أفكارُك هي البذور التي تنمو منها حياتك.. تلك هي البداية، أفكارك هي الأساس الذي به يمكنك أن تغيِّر حياتك سواء للأحسن أو للأسوأ، وللوصول للأحسن في أي شيء يجب أن تفكِّرَ بما يسعدك ويسعد الناس معًا، وهذا لن يحدث إلا باستخدام الذكاء العاطفي.
يقول أبو الحسن الندوى: "إن الإنسان ليس عقلًا مجردًا ولا كائنًا جامدًا يخضع لقانون أو إدارة قاصرة، ولا جهازًا حديديًّا يتحرك ويسير تحت قانون معلوم أو على خطٍّ مرسوم، إن الإنسان عقلٌ وقلب وإيمان وعاطفة وطاعة وخضوع وهيام وولع، وحب وحنان، وفي ذلك سر عظمته وشرفه وكرامته، وفي ذلك سر قوته وعبقريته وإبداعِه وسرُّ تفانيه وتضحيته، وبذلك استطاع أن يتغلب على كل معضلة ومشكلة، وأن يصنع العجائب والخوارق، واستحقَّ أن يتحمل أمانة الله التي اعتذرت عنها السماوات والأرض والجبال فأبَيْن أن يحملنها، وأشفقن منها وحملها الإنسان ووصل إلى ما لم يصل إليه ملك مقرَّب ولا حيوان ولا نبات ولا جماد.
إن صلة هذا الإنسان بربه ليست صلة قانونية عقلية فحسب يقوم بواجباته ويدفع ضرائبه ويخضع أمامه ويطيع أوامره وأحكامه، إنما هي صلة حب وعاطفة كذلك، صلة لا بد أن ترافقها ويقترن بها ويتحكم فيها في حنان وشوق وهيام ولوعة، وتفانٍ وتهالك، والدين لا يمنع من ذلك بل يدعو إليه ويغذيه ويقويه، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ) [البقرة: 165].
إذَن هي العاطفة والعاطفة الذكية
والعاطفة هي: الاستعداد النفسي الذي ينزع بصاحبه إلى الشعور بانفعالات معينة تجاه شخص أو شيءٍ أو فكرة.
والذكاء العاطفي: هو القدرات والمهارات في التعرف على مشاعرنا الذاتية ومشاعر الآخرين لنكون أكثر تحكمًا، وقدرة الإنسان على التعامل الإيجابي مع نفسه والآخرين، وهو: الاستخدام الذكي للعواطف؛ فالشخص يستطيع أن يجعل عواطفه تعمل من أجله أو لصالحه باستخدامها في ترشيد سلوكِه وتفكيرِه بطرق ووسائل تزيد من فرصة نجاحِه في العمل والبيت وفي الحياة بصورة عامة، وعواطفُنا هذه تنبع من أربعة أسس:
الأول: القدرة على الفهم والتقدير الدقيق والتعبير عن العاطفة فلا نبقى عبيدًا للمشاعر.
الثاني: القدرة على توليد المشاعر حسب الطلب عندما تسهِّل فهم الشخص لنفسه أو لشخص آخر.
الثالث: القدرة على فهم العواطف والمعرفة التي تنتج عنها.
الرابع: القدرة على تنظيم العواطف لتطوير النمو العاطفي والفكري.
هذه الأسس الأربعة تساعد على تطوير المهارات المعنية التي تشكِّل معًا ما يسمي بالذكاء العاطفي، فهو ينمو ويتطور بالتعلم والمِرَان على المهارات والقدرات التي يتشكَّل منها.
إذن هو: يجمع بين المنطق والعواطف في حل المشكلات، يساعد على زيادة المرونة والتأقلم مع المتغيرات، يتجاوب بلطف مع الأشخاص الذين يصعب التعامل معهم.
إذن هو: التعرف على المشاعر وتوظيفها بطريقة إيجابية، أي تضع يدك على مشاعرك وتضع لها عقلًا.
ولكن السؤال: لماذا مطلوب أن أكون صاحب ذكاء عاطفي؟
مطلوب حتى تجيد التعامل مع الآخرين، تنسجم عواطفك ومبادئك وقيمك معًا فتشعر بالرضا، حتى تتخذ قراراتك الحياتية بطريقة أفضل وتحظى بصحة جسدية ونفسية سليمة وتحفز نفسك لعمل ما تريد، وتكون أكثر فعاليةً من خلال فريق وتمتلك حياة زوجية أكثر سعادة وتكون مربيًا ناجحًا ومؤثرًا في أسرتك، وتحصل على معاملة أكثر احترامًا، وتكون أكثر إقناعًا وتأثيرًا في الآخرين، وفي النهاية تحقِّق السعادة لنفسك وتنجح وظيفيًّا.
