إنَّ أساس نظام الحياة البشريَّة الذي فطر الله عليه الناس هو عقيدة التوحيد؛ لأنَّه بدون هذه العقيدة لا يمكن لأيِّ إنسانٍ أن يعرف مركزه في الحياة، ولا علاقته بالكون، ولا الغرض الذي من أجله خُلِق، وهذه العقيدة التي فُطِر الناس عليها هي الموجِّه الحقيقيُّ لأفكار الإنسانيَّة وسلوكها وسائر تصرُّفاتها؛ ولذا لا يمكن التخلِّي عنها في شأنٍ من الشئون، قال تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيِّم ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون"، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أيضاً بأنَّ هذه الفطرة موجودةٌ في نفس كلِّ إنسان، ولكنَّ الغرائز والميول التي جعلها الله سبحانه وتعالى في طبيعة الإنسان ساعدت على انزلاقه وراء الأهواء والشهوات والانحراف عن الطريق المستقيم: "ما من مولودٍ إلا يولَد على الفطرة؛ فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه"متفقٌ عليه.
وإذا ألقينا نظرةً على واقع المشركين العرب قبل الإسلام نجدهم كانوا بفِطرتهم يعترفون بوجود إلهٍ عظيمٍ خالقٍ للكون ومدبِّرٍ لشئونه، قال تعالى: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخَّر الشمس والقمر ليقولنَّ الله فأنَّى يؤفكون"، وقال تعالى: "ولئن سألتهم من نزَّل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولنَّ الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون"، ولكنَّ فطرتهم هذه سرت إليها الوثنية بعد أن فشى فيهم الجهل وانقطعت من بلادهم آثار النبوَّة، وقد جلَّى لنا القرآن الكريم ما وصل إليه العرب قبل الإسلام من زيغٍ في المعتقدات وفسادٍ في الأخلاق، وصوَّرهم على أنَّهم قومٌ مشركون استحكم الشرك في قلوبهم، فأخضعهم لتصوراتٍ لا يكاد يصدِّقها العقل، تعصَّبوا لها تعصُّباً ذميماً بَلْبَلَ أفكارهم وشتَّت قواهم وخالف بين اتجاهاتهم وحجب حركة فكرهم عن إدراك الحقّ، قال تعالى: "وإذا قيل لهم اتَّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتَّبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَلَوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"، وقال تعالى: "وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنَّ هذا لشيءٌ يُراد، ما سمعنا بهذا في المِلَّة الآخرة إن هذا إلا اختلاق".
وأصبحت فكرة التوحيد عندهم عبارةً عن نظريَّةٍ محجوبةٍ ومغمورةٍ تحت معتقداتٍ وعباداتٍ كانت تؤدَّى إلى عددٍ لا يُحصَى من الآلهة، ولا يكاد يظهر لها بصيصٌ إلا في حالاتٍ طارئة، وذلك عندما تحيط بهم الأخطار من كلِّ جانب، ويرَوْن الموت عيانا، ويشعرون أنَّهم في موقفٍ لا ينقذهم منه إلا ربُّ الأرباب الله سبحانه وتعالى: "هو الذي يُسيِّركم في البرِّ والبحر حتى إذا كنتم في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بهم بريحٍ طيِّبةٍ وفرحوا بها جاءتها ريحٌ عاصفٌ وجاءهم الموج من كلِّ مكانٍ وظنُّوا أَنَّهم أُحِيطَ بهم دَعَوُا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكوننَّ من الشاكرين".
ومما تقدَّم نعلم أنَّ القرآن الكريم جاء إلى عالمٍ مثقَلٍ بآلهةٍ كاذبة، جاء وهو يعي تماماً مسئوليَّته عن هذه الفطرة وعن تحريرها من كل خضوعٍ ورضوخٍ لغير الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ ذلك هو حقيقتها التي أنشأها الله عليها، قال تعالى: "وما خلقتُ الجِنَّ والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يُطعِمون".
من أجل ذلك ذهب القرآن الكريم يدعو الناس إلى العودة إلى الوحدة الدينيَّة الأصيلة، ويبثُّ هذه العقيدة ويغرسها في قلوب الناس ونفوسهم بأرقى الأساليب، يقول الأستاذ خالد محمد خالد: "من شاء أن يرى القرآن وهو في أروع حالات توقُّده وتألُّقه وتحفُّزه وسناه؛ فليره وهو يتحدَّث عن وحدانيَّة الله وقدرته ورحمته"، وإذا أمعنَّا النظر في القرآن الكريم نلاحظ أنَّ نقطة الانطلاق والنواة التي تدور حولها محاولات إقناع الناس بالعودة إلى فطرتهم وهدايتهم إلى سبيل الرشاد تنحصر في فكرةٍ رئيسيَّةٍ هي: "أنَّ خالقاً يتصِّف بالكمال والقوَّة والخير، خلق كلَّ شيءٍ في الوجود، وأخضعه لإرادته خضوعاً مطلقا، هو وحده المعبود دون سواه، ولا يجوز الخضوع لغيره".
