فلما أسلموا نهوا أن يدعوا بعضهم بعضا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية وقد ذكر ذلك ابن الضحاك : ( فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما منا رجل إلا وله أسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا الرجلُ الرجلَ بالاسم ، قلنا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت هذه الآية ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [ الحجرات:11) الآية كلها . وقال آخرون : بل ذلك قول الرجل المسلم للرجل المسلم : يا فاسق يا زاني ، وقد ذكر ذلك عن حصين قال : سألت عكرمة عن قول الله تعال: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [ الحجرات:] قال : هو قول الرجل للرجل : يا منافق يا كافر . وعن مجاهد قوله تعلى: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [ الحجرات:11] قال : دعي رجل بالكفر وهو مسلم .قال ابن زيد في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [ الحجرات:11] قال : تسميته بالأعمال السيئة بعد الإسلام زان فاسق . وقال آخرون : بل ذلك تسمية الرجلُ الرجل بالكفر بعد الإسلام وبالفسوق والأعمال القبيحة بعد التوبة ، وقد ذكر ذلك عن ابن عباس ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَان ﴾ [ الحجرات:11] الآية قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله . قال الحسن كان اليهودي والنصراني يسلم فيلقب فيقال له : يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب والتنابز بالألقاب : هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة وعم الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض ، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها ، وإذا كان ذلك كذلك صحت الأقوال التي قالها في ذلك أهل التأويل كلها والتي ذكرناها ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض لأن ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا .(18)
ويظهر من ذلك أن المراد بالاستهزاء بالآخرين : التنقص لهم وازدرائهم ووصفهم بالقبيح من الأسماء والصفات فيكون التنابز بالألقاب نوع من أنواع السخرية والاستهزاء ، وعليه فلا يجوز استخدام أي صفة أو اسم قبيح وإلصاقه بالآخرين ، كما أن الشيء المنهي عنه ليس مقصورا على ذلك بل كل ما يعاب به الآخر ويورث البغضاء والكراهية في النفوس ، وكان فيه إرادة الاستنقاص للآخرين .قال الطبري :واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى الله عنها المؤمنين في هذه الآية قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ... ﴾ [ الحجرات:11]
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله عم بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك.(19) ، قال القرطبي : وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال ، أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته ؛ فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهزاء بمن عظمه الله ، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع ، وعن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا .(20)
وعلى ما سبق فإنه يمكن القول بأن السخرية والاستهزاء شيء واحد ، ويدخل في ذلك ما هو في معناهما كالتنابز والهمز واللمز باعتبار أنها من أنواعه .
حكم السخرية والاستهزاء :
يفهم من النصوص الشرعية التي تكلمت عن الاستهزاء والسخرية أن الوقوع في ذلك حرام في حق كل مسلم، بل ومن أعظم المعاصي التي يقع فيها المرء ، وقد بين العلماء ذلك من خلال قراءتهم للنصوص الشرعية وقد سبق ذكر بعضها ومما جاء في كلامهم:
قال السفاريني : وتحرم السخرية والهزء لقول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ...﴾ [الحجرات:11]، ولنهيه - صلى الله عليه وسلم- عن ذلك في مواضع عديدة .(21) وقال ابن تيمية : وأما الاستهزاء والمكر بأن يظهر الإنسان الخير والمراد شر فهذا إذا كان على وجه جحد الحق وظلم الخلق فهو ذنب محرم(22) . والاستهزاء قد يكون في حق الله تعالى وهو أعظمه ، أو في حق العباد وذلك بصور شتى تهدف إلى ذلك الخلق الذميم والمعصية الكبيرة ، وبيان حكم العلماء في ذلك كما يلي :
الاستهزاء بشيء فيه ذكر الله والرسول :
جاء في كتاب تيسير العزيز الحميد : يقول تعالى مخاطبا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولئن سألتهم ، أي سألت المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاء ، ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ، أي يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب إنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب ، قل أبالله ورسوله وآياته كنتم تستهزؤن ، لم يعبأ باعتذارهم إما لأنهم كانوا كاذبين فيه ، وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذورا ، وعلى التقديرين فهذا عذر باطل فإنهم أخطؤا موقع الاستهزاء وهل يجتمع الإيمان بالله وكتابه ورسوله والاستهزاء بذلك في قلب ؛ بل ذلك عين الكفر ؛ لذلك كان الجواب مع ما قبله ، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم (23) .