فالشخص الذي يتمتع بالذكاء العاطِفِي يغضبُ وينفعل مثلَه مثل غيرِه، ولكن كل انفعال يأخذ وقته، فهو على الرغم من كونه حساسًا جدًّا، إلا أن كل موقف لديه يأخذ وقته، فلديه القدرة على تحويل ذهنِه سريعًا للسعادة الإيجابية.
- فالمدير الذي يتمتع بذكاء عاطفي لديه القدرة على توفير مناخ عمل ممتاز مليء بالإنتاج ومتاح به حرية الابتكار والتغيير، لديه قدرة على الابتسامة الصافية النقية التي تلغي الكثير من المعوِّقات.
- والزوج/ والزوجة اللذان لديهما الذكاء العاطفي لديهما القدرة على إدارة البيت والحياة داخله بكل مشكلاتها ومنغصاتها بقدر كبير من السلاسة والمرونة، على الرغم من وجود خلافات وبعض المشاحنات اليومية مع كل من في البيت ولكن في النهاية البيت سعيد.
- والشخص الذي يسير في الشارع وحدثت له حادثة بسيارته مع غيره ولديه الذكاء العاطفي ستكون لديه القدرةُ على امتصاص غضب المشكلة بدلًا من السبِّ واللعن والضرب، ثم في النهاية يعتذرون لبعضِهم البعض أو يلجئون للشرطة للعناد وغير ذلك الكثير، أليس هذا حسنًا وإجادة تعامل مع الآخرين وسعادة للنفس؟!
- صاحب الذكاء العاطفي استدعى المشاعر المناسبة بالقدر المناسب مع الشخص المناسب فكانت إدارة مثالية للمشاعر.
- صاحب الذكاء العاطفي استخدم المكونات الثلاث للإنسان وهي: (العقل والمشاعر والمهارات) ووظفها جيدًا حتى حظِيَ بما يريد.
- صاحب الذكاء العاطفي هنا:
إن كان رجلًا ستجده: متوازنًا اجتماعيًّا، صريحًا، مرحًا، لا يميل إلى الاستغراق في القلَق، ملتزمًا بقضايا الآخرين وصاحب علاقات قوية بهم، صاحب أخلاق، راضيًا عن نفسه والآخرين والمجتمع بشكلٍ كبير.
وإن كانت امرأةً ستجدها: حاسمة، تعبِّر عن مشاعرها بصورة مباشرة، الحياة عندها لها معنى، تندم إن مرت بلحظة غضب دون مبرر، تتكيف مع الضغوط النفسية دون استسلام لها، متوازنة اجتماعيًّا، تشعر بالراحة عند المرح والمزاح، تلقائية، منفتحة على غيرها من النساء.
والإسلام هو أساس الذكاء العاطفي الفطري؛ فالإسلام بتعاليمِه وتصوراتِه الواضحة للعقل والقلب، والتي تنمِّي كل أركان الذكاء العاطفي بدون جهدٍ يُذكر من الشخص إلا الالتزام بتعاليمه عزَّ وجل وسنة رسوله.
إنه الإسلام الذي ينقِّي الشخصيةَ من السلبية وعدم الثقة بالنفس ويهدئُ من روعِ المسلم ويأمره بعدم الغضب والانفعال، ويأمرُه بالعطف على الجميع حتى الحيوان والجماد، إنه الإسلام الذي يأمر بحسن الخلق مع الغير وانتقاء أفضل الكلمات في التعامل مع الآخرين.
ويبدأ الإسلام في تكوين المسلم للذكاء العاطفي بخطوات متتالية هي:
1- الإيمان: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30]، والاستقامة على قوله: "ربنا الله" الاستقامة عليها بحقِّها وحقيقتها، الاستقامة عليها شعورًا في الضمير وسلوكًا في الحياة، الاستقامة عليها والصبر على تكاليفها "ولا تخافوا" لا تحزنوا ومن ثم البشرى.
وكيف أتذوق طعم الإيمان؟ قال الرسول: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا" إذن سيحدث الصبر وعدم اليأس والشعور بالأُنْس والطمأنينة وعدم الخوف.
