رحل الكفار بهزيمتهم، وبقي بنو قريظة بخيانتهم للمسلمين، وقبل أن يستريح المسلمون من غزوة الأحزاب، وقبل أن يلتقطوا أنفاسهم، جاء جبريل -عليه السلام- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد .. وإن الله -عز وجل- يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد (ذاهب) إليهم فمزلزل بهم. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي في الناس: (لا يصلِّينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة) _[البخاري].
فأسرع ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين إلى يهود بني قريظة، وحاصروهم في حصونهم، فلم يجد اليهود مفرًّا من المسلمين؛ ولم يجدوا ما يعتذرون به عن خيانتهم التي كادت تهلك المسلمين، لولا توفيق الله لنعيم بن مسعود، وحاصر المسلمون حصون بني قريظة، فملأ الرعب قلوبهم، وطلبوا أبا لبابة بن عبد المنذر لما بينهم وبينه من صلة، يستشيرونه أينزلون على حكم محمد؟! فقال لهم: نعم وأشار إلى حلقه، كأنه ينبههم إلى أنه الذبح، ثم أدرك أنه أفشى سرًّا من أسرار المسلمين، وأنه قد خان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسرع إلى مسجد المدينة، وربط نفسه إلى عمود فيه، وحلف ألا يفك منها حتى يتوب الله عليه فقبل الله توبته؛ وعفا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه.واستمر الحصار خمسًا وعشرين ليلة، فلما رأى اليهود عزم المسلمين على اقتحام حصن بني قريظة، قالوا: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ، وكان سعد سيد الأوس، وهم حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وقد توقع اليهود أن هذه الصلة تنفعهم، وتوقع الأوس أيضًا أن زعيمهم سوف يتساهل مع حلفائهم السابقين.
وكان سعد مصابًا في غزوة الخندق، فحملوه راكبًا إلى بني قريظة، وجاء إليه قومه يوصونه بالإحسان إلى بني قريظة، فقال قولته الشهيرة: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، فعلم قومه أنه سيأمر بقتلهم، فنظر سعد إلى اليهود وتذكر خيانتهم للعهد الذي بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلن حكمه عليهم، بأن يقتل رجالهم، وتسبي نساؤهم وأبناؤهم، وتقسم أموالهم على المسلمين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم يا سعد بحكم الله من فوق سبع سماوات) _[متفق عليه].
وهكذا كان حب سعد لدينه ونبيه أكبر مما كان بينه وبين اليهود من مودة في الجاهلية، وهكذا انتهت غزوة بني قريظة، ونزل قوله تعالى: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويًاعزيزًا . وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقًا تقتلون وتأسرون فريقًا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضًا لم تطئووها وكان الله على كل شيء قديرًا} [الأحزاب: 25-27].
زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة (زينب بنت جحش):
تبنى الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وزوجه بنت عمته
زينب بنت جحش، وكان الابن بالتبني له نفس حقوق الابن الأصلي، فله حق الميراث، وزوجته تحرم على أبيه الذي تبناه، فأراد الله أن يمنع تلك العادة، وأن ينسب الابن إلى أبيه، فشاء الله -سبحانه- ألا تستمر الحياة الزوجية بين زيد والسيدة زينب -رضي الله عنهما- فوقعت بينهما جفوة وشقاق، وكلما هم زيد بتطليقها نهاه صلى الله عليه وسلم، وقال له: أمسك عليك زوجك.
ثم طلقها زيد، ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج السيدة
زينب -رضي الله عنها- وبذلك بطلت عادة التبني، وما كان ينتج عنها من أمور تخالف الدين، قال تعالى: {إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً . ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرًا مقدورًا . الذين يبلغون رسالات ربهم ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله وكفي بالله حسيبًا . ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً} [الأحزاب: 37-40].