وسرُّ نجاح القرآن الكريم في قيادة العقل البشريِّ إلى هذه الغاية، ووضعه حدًّا للخلافات التي ثارت حول هذه القضيَّة، يكمن في تلك القوَّة الجارفة التي تتمتَّع بها أساليبه الميسَّرة.
بعض أساليب القرآن لإقناع الناس بالعقيدة:
1- أسلوب تحريك العقول البصيرة والرؤوس الرشيدة؛ لتنظر في الآفاق وفي أنفسها لترى في آياته الكبرى ما يدلُّها على هذه الحقيقة، قال تعالى: "الله الذي رفع السماوات بغير عمدٍ ترونها ثمَّ استوى على العرش وسخَّر الشمس والقمر كلٌّ يجري لأجلٍ مسمَّى يُدبِّر الأمر يُفصِّل الآيات لعلَّكم بلقاء ربِّكم توقنون" إلى قوله: "… ونُفضِّل بعضها على بعضٍ في الأُكُل إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون"، وقال تعالى: "وفي الأرض آياتٌ للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون".
2- أسلوب التقابل بين مآل المؤمنين يوم القيامة وما أعدَّ الله لهم من جنَّات الفردوس خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلا، بسبب إيمانهم بالله ورسله واليوم الآخر، في مقابل مآل الكافرين وما أعدَّ الله لهم من الخسران وعذابٍ مهينٍ يوم القيامة، بسبب كفرهم بما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحقِّ الذي لا ريب فيه، والغرض من ذلك التقابل الترغيب في اتِّباع الحقّ، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوة توحيد الله في الربوبيَّة والألوهيَّة، والتنفير من التكذيب بالله سبحانه وتعالى، قال تعالى: "قل هل ننبِّئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صُنْعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربِّهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا، ذلك جزاؤهم جهنَّم بما كفروا واتَّخذوا آياتي ورسلي هُزُوا، إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنَّات الفردوس نُزُلا، خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلا".
3- أسلوب الإجابة عن الأسئلة المتعلِّقة بالله سبحانه وتعالى؛ فعندما طلب المشركون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليهم ربَّه، أنزل الله سبحانه وتعالى ردًّا على طلبهم هذا: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفُواً أحد".
وعندما جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَظْمٍ حائل، ففتَّه، فقال: يا محمد، أيبعث الله هذا بعد ما أرم؟ قال: "نعم، يبعث الله هذا، يُميتك، ثم يُحييك، ثم يدخلك نار جهنم"، فأجابه القرآن الكريم عن هذا الاستبعاد بمنطق الفطرة ومنطق الواقع القريب المنظور؛ فقال: "وضرب لنا مثلاً ونسي خَلْقَه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أوَّل مرَّةٍ وهو بكلِّ خلقٍ عليم"، كما روى الحاكم، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
4- أسلوب تقديم الأدلَّة والبراهين على وحدانيَّة الله سبحانه وتعالى بالإلهيَّة والعبوديَّة، قال تعالى: "ومن آياته أن خلقكم من ترابٍ ثمَّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون"، إلى قوله تعالى: "وهو الذي يبدأ الخلق ثمَّ يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم".
5- أسلوب ضرب الأمثال؛ فضرب لهم مثلاً من الطبيعة؛ ليدلَّهم على كمال قدرته وانفراده بالمُلِك والتدبير والوحدانيَّة، قال تعالى: "ومن آياته أنَّك ترى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزَّت ورَبَت إنَّ الذي أحياها لمحيي الموتى إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير".
وضرب لهم مثلاً من داخل أنفسهم أيضا؛ ليدعوهم به إلى إفراد الله تعالى بالعبادة؛ فقال: "ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم ممَّا ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتِكم أنفسكم كذلك نفصِّل الآيات لقومٍ يعقلون".
ومن الأمثلة ما هو ساخرٌ من المشركين ومعتقداتهم، قال تعالى: "يا أيُّها الناس ضُرِب مثلٌ فاستمعوا له إنَّ الذين تدعون من دون الله لن يَخْلقوا ذُباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعُف الطالب والمطلوب".