2- إدراك الحياة لله: من أول وأهم مكونات الذكاء العاطفي إدراك الذات أن يعرف الإنسان من هو، وما هي غايته، وما هي مبادئه وقِيَمُه، وأهدافه الواضحة، تجد الإسلام يحدِّد لك الطريق ببساطة: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] إنها الغاية الواحدة الجلية التي يعيش المسلم من أجلِهَا.
3- فهم معنى التكريم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء: 70].
4- العلم والتعلم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9]، منع سبحانه وتعالى المساواة بين العالم والجاهل، وقوله: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ) [النمل: 40]، أي أنه اقتدر بقوة العلم ويقول الرسول:"... وإنما العلم بالتعلم"، ويقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "الناس أبناء ما يحسِنون".
5- الحِلم: يقول عز وجل: (... وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران: 79]، وقيل في قوله "ربانيين" أي: حلماء علماء، وقال ابن عباس: حلماء فقهاء، ويقول تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا) [الفرقان: 63]، قال الحسن: حلماء وإن جهل عليهم لم يجهلوا، وقال عطاء بن أبي رباح: (يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) [الفرقان: 63]، أي: حُلماء.
6- حسن الخلق: فهذا ثناء على النبي من الله عز وجل فيقول: " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ" [القلم: 4]، ويأمُرُه بمحاسن الأخلاق فيقول: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" [فصلت: 34]، ويقول: "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران: 159]، ويقول النبي: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا".
7- الرحمة: يقول تعالى: "ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" [البلد: 17].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" ويقول أيضًا: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" إلى غير ذلك من الصفات الأساسية للمسلم في حياته الدنيوية ليحيا فيها بسعادة، وفي الأخروية لينعم بالجنة، عندها سيعيش المؤمن لله في كل حركة من حركاته وفي كل سكنة من سكناته فيهون عليه ما يلقاه في سبيل الله من تعَبٍ وألم؛ بل يصبح التعب راحةً والألم لذة فهو يحب الله عز وجل، فهذا "جلال الدين الرومي" يوضحُه بقوله: "شعلة الحب لله تعالى إذا التهبت أحرقتْ كل ما سواها، فلا كبر ولا خُيَلاء ولا جبن ولا خوف ولا حزن ولا حسد ولا بخل ولا عيب من العيوب النفسية".
نعم إذا ما آمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا.
نعم إذا ما عرف رسالته في الحياة وعاش بكرامة دون ذل أو إسفاف.
نعم إذا تعلم وعلم وكان حليمًا رحيمًا حسن الخلق وكان خاليًا من العيوب النفسية.
فلا خجل ولا قلق ولا غضب ولا غلظة، بل ثقة في النفس وهدوء واطمئنان وصبر على الجاهلين ورحمة وتعاطف وشفقة عليهم ولا كآبة ولا إحباط ولا سلبية، ولكن تفاؤل وإيجابية وتقدير للأمور التقدير الصحيح، ولا إلقاء بالكلمات كالحجارة، بل انتقاء لأحسن الكلام وأطيبه لمعالجة المواقف الصعبة.
ولذا كان الرسول وصحابته ومن اقتدى به سائرين على نهج الذكاء العاطفي الفطري.
فهذا الرسول بقدوته وبمواقِفِه التي عليك إن اقتديت بها ستسهل عليك وصولك إلى خطة مهارات الوصول للذكاء العاطفي، انظر إلى موقفه مع:
- أبي سفيان عند فتح مكة وأسلم فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحبُّ الفخر فاجعل له شيئًا قال: "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه دارَه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن" أليس هذه هي النفس البشرية وما ترغب فيه أحيانًا أعطاها له الرسول، وحين مرَّ أبو سفيان بسعد بن عبادة قال له الأخير: "اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة" فاشتكى أبو سفيان للنبي، ماذا قال له الرسول؟ قال: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تُكسَى فيه الكعبة" انظر كيف اختار النبي الكلماتِ الملائمةَ للموقف، أليس أبو سفيان شيخ قريش وكبيرهم؟ أليس هذا من حسن انتقاء الكلمات والدبلوماسية في زيادة أواصِر ومتانة العلاقات؟
- ومع مهاجري الحبشة، ظنوا أنهم أقل قدرًا من غيرِهم، سنون طويلة بلغت إحدى أو بضعة عشر عامًا نزل فيها قرآن كثير ودارت معارك شتَّى مع الكفار، ولذا يقول عمر بن الخطاب لأسماء بنت عُمَيْس: "سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم"، فغضبت وذكرت للرسول ما قالَه، ماذا قال لها؟ "ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم- أهل السفينة- هجرتان" إنها الكلمات المنتقاة التي تنقذ المواقف وتنفذ إلى القلوب نفاذ السهم الذي يعرف طريقَه جيدًا فيذوب القلب وصاحبه وينصهر حبًّا فيمن أمامه بسبب كلماتٍ قليلة.
