الخميس، يوليو 08، 2010

دروس رحلة الإسراء والمعراج

من أهم دروس رحلة الإسراء والمعراج معرفة مكانة المسجد الأقصى في كيان هذه الأمة، فمنه ابتدأ الإسراء، ومنه انتهى، فمن فرَّط بالمسجد الأقصى يوشك أن يُفرِّط بالبيت الحرام، فلكلٍ منهما مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين، ورحلة الإسراء كانت إيذاناً بانتقال القيادة والريادة للأمة الإسلامية قيادة تقوم على الرحمة والعدل لا على الغَلبة والقهر، ومن دروس الإسراء والمعراج معرفة منزلة الصلاة، فهي معراج المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى.

يقول فضيلة الدكتور القرضاوي:
الإسراء هو الرحلة الأرضية التي هيأها الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى القدس.. من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.. رحلة أرضية ليلية، والمعراج رحلة من الأرض إلى السماء، من القدس إلى السماوات العُلا، إلى مستوى لم يصل إليه بشر من قبل، إلى سِدرة المنتهى، إلى حيث يعلم الله عز وجل..
هاتان الرحلتان كانتا محطة مهمة في حياته (صلى الله عليه وسلم) وفي مسيرة دعوته في مكة، بعد أن قاسى ما قاسى وعانى ما عانى من قريش.
وقد هيأ الله تعالى لرسوله هذه الرحلة، الإسراء والمعراج، ليكون ذلك تسرية وتسلية له عما قاسى، وتعويضاً عما أصابه ليُعلمه الله عز وجل أنه إذا كان قد أعرض عنك أهل الأرض فقد أقبل عليك أهل السماء، إذا كان هؤلاء الناس قد صدّوك فإن الله يُرحب بك وأن الأنبياء يقتدون بك، ويتخذونك إماماً لهم، كان هذا تعويضاً وتكريماً للرسول (صلى الله عليه وسلم) منه عز وجل، وتهيئة له للمرحلة القادمة، فإنه بعد سنوات ـ قيل أنها ثلاث سنوات وقيل ثمانية عشر شهراً (لا يعلم بالضبط الوقت الذي أُسري فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم) إنما كان قبل الهجرة يقيناً ـ كانت الهجرة وكان الإسراء والمعراج إعداداً لما بعد الهجرة، ما بعد الهجرة حياة جهاد ونضال مسلح، سيواجه (صلى الله عليه وسلم) العرب جميعاً، سيرميه العرب عن قوس واحدة، ستقف الجبهات المتعددة ضد دعوته العالمية.
وأهم ما ينبغي أن نُركز عليه في ذكرى الإسراء والمعراج أمران، الأمر الأول هو المسجد الأقصى، كيف ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وكيف أعلمنا الله سبحانه وتعالى أن المسجد الأقصى كان مقصوداً، كان يمكن أن يعرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى سِدرة المنتهى مباشرة!
فلا بد أن ننظر لماذا كان هذا الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لماذا لم يُعرج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) مباشرة من المسجد الحرام إلى السماوات العُلا؟ هذا يدلنا على أن المرور بهذه المحطـة القدسـيـة، المرور ببيت المقدس، في هذه الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، المرور بالمسـجد الأقصى كان مقصوداً، والصلاة بالأنبياء الذين اسـتقبلوا رسـول الله (صلى الله عليـه وسـلم) في بيت المقدس، وأنه أمَّهم، هذا له معناه ودلالتـه؛ أن القيادة قد انتقلت إلى أمـة جديدة وإلى نبوة جديدة، إلى نبوة عالميـة ليسـت كالنبوات السـابقـة التي أُرسـل فيها كل نبي لقومـه، هذه نبوة عامـة خالدة لكل الناس، رحمـة للعالمين، ولجميع الأقاليم ولسـائر الأزمان، فهي الرسـالـة الدائمـة إلى يوم القيامـة، عموم هذه الرسـالـة وخلودها كان أمراً لا بد منـه، وهذه الصلاة بالأنبياء تدل على هذا الأمر، والذهاب إلى المسـجد الأقصى، وإلى أرض النبوات القديمـة، التي كان فيها إبراهيم، وإسـحاق وموسـى وعيسـى إيذان بانتقال القيادة...
القيادة انتقلت إلى الأمة الجديدة وإلى الرسالة العالمية الخالدة الجديدة..
هذا الربط بين المسـجدين، المسـجد الحرام والمسـجد الأقصى، ليُشـعر الإنسـان المسـلم أن لكلا المسـجدين قدسـيتـه؛ فهذا ابتدأ الإسـراء منـه وهذا انتهى الإسـراء إليـه، وكأن هذا يُوحي أن من فرَّط بالمسـجد الأقصى يُوشـك أن يُفرِّط بالمسـجد الحرام، ولو فرَّط بمنتهى الإسـراء يُمكن أن يفرِّط بمبتدأ الإسـراء، أراد الله تبارك وتعالى أن يربط بين المسجدين، المسجد الذي ابتدأ منه الإسراء، والمسجد الذي انتهى إليه الإسراء، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يرتبط في وجدان المسلم هذين المسجدين، المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأراد الله أن يُثبت المسجد الأقصى بقوله (((الذي باركنا حوله)))، وصف الله هذا المسجد بالبركة، وهذا قبل أن يُوجد مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ لأن المسجد النبوي لم يُنشأ إلا بعد الهجرة في المدينة، فأراد الله أن يُوطد هذا المعنى ويُثبته في عقول الأمة وقلوبها، حتى لا يُفرطوا بأحد المسجدين، من فرَّط بالمسجد الأقصى أوشك أن يُفرِّط بالمسجد الحرام، المسجد الذي ارتبط بالإسراء والمعراج، والذي صلى إليه المسلمون مدة طويلة من الزمن، حينما فُرضت الصلاة، كان المسلمون يُصلون إلى بيت المقدس، كان بيت المقدس قبلتهم، ثلاث سنين في مكة وستة عشر شهراً في المدينة، صلوا إلى هذا المسجد إلى بيت المقدس، كان قبلة المسلمين الأولى، فهو القبلة الأولى، وهو أرض الإسراء والمعراج، وهو المسجد الذي لا تُشد الرحال إلا إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد النبوي، وبهذا كانت القدس هي المدينة الثالثة المعظمة في الإسلام بعد مكة والمدينة.
هكذا ينبغي أن يعي المسـلمون أهميـة القدس في تاريخهم وأهميـة المسـجد الأقصى في دينهم، وفي عقيدتهم وفي حياتهم، ومن أجل هذا حرِص المسـلمون طوال التاريخ أن يظل هذا المسـجد بأيديهم.
وقد أراد الله تعالى أن يربط هذا المسجد بهذه الذكرى لنظل في كل عام، كلما جاءت ذكرى الإسراء في أواخر شهر رجب ويحتفل بها المسلمون في كل مكان، ذكَّرتنا بهذا الأمر الجلل، هذه القضية الخطيرة، هذه القضية المقدسة.. لا يمكن أيها الإخوة أن نُفرِّط فيها، إذا كان اليهود قد حلموا بإقامـة دولـة واسـتطاعوا أن يحققوا حُلمهم، فعلينا أن نحلم نحن بأننا لا يمكن أن نُفرِّط في مسـجدنا حتى وإن رأينا الواقع المر يسـتسـلم هذا الاسـتسـلام، وينهزم هذا الانهزام، لا يجوز لنا أن نسـير في ركابـه منهزمين.
يجب أن نعتقد أن الله تبارك وتعالى معنا، وأن الله ناصرنا وأنه مظهر دينه على الدين كله، وأنه ناصر الفئة المؤمنة، وكما روى الإمام أحمد والطبراني، عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس."
فهذه هي العبرة الأولى من قصة الإسراء والمعراج.
العبرة الثانية: وهي عبرة باقية أيضاً هي الصلاة، معروف أن الصلاة فُرِضت في تلك الليلة العظيمة، نحن نعلم في عصرنا أن الدولة حينما تريد أمراً مهماً تبلغه سفيرها، ولا تكتفي بأن تُرسل إليه رسالة في الحقيبة الدبلوماسية، إنما تستدعي السفير ليحضر بنفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم هو "سفير" الله إلى خلقه ولله المثل الأعلى، فالله استدعى "سفيره" إلى خلقه وأُسري به ثم عُرِج به إلى سِدرة المنتهى، وهناك فُرِضت عليه هذه الصلوات الخمس.
فكل العبادات فُرِضت في الأرض والصلوات فُرضت في السـماء، فهذا دليل على أهميـة هذه العبادة وهذه الفريضـة أو هذا الركن من أركان الإسـلام، وهو بقية هذه الرحلة البقية العملية الباقية، يعني هو معراج كل إنسان مسلم، المعراج الروحي أو الإيماني ليرقى به إلى الله تبارك وتعالى، كأن الرسول جاء معه بهدية من تلك الرحلة العظيمة، هذه الهدية لكل مسلم هي الصلاة ليعبد بها الله تبارك وتعالى، ولذلك ينبغي أن نذكِّر بهذه الصلاة خصوصاً أن الصلاة لها ارتباط بالمسجد الأقصى لأنه عندما فُرضت الصلاة ظلَّ المسلمون بعدها إلى الهجرة يُصلون إلى المسجد الأقصى، فكان هو القبلة الأولى للمسلمين، إذا كان القول الراجح أن الإسراء كان في السنة العاشرة من البعثة فقد ظلَّ المسلمون ثلاث سنوات يُصلون إلى القدس، وبعد الهجرة ظلوا ستة عشر شهراً يُصلون أيضاً إلى القدس، وهي القبلة الأولى ثم أمر الله أن يُولوا وجوههم شطر المسجد الحرام (((وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره))).
وقد أثار اليهود في المدينة ضجة حول هذا الأمر (((سيقول السُفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها))) وأشاعوا أن صلاة المسلمين في تلك المدة كانت باطلة وضاع أجرها وضاع أثرها، ورد الله عليهم ذلك وقال: (((وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم))). "إيمانكم" أي صلاتكم، عبَّر عن الصلاة بالإيمان لأنها معبرة عن الإيمان.
فالصلاة هي معراج لكل مسـلم؛ فإذا كان النبي (صلى الله عليـه وسـلم) قد عُرِجَ بـه إلى السـماوات العُلا، فلديك يا أخي المسـلم معراج روحي تسـتطيع أن ترقى بـه ما شـاء الله عزَّ وجلَّ، بواسطة الصلاة التي يقول الله تبارك وتعالى فيها في الحديث القدسي: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال عبدي: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال تعالى: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله تعالى: مجَّدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر الفاتحة، قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.