6- أسلوب الإنكار على الكفَّار والتعجُّب من حالهم وجهلهم بالحقائق، وإهمالهم للتفكير في أنفسهم وفي آلهتهم؛ فهم يعبدون ما ينحتونه ويصنعونه بأيديهم، مع أنَّ المعبود الحقَّ ينبغي أن يكون هو الصانع لا المصنوع، قال تعالى: "قال أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعملون".
7- أسلوب التذكير والتخويف؛ فالقرآن الكريم يلجأ في كثيرٍ من الأحيان إلى أن يقصَّ على الناس نبأ الأخيار والفجَّار في الأمم السابقة، وما آل إليه أمرهم؛ ليذكِّرهم بالحقائق التي نسوها أو تناسوها؛ فيعتبروا بغيرهم قبل أن يكونوا عبرةً لغيرهم، قال تعالى: "كذَّبت قبلهم قوم نوحٍ فكذَّبوا عبدنا وقالوا مجنونٌ وازدُجِر، فدعا ربَّه أنِّي مغلوبٌ فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمر" إلى قوله: "ولقد جاء آل فرعون النذُر، فكذَّبوا بآياتنا كلِّها فأخذناهم أخذ عزيزٍ مقتدر".
8- أسلوب الترغيب في الإيمان بالله وتوحيده في العبادة والتنفير من الكفر والابتعاد عن الشرك؛ فإنَّ القرآن الكريم ذكر بعض الأمور المحسوسة التي لا يشكُّ عاقلٌ في عدم تساويها؛ ليصل أصحاب العقول المستنيرة عن طريق ذلك بأنَّ المتضادات المعنوية –كذلك– لا تتساوى؛ فلا يتساوى المؤمن والكافر، ولا المهتدي والضالّ، ولا أصحاب الجنَّة وأصحاب النار، ولا أحياء القلوب وأمواتها؛ فإنَّ بين هذه الأشياء من التفاوت ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، من ذلك قوله: "وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظلُّ ولا الحَرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات إنَّ الله يُسمِعُ من يشاء وما أنت بمُسمِعٍ من في القبور".
9- أسلوب إثارة النفس البشريَّة بطرح السؤال وتكراره بعرضٍ رائعٍ مقنعٍ لا يحتمل إلا إجابةً واحدة، وبطريقةٍ تأخذ القلوب والعقول معا، قال تعالى: "أمَّن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجةٍ ما كان لكم أن تُنبِتوا شجرها أءلهٌ مع الله بل هم قوم يعدلون، أمَّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أءلهٌ مع الله بل أكثرهم لا يعلمون، أمَّن يجيب المضطرَّ إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءلهٌ مع الله قليلاً ما تذكَّرون، أمَّن يهديكم في ظلمات البرِّ والبحر ومن يرسل الرياح بُشْراً بين يدي رحمته أءلهٌ مع الله تعالى عمَّا يشركون، أمَن يبدأ الخلق ثَّم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أءلهٌ مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".
10- أسلوب القصص؛ فالقرآن استخدم الأسلوب القصصيَّ الرائع في أخذ النفس البشريَّة لقصَّةٍ لها بدايةٌ وأحداثٌ ونهاية، وكأنَّها في نزهةٍ خالدة، حتى يصل بها إلى الإقرار بالتوحيد، قال تعالى: "ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه أن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربِّي الذي يحيي ويميت قال أنا أُحيي وأُميت قال إبراهيم فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبُهِت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين"، ونرى ذلك جليًّا أيضاً في القصَّة الرائعة لإبراهيم عليه السلام، وتجربته الفريدة مع الكوكب والقمر والشمس، قال تعالى: "وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين، فلمَّا جَنَّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربِّي فلما أَفَلَ قال لا أحبُّ الآفلين فلمَّا رأى القمر بازغاً قال هذا ربِّي فلمَّا أَفَلَ قال لئن لم يهدني ربِّي لأكوننَّ من القوم الضالِّين، فلمَّا رأى الشمس بازغةً قال هذا ربِّي هذا أكبر فلمَّا أفلت قال يا قوم إنِّي بريءٌ ممَّا تُشركون، إنِّي وجهت وجهيَ للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين".
11- أسلوب دعوة المخالفين له أن يأتوا بالبراهين والأدلَّة إن كانوا على حقّ، قال تعالى: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاباؤنا ولا حرَّمنا من شيءٍ كذلك كذَّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا إن تتَّبعون إلا الظنَّ وإن أنتم إلا تخرصون"، وقال تعالى: "أءلهٌ مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".
وعليه فهذه ليست كلُّ أساليب القرآن الكريم في الإقناع بالتوحيد، لكنَّها بعض لَبِناتٍ من هذا البناء العظيم الشامخ من القرآن العظيم.