- وفي المرح والفرح، فتجده يداعِب زاهر الأسلمي وكان صديقًا له فاحتضنه من خلفِه وبدأ يعلن عليه بالمزاد: "من يشتري العبد، من يشتري العبد؟ "فالتفت فرأى النبي فطفِقَ يلصق ظهره بالنبي ويقول: "إذًا والله تجدني كاسدًا"، قال: "لكن عند الله لست بكاسد"، ويتسابق مع السيدة عائشة وهم في غزوة فسبقته مرةً وسبقها أخرى فيقول: "هذه بتلك"، وفي التعاطف حتى مع الأطفال، فهذا أبو عمير أخو أنس كان معه عصفور يلعب به فرأى النبي هذا الطفل واندماجه مع هذا الطائر وشغفه به وولعه باللعب معه، فيأتي إليه النبي يومًا من الأيام وهو حزين لموت هذا الطائر فيسأله النبي فيقول: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟" هذا القلب الكبير المشحون بالقضايا العظيمة والمهمَّة والضخمة لم يمنعْه ذلك من أن يجد مكانًا في قلبه لطفل صغير مهموم يلعب مع عصفور فسأله عنه ويبادله الأحزان لموته.
وهذا عمر بن الخطاب الخليفة مع أم عمارة - رضي الله عنهما - هي التي قتلت مسيلمة الكذاب في حروب الردة يوم اليمامة وإذا يجيء أحد المرتدين ويضربها ضربة يطير ذراعها في سبيل الله، فلما عادت إلى المدينة مقطوعةَ الذراع أحست بحرَجٍ شديد وأصبحت لا تلبي دعوة من يدعوها إلى طعام أبدًا؛ وعرف عمر بن الخطاب بالأمر وبهذا الشعور المترف لديها، فوقف على المنبر يومًا وقال: أيها الناس أين أم عمارة؟ فصاحت من آخر المسجد: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا أم عمارة لعلك تخجلين من ذراعك المقطوع، يا أم عمارة أبشري، شيء منك سبقك إلى الجنة، فسمع المسجد كله تكبير المرأة: الله أكبر، اليوم آتي على النساء بذراعي المقطوع".
هذا أمير المؤمنين يراعي شعور سيدة فقدت ذراعها في معركة، يتعاطف معها، ويحفزها على استكمال مسيرة حياتها الطيبة الطاهرة، يحيي فيها ما قامت به، بل ويثني على ما فقدته من جسدها ويحفزها إيجابيًّا بدلًا من إحساسها بما فقدته سلبيًّا
- سَبَّ رجل ابن عباس -رضي الله عنهما- فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فتقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى، وقال رجل لضرار بن القعقاع: والله لو قلتَ واحدة لسمعت عشرًا، فقال له ضرار: والله لو قلتَ عشرًا لم تسمع واحدة.
ألا تستطيع أن تملك نفسَك وتضبطها كما يفعل هؤلاء؟إن استطعت كنت من النجوم وفهمت المعنيَّ.
- المؤمن لا يعرف القعود واللوم وانتظار الحلول، بل يتحرك لإيجاد الحلول وصنع الفرص، وهو الذي يوجه الحياة ويقودها، وفي هذا يقول محمد إقبال: "على المؤمن أن يربيَ في نفسه الروح وينشئ في هيكله الحياة، ثم يحرق هذا العالم بحرارة إيمانِه ووهج حياته وينشئ عالمًا جديدًا".
- إن الإيمان لا يمكن أن يجتمع في قلبٍ واحد مع السلبية والاستسلام والبلادة والقعود.
بداية التغيير فعلًا تكون في النفس كما قال تعالى: "إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: 11].
