تَقضي “أمينة” ساعات الصباح الأولى بعدَ خروج زوجها وتفرُّق أطفالها متوجّهين لمدارسهم في منادمةٍ خاصّة وحميمة مع شاشة “الكمبيوتر” التي تُبدي لها من النضارة والحبّ والابتسام والألوان الفاقعة والزاهية ما لم تجدْهُ في عُمرٍ قضَتْه مع رجلٍ أعطتْهُ من وقتها ومشاعرها وتضحيتها حتى آخر قطرة قبل تسلُّلها إلى عالمِ الأنترنت .. ويُرِعُ السيد “نِضال” منذُ أن ينتهي من غدائِه المتأخر للدور العلوي من منزله الفاخر هناكَ حيثُ مكتبه الذي يهربُ إليه من تنغيصاتِ “أمينة” وحُبّها للقيل والقال واستكشاف خبايا الجيران وسَقَطات الأصهار وقفَشات المعارف في إصرارٍ عجيب على أن تُوافي زوجَها بنشرةِ أخبارٍ مفصّلة لا تنتهي إلا بتجاهلهِ لها ووصولِه بسلامٍ إلى صفحتِه الحبيبة في “الفيس بوك” واستمتاعه بأخبار ورديّة .. تُطيعُ امرأةٌ هنا أوامر صديقها بكلّ رضا وارتياح دونَ أن تتردّد فى إبداء كثيرٍ من الإعجاب بسطوتِه الرجوليّة الإلكترونيّة رغمَ أنّها تُظهِرُ له شخصيّةً أخرى تُخفيها داخلَ نفسِها اختارَت لها اسم “إلهام” التي راقَ لها جدّاً انتحالُه لشخصيّتِه الاحتياطيّة وهي تحملُ اسم “طارق”ليُصبح الاثنان من أكثرِ النُّدَماء انسجاماً في لقاءٍ غير مباشر صورةً ولا وقتاً عن طريق الأنترنت .. هيَ تلهو مع صفْحتِه صباحاً وهو يُراجع نشاطها مساءً ويتركُ الاثنان كلٌّ منهما للآخر بصَماتٍ واضحةٍ على أنّه رهنَ إشارته وطوْعَ أمره بمجرّد أن يقرأ طرَفٌ طلبات الطرف الآخر بعدَ وقت يتعدّى الخمس ساعات منذُ آخرِ ولوجٍ للشبكة،ولا يُشكّلُ الاختلافُ في مواعيدِ التواجد عائقاً أمامَ التقدُّمِ الملحوظ في الاستجابة والسّمعِ والطّاعة لأوامرَمكتوبةٍ ليسَ فيها روحٌ ولا حركة،ولكنّ هذا النوع من التّعامل طغى على مُجرياتِ الأحداث وغدا أكثرَ جاذبيّة “لإلهام” و “لطارق” على حدٍّ سواء ..يحْترمُ السيد “طارق” مواعيدَ تضرِبُها “إلهام” ويحرصُ على أن يكونَ أكثرَ لباقةً في الأمر وأكثرَ تهذيباً في العتاب،وتُقدّرُ “إلهام” الوقتَ والجُهد الذي يبذُلُه “طارق” ليراقبَ كلّ صغيرةٍ وكبيرة في نشاطها المحموم على هذه الشبكة وتلك الصفحة ويتتبّعُ خطواتِ فأرتها وقرعَ “كيبوردها” باحثاً عنها في ازدحامِ الأقلام وغُصّة الموجودين،وبذلك استطاعا بناءِ مناخٍ متميّز في العلاقات بينَ اثنين لا تربطهما سوى صدفةُ البحث عن أصدقاء ونَقْرَةُ الموافقة على الصداقة .. بعدَ فترة ليست بالطويلة ولِدَ للسيّد “طارق” وللسيدة “إلهام” أصدقاءُ وصديقات وهم يعيشانِ داخلَ هذا السّباق الرهيب نحو ربطِ الأشخاص بعضهم ببعض ولا تزالُ “الطّاعة” غير المحدودة هي العلامةُ الفارقة بينَ واقعٍ يعودُ إليه كلا الاثنين بعدَ قضاءِ الوَطَرِ من موقع “الفيس بوك” وأصبَحَ “طارق” يستيقظ عندَ السادسة صباحاً لأنّ “إلهام” تحبُّ ذلك وأصبحَت “إلهام” تجيدُ طبخَ “المكرونة بالباشميل” لأنّ “طارق” يحبُّ هذه الأكلة،ولا مجالَ لأن يشعرُ أيُّ طرف بالآخر سوى أخبارٍ لا بدّ من تصديقها والاقتناع بصحتها .. في الحياة الحقيقيّة “لإلهام” تمرُّدٌ كبيرٌ على طلباتِ زوجه وأولادها وأهلها وفي حياة “طارق” استصغارٌ فظيعٌ لآمال زوجته وأحلام أبنائه وتطلّعات زملائه،وفي الحياة الإلكترونيّة التي يسعدُ بها هذان الطائران كثيرٌ من التناغم في الهمسات والإفضاءات والنّغمات وتوافقٌ كبير في الرغبات والهوايات والنّزعات لدرجةِ أنّ السيدة “إلهام” تركَتْ للسيد “طارق” رسالةً