وهكذا استمرَّ القرآن الكريم بأساليبه المباشرة وغير المباشرة، على هذا المنوال يصول ويجول في ميدانٍ اكتظَّت أرضه بالأصنام والأوثان والشركاء والشبهات، حتى أذاب كلَّ ذلك، وربط أمَّته بأعظم رباط، وهو عقيدة التوحيد التي بها تحرَّرت عقولهم، وبها التقت آمالهم، وبها توحَّدت قوى حالهم، وعليها وحدها انضمَّ شتاتهم، ثم حضَّهم على الاعتصام بها وعدم التفرُّق أو الابتعاد عنها بالترغيب تارةً والترهيب تارةً أخرى، قال تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها كذلك يبيِّن الله لكم آياته لعلَّكم تهتدون".
صور من آثار العقيدة في نفوس الصدر الأول:
بزرع عقيدة التوحيد وترسيخها في النفوس يكون القرآن الكريم قد أقام في النفس قوَّةً محرِّكةً هائلةً تدفعهم إلى الحقّ، بحيث لا يستطيعون التنصُّل منها مهما كانت الظروف والأحوال، وهذه القوَّة تتَّضح لنا عندما نعود لننظر بعض الصور من آثارها في نفوس الصدر الأوَّل من هذه الأمة:
أ- قوَّة هذه العقيدة هي التي جعلت المسلمين الأوائل الذين كانوا مستضعفين بمكة، عندما لجأ كفَّار قريش إلى استخدام جميع أساليب الإرهاب والتعذيب لصدِّهم عن دينهم وعقيدتهم، أن يصبروا على دينهم؛ حتى جعل الله لهم سبيلا.
ب- قوَّة هذه العقيدة هي التي دفعت "عمير بن الحمام" أخو بني سلمة عندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى يقول: "قوموا إلى جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض" فقال عمير بن الحمام الأنصاريّ: يا رسول الله، جنَّةٌ عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم"، قال: بَخٍ بَخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قولك بَخٍ بَخ؟" قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: "فإنَّك من أهلها"، فأخرج تمراتٍ من قرنه فجعل يأكل منهنّ، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنَّها لحياةٌ طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قُتِل، رواه مسلم.
هذه هي العقيدة التي غيَّرت المفاهيم والقيم الجاهليَّة تغييراً جذريّا، ودفعت المؤمنين بها إلى الجدّ، والعمل في تفانٍ وإخلاص، ثمَّ في صبرٍ على الشدائد، ونضالٍ عظيمٍ في السِّلم والحرب على السواء، حتى شهد الله تبارك وتعالى لهم بالتفوق والامتياز على جميع الأمم بقوله: "كنتم خير أمَّةٍ أُخرِجَت للناس تأمرون بالمعروف وتَنهَون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون".
ممَّا سبق يتَّضح لنا أنَّ القرآن الكريم كان أوَّل ما بدأ به وأَوْلاه عنايةً خاصَّة، هو ترسيخ العقيدة في النفوس؛ لأنَّها الأساس القويُّ الذي يمكن أن يقوم عليه بناء الإسلام ليكون أثبت من الرواسي وأقوى من الصخور؛ وذلك بسبب ما تتمتَّع به هذه العقيدة من طاقةٍ عجيبةٍ في إذابة الفوارق العنصريَّة والطائفيَّة والطبقيَّة، وإقامة مجتمعٍ منسجمٍ على أساس الأخوَّة الإنسانيَّة.
وأمَّا ما نشاهده اليوم من ضعف العقيدة في النفوس واهتزازها في القلوب؛ ممَّا جعل سيطرتها على سلوك الأفراد والجماعات محدودة، فمن أهمَّ أسبابه:
1- ابتعاد المسلمين عن العقيدة الدافعة إلى العمل وإلى حبِّ الله تعالى والتزام نهج رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحويلهم هذه العقيدة إلى علمٍ للفلسفة والكلام، ففقدت بريقها في نفوسهم، وبالتالي خبا نورها على العالَمين، وصدق المفكر الإسلاميِّ محمد إقبال حين قال: "كانت العقيدة نوراً للأنام، فغدت علماً للكلام".
2- قيام أصحاب الأفكار والعقائد المستوردة، ممَّن ابتُلِيَت بهم هذه الأُمَّة بالتحايل عليها، بتزيين أفكارٍ وعقائد فاسدةٍ بشتَّى الأساليب، فنسجوا حول هذه الأفكار والعقائد الأساطير، ونسبوا إليها كثيراً من الفضائل لجذب المسلمين إليها، وإبعادهم عن عقيدتهم الصحيحة وتفريقهم عنها، فسار العديد من المسلمين وراءهم، وظهرت العديد من الفِرَق التي تتزيَّا بزيِّ الإسلام، وبينها وبينه كما بين السماء والأرض.