إن السعادة والتغيير والوصول إلى المبتغى المنشود تبدأ من نفسِك ومن داخلك وكن أنت القدوة العملية، وحول ما وجدته على الأوراق إلى سلوك عملي يتبعك فيه خلق من الناس كما قال الشاعر:
سِرْ في الأنام ولا تقف مترددًا
فالناس تتبع إن صدقت خطاكَ
لا تعتزل دنيا الأنام ترفعًا
بل فارفع الدنيا إلى علياك
إن المبادئ لا تعيش بفكرة
من كاتبٍ فوق السطور يفند
لكنها تحيا بعزمة صادق
في صدره موج العقيدة يزب
يقول أبو الحسن الندوى: "إن الإنسان ليس عقلًا مجردًا ولا كائنًا جامدًا يخضع لقانون أو إدارة قاصرة، ولا جهازًا حديديًّا يتحرك ويسير تحت قانون معلوم أو على خطٍّ مرسوم، إن الإنسان عقلٌ وقلب وإيمان وعاطفة وطاعة وخضوع وهيام وولع، وحب وحنان، وفي ذلك سر عظمته وشرفه وكرامته، وفي ذلك سر قوته وعبقريته وإبداعِه وسرُّ تفانيه وتضحيته، وبذلك استطاع أن يتغلب على كل معضلة ومشكلة، وأن يصنع العجائب والخوارق، واستحقَّ أن يتحمل أمانة الله التي اعتذرت عنها السماوات والأرض والجبال فأبَيْن أن يحملنها، وأشفقن منها وحملها الإنسان ووصل إلى ما لم يصل إليه ملك مقرَّب ولا حيوان ولا نبات ولا جماد.
إن صلة هذا الإنسان بربه ليست صلة قانونية عقلية فحسب يقوم بواجباته ويدفع ضرائبه ويخضع أمامه ويطيع أوامره وأحكامه، إنما هي صلة حب وعاطفة كذلك، صلة لا بد أن ترافقها ويقترن بها ويتحكم فيها في حنان وشوق وهيام ولوعة، وتفانٍ وتهالك، والدين لا يمنع من ذلك بل يدعو إليه ويغذيه ويقويه، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ) [البقرة: 165].
إذَن هي العاطفة والعاطفة الذكية
والعاطفة هي: الاستعداد النفسي الذي ينزع بصاحبه إلى الشعور بانفعالات معينة تجاه شخص أو شيءٍ أو فكرة.
والذكاء العاطفي: هو القدرات والمهارات في التعرف على مشاعرنا الذاتية ومشاعر الآخرين لنكون أكثر تحكمًا، وقدرة الإنسان على التعامل الإيجابي مع نفسه والآخرين، وهو: الاستخدام الذكي للعواطف؛ فالشخص يستطيع أن يجعل عواطفه تعمل من أجله أو لصالحه باستخدامها في ترشيد سلوكِه وتفكيرِه بطرق ووسائل تزيد من فرصة نجاحِه في العمل والبيت وفي الحياة بصورة عامة، وعواطفُنا هذه تنبع من أربعة أسس:
الأول: القدرة على الفهم والتقدير الدقيق والتعبير عن العاطفة فلا نبقى عبيدًا للمشاعر.
الثاني: القدرة على توليد المشاعر حسب الطلب عندما تسهِّل فهم الشخص لنفسه أو لشخص آخر.
الثالث: القدرة على فهم العواطف والمعرفة التي تنتج عنها.
الرابع: القدرة على تنظيم العواطف لتطوير النمو العاطفي والفكري.
هذه الأسس الأربعة تساعد على تطوير المهارات المعنية التي تشكِّل معًا ما يسمي بالذكاء العاطفي، فهو ينمو ويتطور بالتعلم والمِرَان على المهارات والقدرات التي يتشكَّل منها.
إذن هو: يجمع بين المنطق والعواطف في حل المشكلات، يساعد على زيادة المرونة والتأقلم مع المتغيرات، يتجاوب بلطف مع الأشخاص الذين يصعب التعامل معهم.
إذن هو: التعرف على المشاعر وتوظيفها بطريقة إيجابية، أي تضع يدك على مشاعرك وتضع لها عقلًا.
ولكن السؤال: لماذا مطلوب أن أكون صاحب ذكاء عاطفي؟
مطلوب حتى تجيد التعامل مع الآخرين، تنسجم عواطفك ومبادئك وقيمك معًا فتشعر بالرضا، حتى تتخذ قراراتك الحياتية بطريقة أفضل وتحظى بصحة جسدية ونفسية سليمة وتحفز نفسك لعمل ما تريد، وتكون أكثر فعاليةً من خلال فريق وتمتلك حياة زوجية أكثر سعادة وتكون مربيًا ناجحًا ومؤثرًا في أسرتك، وتحصل على معاملة أكثر احترامًا، وتكون أكثر إقناعًا وتأثيرًا في الآخرين، وفي النهاية تحقِّق السعادة لنفسك وتنجح وظيفيًّا.
