ورث المسلمون ثروةً فقهيةً؛ حيث أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالاجتهاد, واختلفوا فيه وأقرهم عليه، وصحَّح ما كان من خطأ فيه، وكذلك اجتهد الذين من بعدهم، ودوَّنوا آراءهم وكانت لهم آداب وأخلاقيات في اختلافهم, نحن نفتقدها الآن.
فكان المسلمون إذا حدثت حادثة نظروا في كتاب ربهم وسنة نبيهم, فإذا لم يجدوا اجتهدوا واختلفوا في كثير من المسائل، وكان يعذر بعضهم بعضًا ولم يعنِّف أحدهم من يخالفه، بل كان منهم من يتمنَّى إظهار الحق عند أخيه يأخذ عنه ويهتدي به, فكان اختلافهم يهدف إلى الحق؛ لذا لم يؤدِّ إلى اختلاف القلوب ولم يذهب للود قضية, فالمؤمنون إخوة بنيان مرصوص، صف واحد، جسد واحد.
وكانوا يكرهون الخلاف الذي يؤدي إلى البغضاء والشحناء والتفرق والشتات؛ لأنه منهيٌّ عنه وليس من أخلاقهم، والآن فسدت النيات، وتنافس الناس على حطام الدنيا وعلى السيادة، وأدَّى ذلك إلى التفرق والتقوِّي بالأعداء المتربصين, الذين يعلمون أن سرَّ قوة المسلمين في قوة إيمانهم ومنهجهم ووحدتهم وأدب اختلافهم الذي يؤدي إلى الارتقاء من الحسن للأحسن, وإلى إصلاح الدنيا بالدين، والإسلام جاء برسالة خالدة أبدية فيها من المبادئ والأصول ما يفي بحاجة الناس من تشريعات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لذا اجتهد الفقهاء وأصَّلوا الأصول ثم فرَّعوا الفروع, وخرَّجوا كثيرًا من الأحكام.
الاختلاف المذموم والمحمودوالاختلاف المذموم هو الرأي الباطل، وهو أنواع: أحدهما الرأي المخالف للنص, وهذا لا يُعمل به في الفتاوى ولا في القضاء، والثاني هو الكلام في الدين بالخرص والظن، مع التفريط في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها، والثالث الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة، والرابع الرأي الذي أُحدِثت به البدع وغيِّرت به السنة، فهذه الأنواع الأربعة اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمِّها وإخراجها من الدين، والرأي المحمود هو الرأي الصحيح الذي عمل به السلف وأفتَوا به (إعلام الموقعين جـ1/ 67).
وقال ابن حزم: إن الصحابة اختلفوا وتحرَّوا سبيل الله ووجه الحق؛ فالمخطئ منهم مأجورٌ أجرًا واحدًا لنيته الجميلة في إرادة الخير، وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم؛ لأنهم لم يتعمَّدوه ولا قصدوه ولا استهانوا بطلبهم, والمصيب منهم مأجور أجرين، وإنما الذم والوعيد لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى من الكتاب والسنة بعد بلوغ النص إليه وقيام الحجة عليه، قاصدًا الفرقة, يرد كتاب الله والسنة, فإن وافقه النص أخذ به وإن خالفه تعلَّق بجاهليته وترك القرآن والسنة, فهؤلاء هم المختلفون المذمومون (الإحكام في أصول الأحكام- جـ5/ 645).
فالاختلاف المحمود هو الذي يلتزم النصوص ومبادئ الإسلام وأدب الاختلاف، مع خلوص النية في طلب الحق، وهذا يؤدي إلى ثروة فكرية ورياضة ذهنية.
فالاختلاف المحمود هو الذي يلتزم النصوص ومبادئ الإسلام وأدب الاختلاف، مع خلوص النية في طلب الحق، وهذا يؤدي إلى ثروة فكرية ورياضة ذهنية.
"وإذا وقع الاختلاف المذموم بغى بعضهم على بعض؛ إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وقتله، والذين امتُحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء ابتدعوا بدعةً، وكفَّروا من خالفهم فيها واستحلوا منع حقه وعقوبته (العقيدة الطحاوية- ص 395) وهذا ما يفعله أهل السياسة بمخالفيهم!.