ونتج عن ضعف العقيدة هذا ضعفٌ عامٌّ في الفرد، وفي الأسرة، وفي المجتمع، وفي الدولة، وفي كل جانبٍ من جوانب الحياة، وأصبح واقع المسلمين اليوم، وما يعانونه من آثار الضعف والانهيار، شبيهاً بالواقع الذي دعا للنداء بالعقيدة ونزول القرآن من أجل إرجاع الفطرة الإنسانية إلى صفائها.
وإذا ألقينا نظرةً على واقع المشركين العرب قبل الإسلام نجدهم كانوا بفِطرتهم يعترفون بوجود إلهٍ عظيمٍ خالقٍ للكون ومدبِّرٍ لشئونه، قال تعالى: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخَّر الشمس والقمر ليقولنَّ الله فأنَّى يؤفكون"، وقال تعالى: "ولئن سألتهم من نزَّل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولنَّ الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون"، ولكنَّ فطرتهم هذه سرت إليها الوثنية بعد أن فشى فيهم الجهل وانقطعت من بلادهم آثار النبوَّة، وقد جلَّى لنا القرآن الكريم ما وصل إليه العرب قبل الإسلام من زيغٍ في المعتقدات وفسادٍ في الأخلاق، وصوَّرهم على أنَّهم قومٌ مشركون استحكم الشرك في قلوبهم، فأخضعهم لتصوراتٍ لا يكاد يصدِّقها العقل، تعصَّبوا لها تعصُّباً ذميماً بَلْبَلَ أفكارهم وشتَّت قواهم وخالف بين اتجاهاتهم وحجب حركة فكرهم عن إدراك الحقّ، قال تعالى: "وإذا قيل لهم اتَّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتَّبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَلَوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"، وقال تعالى: "وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنَّ هذا لشيءٌ يُراد، ما سمعنا بهذا في المِلَّة الآخرة إن هذا إلا اختلاق".
وأصبحت فكرة التوحيد عندهم عبارةً عن نظريَّةٍ محجوبةٍ ومغمورةٍ تحت معتقداتٍ وعباداتٍ كانت تؤدَّى إلى عددٍ لا يُحصَى من الآلهة، ولا يكاد يظهر لها بصيصٌ إلا في حالاتٍ طارئة، وذلك عندما تحيط بهم الأخطار من كلِّ جانب، ويرَوْن الموت عيانا، ويشعرون أنَّهم في موقفٍ لا ينقذهم منه إلا ربُّ الأرباب الله سبحانه وتعالى: "هو الذي يُسيِّركم في البرِّ والبحر حتى إذا كنتم في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بهم بريحٍ طيِّبةٍ وفرحوا بها جاءتها ريحٌ عاصفٌ وجاءهم الموج من كلِّ مكانٍ وظنُّوا أَنَّهم أُحِيطَ بهم دَعَوُا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكوننَّ من الشاكرين".
ومما تقدَّم نعلم أنَّ القرآن الكريم جاء إلى عالمٍ مثقَلٍ بآلهةٍ كاذبة، جاء وهو يعي تماماً مسئوليَّته عن هذه الفطرة وعن تحريرها من كل خضوعٍ ورضوخٍ لغير الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ ذلك هو حقيقتها التي أنشأها الله عليها، قال تعالى: "وما خلقتُ الجِنَّ والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يُطعِمون".
من أجل ذلك ذهب القرآن الكريم يدعو الناس إلى العودة إلى الوحدة الدينيَّة الأصيلة، ويبثُّ هذه العقيدة ويغرسها في قلوب الناس ونفوسهم بأرقى الأساليب، يقول الأستاذ خالد محمد خالد: "من شاء أن يرى القرآن وهو في أروع حالات توقُّده وتألُّقه وتحفُّزه وسناه؛ فليره وهو يتحدَّث عن وحدانيَّة الله وقدرته ورحمته"، وإذا أمعنَّا النظر في القرآن الكريم نلاحظ أنَّ نقطة الانطلاق والنواة التي تدور حولها محاولات إقناع الناس بالعودة إلى فطرتهم وهدايتهم إلى سبيل الرشاد تنحصر في فكرةٍ رئيسيَّةٍ هي: "أنَّ خالقاً يتصِّف بالكمال والقوَّة والخير، خلق كلَّ شيءٍ في الوجود، وأخضعه لإرادته خضوعاً مطلقا، هو وحده المعبود دون سواه، ولا يجوز الخضوع لغيره".
وسرُّ نجاح القرآن الكريم في قيادة العقل البشريِّ إلى هذه الغاية، ووضعه حدًّا للخلافات التي ثارت حول هذه القضيَّة، يكمن في تلك القوَّة الجارفة التي تتمتَّع بها أساليبه الميسَّرة.