فالشخص الذي يتمتع بالذكاء العاطِفِي يغضبُ وينفعل مثلَه مثل غيرِه، ولكن كل انفعال يأخذ وقته، فهو على الرغم من كونه حساسًا جدًّا، إلا أن كل موقف لديه يأخذ وقته، فلديه القدرة على تحويل ذهنِه سريعًا للسعادة الإيجابية.
- فالمدير الذي يتمتع بذكاء عاطفي لديه القدرة على توفير مناخ عمل ممتاز مليء بالإنتاج ومتاح به حرية الابتكار والتغيير، لديه قدرة على الابتسامة الصافية النقية التي تلغي الكثير من المعوِّقات.
- والزوج/ والزوجة اللذان لديهما الذكاء العاطفي لديهما القدرة على إدارة البيت والحياة داخله بكل مشكلاتها ومنغصاتها بقدر كبير من السلاسة والمرونة، على الرغم من وجود خلافات وبعض المشاحنات اليومية مع كل من في البيت ولكن في النهاية البيت سعيد.
- والشخص الذي يسير في الشارع وحدثت له حادثة بسيارته مع غيره ولديه الذكاء العاطفي ستكون لديه القدرةُ على امتصاص غضب المشكلة بدلًا من السبِّ واللعن والضرب، ثم في النهاية يعتذرون لبعضِهم البعض أو يلجئون للشرطة للعناد وغير ذلك الكثير، أليس هذا حسنًا وإجادة تعامل مع الآخرين وسعادة للنفس؟!
- صاحب الذكاء العاطفي استدعى المشاعر المناسبة بالقدر المناسب مع الشخص المناسب فكانت إدارة مثالية للمشاعر.
- صاحب الذكاء العاطفي استخدم المكونات الثلاث للإنسان وهي: (العقل والمشاعر والمهارات) ووظفها جيدًا حتى حظِيَ بما يريد.
- صاحب الذكاء العاطفي هنا:
إن كان رجلًا ستجده: متوازنًا اجتماعيًّا، صريحًا، مرحًا، لا يميل إلى الاستغراق في القلَق، ملتزمًا بقضايا الآخرين وصاحب علاقات قوية بهم، صاحب أخلاق، راضيًا عن نفسه والآخرين والمجتمع بشكلٍ كبير.
وإن كانت امرأةً ستجدها: حاسمة، تعبِّر عن مشاعرها بصورة مباشرة، الحياة عندها لها معنى، تندم إن مرت بلحظة غضب دون مبرر، تتكيف مع الضغوط النفسية دون استسلام لها، متوازنة اجتماعيًّا، تشعر بالراحة عند المرح والمزاح، تلقائية، منفتحة على غيرها من النساء.
والإسلام هو أساس الذكاء العاطفي الفطري؛ فالإسلام بتعاليمِه وتصوراتِه الواضحة للعقل والقلب، والتي تنمِّي كل أركان الذكاء العاطفي بدون جهدٍ يُذكر من الشخص إلا الالتزام بتعاليمه عزَّ وجل وسنة رسوله.
إنه الإسلام الذي ينقِّي الشخصيةَ من السلبية وعدم الثقة بالنفس ويهدئُ من روعِ المسلم ويأمره بعدم الغضب والانفعال، ويأمرُه بالعطف على الجميع حتى الحيوان والجماد، إنه الإسلام الذي يأمر بحسن الخلق مع الغير وانتقاء أفضل الكلمات في التعامل مع الآخرين.
ويبدأ الإسلام في تكوين المسلم للذكاء العاطفي بخطوات متتالية هي:
1- الإيمان: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30]، والاستقامة على قوله: "ربنا الله" الاستقامة عليها بحقِّها وحقيقتها، الاستقامة عليها شعورًا في الضمير وسلوكًا في الحياة، الاستقامة عليها والصبر على تكاليفها "ولا تخافوا" لا تحزنوا ومن ثم البشرى.
وكيف أتذوق طعم الإيمان؟ قال الرسول: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا" إذن سيحدث الصبر وعدم اليأس والشعور بالأُنْس والطمأنينة وعدم الخوف.
2- إدراك الحياة لله: من أول وأهم مكونات الذكاء العاطفي إدراك الذات أن يعرف الإنسان من هو، وما هي غايته، وما هي مبادئه وقِيَمُه، وأهدافه الواضحة، تجد الإسلام يحدِّد لك الطريق ببساطة: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] إنها الغاية الواحدة الجلية التي يعيش المسلم من أجلِهَا.