فتبين من الآية وتفسيرها أن الاستهزاء ولو بقصد اللعب من الكفر ؛ لأن فيه مساساً بالدين وانتهاكاً لحرمته ؛ سواء الاستهزاء بالله أو بكتاب من كتبه أو برسول من رسله أو بملك من ملائكته . جاء في كفاية الأخيار :( ولو سب نبيا من الأنبياء أو استخف به فإنه يكفر بالإجماع)(24) ، وقال في الإقناع :
( باب حكم المرتد ، وهو الذي يكفر بعد إسلامه ولو مميزاً طوعاً ولو هازلاً ؛ فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته أو اتخذ له صاحبة أو ولداً ، أو ادعى النبوة أو صدق من ادعاها ، أو جحد نبياً أو كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه ، أو جحد الملائكة أو البعث ،أو سب الله أو رسوله ، أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله ، أو أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين ، أو وجد منه امتهان القرآن )(25) ، وقال في الصارم المسلول : ( وذلك أن نقول : إن سب الله أو سب رسوله كفرٌ ظاهرا و باطنا ؛ سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرماً أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلا عن اعتقاده ؛ هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول و عمل)(26) ، وجاء في الصارم أيضا :( وهذا مما بين لك أن الاستهزاء بالله أو برسوله ينافي الانقياد له لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته فصار الانقياد له من تصديقه في خبره ، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه و كلاهما كفر صريح )(27)
ومما يحرم الاستهزاء بالمؤمنين لإيمانهم بربهم واعتقادهم الصحيح بربهم وتمسكهم بدينهم ، قال ابن القيم عن المنافقين واستهزائهم بالمؤمنين : (والاستهزاء بأهل الإيمان والكذب والتلاعب بالدين وإظهار أنهم من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم على الكفر والشرك وعداوة الله ورسوله أمر اختصوا به عن الكفار فتغلظ كفرهم به فاستحقوا الدرك )(28) ، وجاء في الفتاوى المهمة :( سؤال : ما حكم الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله ورسوله ؟
الفتوى : الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله ورسوله لكونهم التزموا بذلك محرم وخطير جداً على المرء ؛ لأنه يخشى أن تكون كراهته لهم لكراهة ما هم عليه من الاستقامة على دين الله)(29) ، وقال البيهقي في الشعب : ( ومن هذا الباب قول الله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ... ﴾ [ الحجرات:11] إلى قوله تعالى : ﴿لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه ﴾ [ الحجرات: 12] فاشتملت هذه الآية على تحريم الاستهزاء والسخرية وتحريم اللمز وهو الغيبة والوقيعة (30) ، قال ابن تيمية :( فالذي يسخر بالناس هو الذي يذم صفاتهم وأفعالهم ذما يخرجها عن درجة الاعتبار ، كما سخروا بالمطّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ، بأن قالوا هذا مرائي ، ولقد كان الله غنياً من صاع فلان ؛ فمن تكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق ومقاصد ، مثل كلمة الأيمان وكلمة الله التي تستحل بها الفروج والعهود والمواثيق التي بين المتعاقدين ؛ وهو لا يريد بها حقائقها المقومة لها ولا مقاصدها التي جعلت هذه الألفاظ محصلة لها ؛ بل يريد أن يرتجع المرأة ليضرها ولا حاجة له في نكاحها ، أو ينكحها ليحللها ، أو يخلعها ليلبسها ؛ فهو مستهزىء بآيات الله فإن العهود والمواثيق من آيات الله) (31) . ومن الحرام السخرية والاستهزاء بالمساكين والضعفاء لضعفهم وقلة ما في أيديهم ؛ قال القرطبي بعد ذكر قول الله تعالى : ﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي ﴾ [ المؤمنون :110] ويستفاد من هذا : التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين ، والاحتقار لهم والإزراء عليهم ، والاشتغال بهم فيما لا يعني ، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل(32) .