بعض أساليب القرآن لإقناع الناس بالعقيدة:
1- أسلوب تحريك العقول البصيرة والرؤوس الرشيدة؛ لتنظر في الآفاق وفي أنفسها لترى في آياته الكبرى ما يدلُّها على هذه الحقيقة، قال تعالى: "الله الذي رفع السماوات بغير عمدٍ ترونها ثمَّ استوى على العرش وسخَّر الشمس والقمر كلٌّ يجري لأجلٍ مسمَّى يُدبِّر الأمر يُفصِّل الآيات لعلَّكم بلقاء ربِّكم توقنون" إلى قوله: "… ونُفضِّل بعضها على بعضٍ في الأُكُل إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون"، وقال تعالى: "وفي الأرض آياتٌ للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون".
2- أسلوب التقابل بين مآل المؤمنين يوم القيامة وما أعدَّ الله لهم من جنَّات الفردوس خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلا، بسبب إيمانهم بالله ورسله واليوم الآخر، في مقابل مآل الكافرين وما أعدَّ الله لهم من الخسران وعذابٍ مهينٍ يوم القيامة، بسبب كفرهم بما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحقِّ الذي لا ريب فيه، والغرض من ذلك التقابل الترغيب في اتِّباع الحقّ، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوة توحيد الله في الربوبيَّة والألوهيَّة، والتنفير من التكذيب بالله سبحانه وتعالى، قال تعالى: "قل هل ننبِّئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صُنْعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربِّهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا، ذلك جزاؤهم جهنَّم بما كفروا واتَّخذوا آياتي ورسلي هُزُوا، إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنَّات الفردوس نُزُلا، خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلا".
3- أسلوب الإجابة عن الأسئلة المتعلِّقة بالله سبحانه وتعالى؛ فعندما طلب المشركون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليهم ربَّه، أنزل الله سبحانه وتعالى ردًّا على طلبهم هذا: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفُواً أحد".
وعندما جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَظْمٍ حائل، ففتَّه، فقال: يا محمد، أيبعث الله هذا بعد ما أرم؟ قال: "نعم، يبعث الله هذا، يُميتك، ثم يُحييك، ثم يدخلك نار جهنم"، فأجابه القرآن الكريم عن هذا الاستبعاد بمنطق الفطرة ومنطق الواقع القريب المنظور؛ فقال: "وضرب لنا مثلاً ونسي خَلْقَه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أوَّل مرَّةٍ وهو بكلِّ خلقٍ عليم"، كما روى الحاكم، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
4- أسلوب تقديم الأدلَّة والبراهين على وحدانيَّة الله سبحانه وتعالى بالإلهيَّة والعبوديَّة، قال تعالى: "ومن آياته أن خلقكم من ترابٍ ثمَّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون"، إلى قوله تعالى: "وهو الذي يبدأ الخلق ثمَّ يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم".
5- أسلوب ضرب الأمثال؛ فضرب لهم مثلاً من الطبيعة؛ ليدلَّهم على كمال قدرته وانفراده بالمُلِك والتدبير والوحدانيَّة، قال تعالى: "ومن آياته أنَّك ترى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزَّت ورَبَت إنَّ الذي أحياها لمحيي الموتى إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير".
وضرب لهم مثلاً من داخل أنفسهم أيضا؛ ليدعوهم به إلى إفراد الله تعالى بالعبادة؛ فقال: "ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم ممَّا ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتِكم أنفسكم كذلك نفصِّل الآيات لقومٍ يعقلون".
ومن الأمثلة ما هو ساخرٌ من المشركين ومعتقداتهم، قال تعالى: "يا أيُّها الناس ضُرِب مثلٌ فاستمعوا له إنَّ الذين تدعون من دون الله لن يَخْلقوا ذُباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعُف الطالب والمطلوب".
6- أسلوب الإنكار على الكفَّار والتعجُّب من حالهم وجهلهم بالحقائق، وإهمالهم للتفكير في أنفسهم وفي آلهتهم؛ فهم يعبدون ما ينحتونه ويصنعونه بأيديهم، مع أنَّ المعبود الحقَّ ينبغي أن يكون هو الصانع لا المصنوع، قال تعالى: "قال أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعملون".