3- فهم معنى التكريم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء: 70].
4- العلم والتعلم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9]، منع سبحانه وتعالى المساواة بين العالم والجاهل، وقوله: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ) [النمل: 40]، أي أنه اقتدر بقوة العلم ويقول الرسول:"... وإنما العلم بالتعلم"، ويقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "الناس أبناء ما يحسِنون".
5- الحِلم: يقول عز وجل: (... وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران: 79]، وقيل في قوله "ربانيين" أي: حلماء علماء، وقال ابن عباس: حلماء فقهاء، ويقول تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا) [الفرقان: 63]، قال الحسن: حلماء وإن جهل عليهم لم يجهلوا، وقال عطاء بن أبي رباح: (يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) [الفرقان: 63]، أي: حُلماء.
6- حسن الخلق: فهذا ثناء على النبي من الله عز وجل فيقول: " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ" [القلم: 4]، ويأمُرُه بمحاسن الأخلاق فيقول: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" [فصلت: 34]، ويقول: "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران: 159]، ويقول النبي: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا".
7- الرحمة: يقول تعالى: "ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" [البلد: 17].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" ويقول أيضًا: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" إلى غير ذلك من الصفات الأساسية للمسلم في حياته الدنيوية ليحيا فيها بسعادة، وفي الأخروية لينعم بالجنة، عندها سيعيش المؤمن لله في كل حركة من حركاته وفي كل سكنة من سكناته فيهون عليه ما يلقاه في سبيل الله من تعَبٍ وألم؛ بل يصبح التعب راحةً والألم لذة فهو يحب الله عز وجل، فهذا "جلال الدين الرومي" يوضحُه بقوله: "شعلة الحب لله تعالى إذا التهبت أحرقتْ كل ما سواها، فلا كبر ولا خُيَلاء ولا جبن ولا خوف ولا حزن ولا حسد ولا بخل ولا عيب من العيوب النفسية".
نعم إذا ما آمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا.
نعم إذا ما عرف رسالته في الحياة وعاش بكرامة دون ذل أو إسفاف.
نعم إذا تعلم وعلم وكان حليمًا رحيمًا حسن الخلق وكان خاليًا من العيوب النفسية.
فلا خجل ولا قلق ولا غضب ولا غلظة، بل ثقة في النفس وهدوء واطمئنان وصبر على الجاهلين ورحمة وتعاطف وشفقة عليهم ولا كآبة ولا إحباط ولا سلبية، ولكن تفاؤل وإيجابية وتقدير للأمور التقدير الصحيح، ولا إلقاء بالكلمات كالحجارة، بل انتقاء لأحسن الكلام وأطيبه لمعالجة المواقف الصعبة.
ولذا كان الرسول وصحابته ومن اقتدى به سائرين على نهج الذكاء العاطفي الفطري.
فهذا الرسول بقدوته وبمواقِفِه التي عليك إن اقتديت بها ستسهل عليك وصولك إلى خطة مهارات الوصول للذكاء العاطفي، انظر إلى موقفه مع:
- أبي سفيان عند فتح مكة وأسلم فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحبُّ الفخر فاجعل له شيئًا قال: "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه دارَه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن" أليس هذه هي النفس البشرية وما ترغب فيه أحيانًا أعطاها له الرسول، وحين مرَّ أبو سفيان بسعد بن عبادة قال له الأخير: "اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة" فاشتكى أبو سفيان للنبي، ماذا قال له الرسول؟ قال: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تُكسَى فيه الكعبة" انظر كيف اختار النبي الكلماتِ الملائمةَ للموقف، أليس أبو سفيان شيخ قريش وكبيرهم؟ أليس هذا من حسن انتقاء الكلمات والدبلوماسية في زيادة أواصِر ومتانة العلاقات؟
- ومع مهاجري الحبشة، ظنوا أنهم أقل قدرًا من غيرِهم، سنون طويلة بلغت إحدى أو بضعة عشر عامًا نزل فيها قرآن كثير ودارت معارك شتَّى مع الكفار، ولذا يقول عمر بن الخطاب لأسماء بنت عُمَيْس: "سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم"، فغضبت وذكرت للرسول ما قالَه، ماذا قال لها؟ "ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم- أهل السفينة- هجرتان" إنها الكلمات المنتقاة التي تنقذ المواقف وتنفذ إلى القلوب نفاذ السهم الذي يعرف طريقَه جيدًا فيذوب القلب وصاحبه وينصهر حبًّا فيمن أمامه بسبب كلماتٍ قليلة.