يوماً “أعتقدُ أنّ حلاقَتَك لذقنك أجملُ من هذه السكسوكة” فلمْ يتوانى صاحبنا بأنّ ردّ عليها “سمعاً وطاعة” .. حلقَ الرجلُ لحيتَه وخضَعَتْ المرأةُ لبرنامج عنيف “للتّخسيس” والتحقَت بنادي رياضي ووَضَعَ “طارق” العدَسات بدَلَ النظارات الوقورة التي كانَ يرى بها العالم وقرّرَ بعدَ تفكير عميق ودراسة متفحّصة وترتيب للبدائل والاحتمالات واستشارات ومناقشات أنّ يتقدّم لخطبة “إلهام” ونادى زوجَتَه وطلبَ منها أن تتفهّمَ وضعَه ووجهةَ نظره وتتقبّلَ الواقع الذي ينوي أن يعيشه،فأسرَعت قائلةً لهُ “سمعاً وطاعة” .. لم تكُنْ “إلهام” سوى “أمينة” ولم يكن “طارق” سوى زوجها “نضال” ولكنّ الشرخَ الذي أصابَ حياتهما نتيجة هذه الصّدمة العائليّة التي افتعلاها بأنفسهما لا يمكنُ إصلاحُه في المدى القريب .. تمنّى “نضال” لو ابتلعتْه الأرض قبلَ أن يكتشف حقيقة “أمينة” وتمنّت هيَ أن تعودَ بواقعها لأول مرة التقَت فيها “بطارق” على الأنترنت لتسجّلَ كم كانَ لطيفاً معها وكم كانَ هادئاً وعاقلاً ووقوراً وجذاباً في حديثه لتضعَ لهُ على طاولة الطّعام قائمة بالفروق المائة بينَه وهو “نضال” وبينه وهو “طارق” .. فكّرَتْ “أمينة” بعُمق واستخدَمَت الفصّ الأيمن من عقلها وإمكانياتها التحليليّة واكتَشَفَت أمراً خطيراً وسرّاً رهيباً دعاها لأنْ ترفعَ دعوى قضائيّة على موقع “الفيس بوك” لأنّ كل الاحتمالات بالنسبة لها تقودها للقول “بأنّ الرسائل التي كانت تتركها في صندوق صديقها في الأنترنت لحين قراءته لها كانتْ تتعرّض لدرجة عالية من حرارة العاطفة أكثر من الحدّ المعقول والطّبيعي فتصِلَ لطارق في شحناتٍ أكبرَ من احتمال قلبه ومشاعره” وتشاوِرَت مع “نضال” في الأمر،ففَاجأها بالقول “سمعاً وطاعة” .. ولأنّ الوقت وقتُ تقنية والزمانَ زمانُ “أنترنت” وزمامُ الأمور
بيدِ الاتصالات وأجهزة الحاسب الآلي فلم تجِدْ جملةٌ “سَمعاً وطاعة” أخصبَ من أرضيّات البرامج الإلكترونية ولا أنعمَ مقاماً من تعاملات التواصل عبرَ الشبكة العنكبوتيّة،فالاستجابةُ السريعة الهادئة المرِنَة التي يُبديها لكَ جهازُك المحمول لا تتوفّرُ في أقربِ الناس إليك ولن تحصلَ عليها سوى من الذين يخافونَ من بطشِكَ موجوداً ويلعنونَ سطوَتَكَ غائباً .. لو تحسّرَ كلٌّ من “طارق” و “إلهام” على ضياعِ هذه الفرصة من أيديهما بسبب تهوّر “طارق” الذي لا يُرضيه سوى أن تكتملَ رجولتَه “بالزواج” لما كانَ على أحدهما ملامٌ ولا عتَبْ،وإنما اللائمة على “الطاعة” التي جسّدَ دورها “طارق” والسّمْع الذي قامت بدوره “إلهام” فقليلٌ جدّاً أن تَسْمعَ الأنثى ونادرٌ جدّاً أن يُطيعَ الذّكر
بيدِ الاتصالات وأجهزة الحاسب الآلي فلم تجِدْ جملةٌ “سَمعاً وطاعة” أخصبَ من أرضيّات البرامج الإلكترونية ولا أنعمَ مقاماً من تعاملات التواصل عبرَ الشبكة العنكبوتيّة،فالاستجابةُ السريعة الهادئة المرِنَة التي يُبديها لكَ جهازُك المحمول لا تتوفّرُ في أقربِ الناس إليك ولن تحصلَ عليها سوى من الذين يخافونَ من بطشِكَ موجوداً ويلعنونَ سطوَتَكَ غائباً .. لو تحسّرَ كلٌّ من “طارق” و “إلهام” على ضياعِ هذه الفرصة من أيديهما بسبب تهوّر “طارق” الذي لا يُرضيه سوى أن تكتملَ رجولتَه “بالزواج” لما كانَ على أحدهما ملامٌ ولا عتَبْ،وإنما اللائمة على “الطاعة” التي جسّدَ دورها “طارق” والسّمْع الذي قامت بدوره “إلهام” فقليلٌ جدّاً أن تَسْمعَ الأنثى ونادرٌ جدّاً أن يُطيعَ الذّكر