7- أسلوب التذكير والتخويف؛ فالقرآن الكريم يلجأ في كثيرٍ من الأحيان إلى أن يقصَّ على الناس نبأ الأخيار والفجَّار في الأمم السابقة، وما آل إليه أمرهم؛ ليذكِّرهم بالحقائق التي نسوها أو تناسوها؛ فيعتبروا بغيرهم قبل أن يكونوا عبرةً لغيرهم، قال تعالى: "كذَّبت قبلهم قوم نوحٍ فكذَّبوا عبدنا وقالوا مجنونٌ وازدُجِر، فدعا ربَّه أنِّي مغلوبٌ فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمر" إلى قوله: "ولقد جاء آل فرعون النذُر، فكذَّبوا بآياتنا كلِّها فأخذناهم أخذ عزيزٍ مقتدر".
8- أسلوب الترغيب في الإيمان بالله وتوحيده في العبادة والتنفير من الكفر والابتعاد عن الشرك؛ فإنَّ القرآن الكريم ذكر بعض الأمور المحسوسة التي لا يشكُّ عاقلٌ في عدم تساويها؛ ليصل أصحاب العقول المستنيرة عن طريق ذلك بأنَّ المتضادات المعنوية –كذلك– لا تتساوى؛ فلا يتساوى المؤمن والكافر، ولا المهتدي والضالّ، ولا أصحاب الجنَّة وأصحاب النار، ولا أحياء القلوب وأمواتها؛ فإنَّ بين هذه الأشياء من التفاوت ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، من ذلك قوله: "وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظلُّ ولا الحَرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات إنَّ الله يُسمِعُ من يشاء وما أنت بمُسمِعٍ من في القبور".
9- أسلوب إثارة النفس البشريَّة بطرح السؤال وتكراره بعرضٍ رائعٍ مقنعٍ لا يحتمل إلا إجابةً واحدة، وبطريقةٍ تأخذ القلوب والعقول معا، قال تعالى: "أمَّن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجةٍ ما كان لكم أن تُنبِتوا شجرها أءلهٌ مع الله بل هم قوم يعدلون، أمَّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أءلهٌ مع الله بل أكثرهم لا يعلمون، أمَّن يجيب المضطرَّ إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءلهٌ مع الله قليلاً ما تذكَّرون، أمَّن يهديكم في ظلمات البرِّ والبحر ومن يرسل الرياح بُشْراً بين يدي رحمته أءلهٌ مع الله تعالى عمَّا يشركون، أمَن يبدأ الخلق ثَّم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أءلهٌ مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".
10- أسلوب القصص؛ فالقرآن استخدم الأسلوب القصصيَّ الرائع في أخذ النفس البشريَّة لقصَّةٍ لها بدايةٌ وأحداثٌ ونهاية، وكأنَّها في نزهةٍ خالدة، حتى يصل بها إلى الإقرار بالتوحيد، قال تعالى: "ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه أن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربِّي الذي يحيي ويميت قال أنا أُحيي وأُميت قال إبراهيم فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبُهِت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين"، ونرى ذلك جليًّا أيضاً في القصَّة الرائعة لإبراهيم عليه السلام، وتجربته الفريدة مع الكوكب والقمر والشمس، قال تعالى: "وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين، فلمَّا جَنَّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربِّي فلما أَفَلَ قال لا أحبُّ الآفلين فلمَّا رأى القمر بازغاً قال هذا ربِّي فلمَّا أَفَلَ قال لئن لم يهدني ربِّي لأكوننَّ من القوم الضالِّين، فلمَّا رأى الشمس بازغةً قال هذا ربِّي هذا أكبر فلمَّا أفلت قال يا قوم إنِّي بريءٌ ممَّا تُشركون، إنِّي وجهت وجهيَ للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين".
11- أسلوب دعوة المخالفين له أن يأتوا بالبراهين والأدلَّة إن كانوا على حقّ، قال تعالى: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاباؤنا ولا حرَّمنا من شيءٍ كذلك كذَّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا إن تتَّبعون إلا الظنَّ وإن أنتم إلا تخرصون"، وقال تعالى: "أءلهٌ مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".
وعليه فهذه ليست كلُّ أساليب القرآن الكريم في الإقناع بالتوحيد، لكنَّها بعض لَبِناتٍ من هذا البناء العظيم الشامخ من القرآن العظيم.
وهكذا استمرَّ القرآن الكريم بأساليبه المباشرة وغير المباشرة، على هذا المنوال يصول ويجول في ميدانٍ اكتظَّت أرضه بالأصنام والأوثان والشركاء والشبهات، حتى أذاب كلَّ ذلك، وربط أمَّته بأعظم رباط، وهو عقيدة التوحيد التي بها تحرَّرت عقولهم، وبها التقت آمالهم، وبها توحَّدت قوى حالهم، وعليها وحدها انضمَّ شتاتهم، ثم حضَّهم على الاعتصام بها وعدم التفرُّق أو الابتعاد عنها بالترغيب تارةً والترهيب تارةً أخرى، قال تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها كذلك يبيِّن الله لكم آياته لعلَّكم تهتدون".