- وفي المرح والفرح، فتجده يداعِب زاهر الأسلمي وكان صديقًا له فاحتضنه من خلفِه وبدأ يعلن عليه بالمزاد: "من يشتري العبد، من يشتري العبد؟ "فالتفت فرأى النبي فطفِقَ يلصق ظهره بالنبي ويقول: "إذًا والله تجدني كاسدًا"، قال: "لكن عند الله لست بكاسد"، ويتسابق مع السيدة عائشة وهم في غزوة فسبقته مرةً وسبقها أخرى فيقول: "هذه بتلك"، وفي التعاطف حتى مع الأطفال، فهذا أبو عمير أخو أنس كان معه عصفور يلعب به فرأى النبي هذا الطفل واندماجه مع هذا الطائر وشغفه به وولعه باللعب معه، فيأتي إليه النبي يومًا من الأيام وهو حزين لموت هذا الطائر فيسأله النبي فيقول: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟" هذا القلب الكبير المشحون بالقضايا العظيمة والمهمَّة والضخمة لم يمنعْه ذلك من أن يجد مكانًا في قلبه لطفل صغير مهموم يلعب مع عصفور فسأله عنه ويبادله الأحزان لموته.
وهذا عمر بن الخطاب الخليفة مع أم عمارة - رضي الله عنهما - هي التي قتلت مسيلمة الكذاب في حروب الردة يوم اليمامة وإذا يجيء أحد المرتدين ويضربها ضربة يطير ذراعها في سبيل الله، فلما عادت إلى المدينة مقطوعةَ الذراع أحست بحرَجٍ شديد وأصبحت لا تلبي دعوة من يدعوها إلى طعام أبدًا؛ وعرف عمر بن الخطاب بالأمر وبهذا الشعور المترف لديها، فوقف على المنبر يومًا وقال: أيها الناس أين أم عمارة؟ فصاحت من آخر المسجد: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا أم عمارة لعلك تخجلين من ذراعك المقطوع، يا أم عمارة أبشري، شيء منك سبقك إلى الجنة، فسمع المسجد كله تكبير المرأة: الله أكبر، اليوم آتي على النساء بذراعي المقطوع".
هذا أمير المؤمنين يراعي شعور سيدة فقدت ذراعها في معركة، يتعاطف معها، ويحفزها على استكمال مسيرة حياتها الطيبة الطاهرة، يحيي فيها ما قامت به، بل ويثني على ما فقدته من جسدها ويحفزها إيجابيًّا بدلًا من إحساسها بما فقدته سلبيًّا
- سَبَّ رجل ابن عباس -رضي الله عنهما- فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فتقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى، وقال رجل لضرار بن القعقاع: والله لو قلتَ واحدة لسمعت عشرًا، فقال له ضرار: والله لو قلتَ عشرًا لم تسمع واحدة.
ألا تستطيع أن تملك نفسَك وتضبطها كما يفعل هؤلاء؟إن استطعت كنت من النجوم وفهمت المعنيَّ.
- المؤمن لا يعرف القعود واللوم وانتظار الحلول، بل يتحرك لإيجاد الحلول وصنع الفرص، وهو الذي يوجه الحياة ويقودها، وفي هذا يقول محمد إقبال: "على المؤمن أن يربيَ في نفسه الروح وينشئ في هيكله الحياة، ثم يحرق هذا العالم بحرارة إيمانِه ووهج حياته وينشئ عالمًا جديدًا".
- إن الإيمان لا يمكن أن يجتمع في قلبٍ واحد مع السلبية والاستسلام والبلادة والقعود.
بداية التغيير فعلًا تكون في النفس كما قال تعالى: "إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: 11].
إن السعادة والتغيير والوصول إلى المبتغى المنشود تبدأ من نفسِك ومن داخلك وكن أنت القدوة العملية، وحول ما وجدته على الأوراق إلى سلوك عملي يتبعك فيه خلق من الناس كما قال الشاعر:
سِرْ في الأنام ولا تقف مترددًا
فالناس تتبع إن صدقت خطاكَ
لا تعتزل دنيا الأنام ترفعًا
بل فارفع الدنيا إلى علياك
إن المبادئ لا تعيش بفكرة
من كاتبٍ فوق السطور يفند
لكنها تحيا بعزمة صادق
في صدره موج العقيدة يزب