شرعية الاجتهاد والاختلاف
قال تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)﴾ (الأنبياء)، والقصة أن صاحب الزرع اشتكى من صاحب الغنم التي أكلت زرعه، فقضى داود بالغنم لصاحب الحرث؛ لأن ثمنها كان قريبًا منها، أما سليمان فقد حكم بأن يأخذ صاحب الحرث الغنم فيصيب من ألبانها ومنافعها حتى إذا بلغ الحرث ما كان عليه ردَّ الغنم إلى صاحبها، فداود وسليمان اجتهدا واختلفا لكن كان الأولى والأرجح هو حكم سليمان.. ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)﴾ (الأنبياء).
وفي عهد الرسالة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالاجتهاد، ورغَّب فيه وأقرَّهم على اختلافهم وصحَّح ما أخطأوا فيه، ففي الحديث: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (البخاري- أحكام: 7352 ومسلم- أقضية: 1716).
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن قال: كيف تقضي؟ قال أقضي بكتاب الله, قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله, قال: فإن لم تجد؟.. قال: أجتهد رأيي ولا آلو, فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال:"الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" (أبو داود- أقضية: 3592، وابن ماجة- مقدمة: 55)، والحديث له شواهد وأخرجه البيهقي في سننه (عون المعبود: 9/509).
وفي الحديث: "القضاة ثلاثة, واحد في الجنة واثنان في النار, فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به, ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار, ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" (أبو داود- 3573).
وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "لا يصلينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة, فأدرك بعضهم الصلاة في الطريق, فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم, وقال بعضهم: بل نصلي.. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلمفلم يعنِّف واحدًا منهم" (البخاري- المغازي: 4119 ومسلم 1770)، واستدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنِّف أحدًا من الطائفتين، وكل من الفريقين مأجور (فتح الباري: 7/471).
وعن عبد الله قال: سمعت رجلاً قرأ آيةً سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها, فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كلاكما محسن.. لا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" (لبخاري- 2410 وأحمد: 1/405 , 456, 5/ 124).
وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي قتال مانعي الزكاة, وعمر ينزل على رأي علي في دية الجنين، وابن مسعود يخالف عمر في مائة مسألة، منها: أن ابن مسعود كان يحرِّم نكاح الزانية على الزاني، وعمر يتوِّبهما ويُنكح أحدهما الآخر (إعلام الموقعين- جـ2 /218)، واختلف ابن عباس مع زيد بن ثابت في توريث الإخوة مع الجد، ومع ذلك لم يؤثر هذا الخلاف في المحبة بينهما، ولم تختلف القلوب، ولم يحمل أحدهم على الآخر، فابن عباس يرى زيدًا يومًا يركب دابته فأخذ بركابه يقود به، فقال له زيد: خلِّ عنك يا ابن عم رسول الله, فقال ابن عباس هكذا يفعل بالعلماء والكبراء, فقبَّل زيد يد ابن عباس، وقال هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا (راجع: بيان العلم وفضله لابن عبدالبر ص 203).
من أدب الاختلاف
1- البعد عن التفرق والتزام الجماعة قال تعالى ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: 103)، فأمرهم بالجماعة ونهاهم عن الفرقة، وفي الحديث: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله, ومناصحة أئمة المسلمين, ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم" (الترمذي: 2658 والدارمي: 227 وأحمد: 4/80 , 82).
"والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببًا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره.." (من رسالة التعاليم للإمام البنا).
2- البعد عن الجدل والمراء, والجدل: المخاصمة على سبيل المغالبة وحب الانتصار والظهور، والمراء: هو الجدل، وفي الحديث: "المراء في القرآن كفر" أبو داود- أدب: 4603، وهو جحود القرآن وتكذيب بعضه ببعض، وفي الحديث: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِم" (البخاري-أحكام: 7188، والألد الخَصِم: الدائم الخصومة، وفي الحديث: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل..." (الترمذي- 3253 حسن صحيح وابن ماجة: 48)، وفي الحديث: "أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا" (أبو داود- أدب: 4800 والترمذي: 1993 وغيرهما وفي الباب أحاديث كثيرة، نكتفي بما ذكرناه.