صور من آثار العقيدة في نفوس الصدر الأول:
بزرع عقيدة التوحيد وترسيخها في النفوس يكون القرآن الكريم قد أقام في النفس قوَّةً محرِّكةً هائلةً تدفعهم إلى الحقّ، بحيث لا يستطيعون التنصُّل منها مهما كانت الظروف والأحوال، وهذه القوَّة تتَّضح لنا عندما نعود لننظر بعض الصور من آثارها في نفوس الصدر الأوَّل من هذه الأمة:
أ- قوَّة هذه العقيدة هي التي جعلت المسلمين الأوائل الذين كانوا مستضعفين بمكة، عندما لجأ كفَّار قريش إلى استخدام جميع أساليب الإرهاب والتعذيب لصدِّهم عن دينهم وعقيدتهم، أن يصبروا على دينهم؛ حتى جعل الله لهم سبيلا.
ب- قوَّة هذه العقيدة هي التي دفعت "عمير بن الحمام" أخو بني سلمة عندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى يقول: "قوموا إلى جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض" فقال عمير بن الحمام الأنصاريّ: يا رسول الله، جنَّةٌ عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم"، قال: بَخٍ بَخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قولك بَخٍ بَخ؟" قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: "فإنَّك من أهلها"، فأخرج تمراتٍ من قرنه فجعل يأكل منهنّ، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنَّها لحياةٌ طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قُتِل، رواه مسلم.
هذه هي العقيدة التي غيَّرت المفاهيم والقيم الجاهليَّة تغييراً جذريّا، ودفعت المؤمنين بها إلى الجدّ، والعمل في تفانٍ وإخلاص، ثمَّ في صبرٍ على الشدائد، ونضالٍ عظيمٍ في السِّلم والحرب على السواء، حتى شهد الله تبارك وتعالى لهم بالتفوق والامتياز على جميع الأمم بقوله: "كنتم خير أمَّةٍ أُخرِجَت للناس تأمرون بالمعروف وتَنهَون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون".
ممَّا سبق يتَّضح لنا أنَّ القرآن الكريم كان أوَّل ما بدأ به وأَوْلاه عنايةً خاصَّة، هو ترسيخ العقيدة في النفوس؛ لأنَّها الأساس القويُّ الذي يمكن أن يقوم عليه بناء الإسلام ليكون أثبت من الرواسي وأقوى من الصخور؛ وذلك بسبب ما تتمتَّع به هذه العقيدة من طاقةٍ عجيبةٍ في إذابة الفوارق العنصريَّة والطائفيَّة والطبقيَّة، وإقامة مجتمعٍ منسجمٍ على أساس الأخوَّة الإنسانيَّة.
وأمَّا ما نشاهده اليوم من ضعف العقيدة في النفوس واهتزازها في القلوب؛ ممَّا جعل سيطرتها على سلوك الأفراد والجماعات محدودة، فمن أهمَّ أسبابه:
1- ابتعاد المسلمين عن العقيدة الدافعة إلى العمل وإلى حبِّ الله تعالى والتزام نهج رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحويلهم هذه العقيدة إلى علمٍ للفلسفة والكلام، ففقدت بريقها في نفوسهم، وبالتالي خبا نورها على العالَمين، وصدق المفكر الإسلاميِّ محمد إقبال حين قال: "كانت العقيدة نوراً للأنام، فغدت علماً للكلام".
2- قيام أصحاب الأفكار والعقائد المستوردة، ممَّن ابتُلِيَت بهم هذه الأُمَّة بالتحايل عليها، بتزيين أفكارٍ وعقائد فاسدةٍ بشتَّى الأساليب، فنسجوا حول هذه الأفكار والعقائد الأساطير، ونسبوا إليها كثيراً من الفضائل لجذب المسلمين إليها، وإبعادهم عن عقيدتهم الصحيحة وتفريقهم عنها، فسار العديد من المسلمين وراءهم، وظهرت العديد من الفِرَق التي تتزيَّا بزيِّ الإسلام، وبينها وبينه كما بين السماء والأرض.
ونتج عن ضعف العقيدة هذا ضعفٌ عامٌّ في الفرد، وفي الأسرة، وفي المجتمع، وفي الدولة، وفي كل جانبٍ من جوانب الحياة، وأصبح واقع المسلمين اليوم، وما يعانونه من آثار الضعف والانهيار، شبيهاً بالواقع الذي دعا للنداء بالعقيدة ونزول القرآن من أجل إرجاع الفطرة الإنسانية إلى صفائها.