وخلاصة ما سبق أن الاستهزاء بالله أو بآياته ، أو برسول من رسله ، أو بالمؤمنين لإيمانهم ، أو السخرية بالضعفاء لضعفهم من الأخلاق المذمومة والمحرمة في الشرع ، وقد توصل بصاحبها إلى الوقوع في الكفر والردة ، واختلاف الحكم في ذلك باختلاف الصفة التي يكون بها الاستهزاء ، وكذلك هي في حق الله أخطر منها في حق العباد كما ظهر ذلك سابقاً من خلال النظر في النصوص الشرعية وكلام العلماء والله أعلى وأعلم .
(1) أ نظر المقاييس لابن فارس 6-52 ، المفردات للراغب 543 ، القرطبي 1- 145
(2) انظر الصحاح( 1-83 ) .
(3) انظر الفروق في اللغة 249 .
(4) انظر المفردات ص 543 .
(5) انظر نظرة النعيم 9 – 3873 .
(6) الفتاوى الكبرى ( جزء 6 - صفحة 22 )
(7) المستدرك ( جزء 2 - صفحة 444 ) وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه تعليق الذهبي قي التلخيص : على شرط البخاري ومسلم ، قال الترمذي حديث حسن ، سنن الترمذي ( جزء 5 - صفحة 342 )
(8) صحيح مسلم ( جزء 2 - صفحة 706 )
(9) نظرة النعيم ج9-3882
(10) الموطأ - رواية يحيى الليثي ( جزء 2 - صفحة 550 ) .
(11) أنظر الصحاح 2- 679 ، مقاييس اللغة لابن فارس 3 – 144 .
(12)التذكرة للقرطبي ( جزء 1 - صفحة 499 )
(13) أنظر الصحاح للجوهري 1-83 ، غذاء الألباب للسفاريني 1-131 ، تفسير ابن كثير 4-4 ، الفروق لأبي هلال العسكري 249.
(14) تفسير القرطبي ( جزء 20 - صفحة 169 )
(15) أنظر مكارم الأخلاق في القرآن الكريم ليحي المعلمي 333 . نظرة النعيم 9- 4604 .
(16) أنظر تفسير القرطبي : 16 -275 .
(17) أنظر تفسير الطبري 11- 389 .
(18) تفسير الطبري ( جزء 11 - صفحة 389 )
(19) تفسير الطبري ( جزء 11 - صفحة 389 )
(20) تفسير القرطبي ( جزء 16 - صفحة 275 )
(21) انظر غذاء الألباب للسفاريني 1-135 ، نظرة النعيم 10- 4605 .
(22) مجموع الفتاوى ( جزء 20 - صفحة 471 ) .
(23) تيسير العزيز الحميد ( جزء 1 - صفحة 553 - 554 ) .
(24) كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 647 ) .
(25) الإقناع ( جزء 4 - صفحة 297 ) .
(26) الصارم المسلول ( جزء 1 - صفحة 513 ) .
(27) الصارم المسلول ( جزء 1 - صفحة 519 ) .
(28) طريق الهجرتين ( جزء 1 - صفحة 598 - 599 ) .
(29) فتاوى مهمة ( جزء 1 - صفحة 143 ) لعبد العزيز بن باز , محمد بن صالح العثيمين .
(30) شعب الإيمان ( جزء 5 - صفحة 294 ) .
(31) الفتاوى الكبرى ( جزء 6 - صفحة 22 ) .
(32) تفسير القرطبي ( جزء 12 - صفحة 139 ).