3- اتباع الهوى: قال تعالى ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ﴾ (ص: من الآية 26)، وفي الحديث: "... بئس العبد هوى يضله..." الترمذى: 2448 حسن.
4- اتباع الظن والتحاسد والتباغض والتقاطع والتدابر والتجسس والتنافس، هذا كله منهيٌّ عنه (راجع البخاري- أدب: 6054، 6065, 6606 ومسلم- البر: 2559, 2563، هذا وقد دعا الإسلام إلى التآلف والمحبة والأخوة، ونكتفي بذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا..." من حديث مسلم: الإيمان: 54 وأبو داود: 5193 وغيرهما.
5- عدم فرض رأي أحدهم على الآخر.. إن العلم والفهم ليسا حكرًا على أحد؛ فهذا الإمام مالك يبذل جهده في تدوين كتابه، ولم يرضَ أن يفرضه على الناس، ولما حج المنصور قال لمالك: قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنَّفتها فتُنسخ، ثم أبعث بها إلى كل مصر من الأمصار منها نسخة، وآمرهم بأن يعملوا بما فيها ولا يتعدَّوه إلى غيره، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ويُحكَى نسبة هذه القصة إلى هارون الرشيد؛ فقال مالك: إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان (راجع: حجة الله البالغة للدهلوي- ص 145).
وعن عمر أنه لقي رجلاً فقال: ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا, قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا, قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردُّك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت, ولكني أردُّك إلى رأي، والرأي مشترك، فلم ينقض ما قال علي وزيد.. (إعلام الموقعين- جـ1/65 وجامع بيان العلم وفضله صفحة 364).
فلم يقُل أحد من الفقهاء إن رأيه هو الحق، وإن رأي غيره باطل، بل كان يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وسئل الإمام أبو حنيفة: أهذا الذي تفتيه هو الحق الذي لا شك فيه؟ فقال: لعله الباطل الذي لا شك فيه، واليوم نرى أصحاب الرأي الواحد يتعصَّبون لرأيهم ويظنون أنه الحق الذي لا شك فيه، وأن المخالف هو من دعاه البدع والضلال ويعيبون عليهم ويلتمسون للبرآء العيوب، ويعتقدون أن هذا من أعظم ما يُتقرَّب به إلى الله.
بل بلغ بعضهم في معاداة من يخالفه إلى حدٍّ تجاوز به عداوته لليهود والنصارى، وهذا مخدوع مغرور! (راجع أدب الطلب- للشوكاني ص 41).
والمخرج من الخلافات الفقهية هو أن نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه, وقد عاب البعض على هذه القاعدة بادِّعاء أنها تعني التعاون مع أهل الضلال والبدع، ويعذر بعضنا بعضًا في البدع..! وليس الأمر كذلك, بل ما اتفق عليه الفقهاء، أما المخالف المخطئ في اجتهاده فهو معذورٌ مأجورٌ كما رأينا.
وقال الشيخ الغزالي رحمه الله: لاحظت أن ناسًا في هذه الأيام رباطها بالعقيدة غامض، وبالأخلاق ضعيف، وبمصلحة الأمة منقطع، يتركون عزائم الدين وفضائله، ويتبنَّون وجهات نظر فقهية معينة، ويتعصَّبون لها أشدَّ التعصُّب، ويفاصلون الآخرين عليها؛ فمن لم يشاركهم الرأي فليس بمسلم!، وأعداء الإسلام أصابوا الإسلام في مقتل بسبب هذه الوضع المزري والشقاق المفتعل، ومن الخير تحكيم هذه القاعدة، فنتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه (راجع: هذا ديننا بتاريخ 29/9/1992م).
وبعد فإن فقهاء السلف تأدَّبوا بأدب الإسلام في الاختلاف؛ لأنهم كانوا يتقون الله ويحرصون على وحدة المسلمين, وحاسَبوا أنفسهم ووزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليهم.