ما زلنا نبحث عن كنوز المعرفة في ثنايا قرآننا العظيم، واليوم نمضي مع درس بل دروس عظيمة مع بقرة بني إسرائيل، والتي سميت باسمها أطول سورة من سور القرآن، وأول سورة في المصحف بعد فاتحة الكتاب، والذي جاء في فضلها الكثير والكثير..
لكننا هنا بصدد تلك القصة التي سميت السورة باسمها، محاولين استلهام الدروس والعبر التي تنير حياتنا في كل مجال ومكان وزمان..
فما القصة؟ وكيف بدأت؟ وما أحداثها؟ ونهايتها؟ وأبطالها؟ ودلالات وعبر كل ذلك؟
هذا ما نحاول التعرف عليه في هذه الرحلة، فهيا بنا..
1- القصة من البداية:
كما حدَّثنا القرآن الكريم، فلقد بدأت القصة بدايةً غير تقليدية، لا يمكن لأي قاصٍّ مهما اتسع خياله أن يبدأ بمثلها؛ حتى إن المفسرين حاروا في تفسير ذلك، وظهر سؤالهم: أهي قصة واحدة أم قصتان معًا؟!
يقول الله تعالى في كتابه الكريم في بدء سرد القصة: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)﴾ (البقرة).
فطبقًا للمنطق العام، فإن السياق الذي يتمشى مع عقولنا ومنطقنا، أن تبدأ القصة أولاً بسرد الأحداث منذ بدء وقوعها، والتي لخصتها معظم كتب التفاسير، مع اختلاف طفيف في التفاصيل فيما بينها، ومرجعها كما قال ابن كثير: "والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا نصدق ولا نكذب؛ فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا" (تفسير ابن كثير 1/ 298).
وتتلخص أحداث القصة (انظرها في: تفسير ابن كثير 1/ 294 وما بعدها) في أن شابًّا فقيرًا كان له عم عقيم وله مال كثير، وكان هذا الشاب هو الذي سيرث عمه الذي لا ولد له، فلما استبطأ موته قام بقتله، ثم رمي به على قوم آخرين ليدفعوا ديته، ثم أصبح يدَّعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علامَ يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ فعجبوا من ذلك- كما صور القرآن- وقالوا: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾!!.
ونتيجة لذلك فإنهم تلكأوا في طلب موسى عليه السلام، وأخذوا يكررون أسئلة لا علاقة لها بجوهر الموضوع الأصلي، وإنما هي غارقة في تفاصيل وقشور بعيدة؛ حيث قالوا: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ (البقرة: من الآية 68).
فكان بإمكانهم ذبح أي بقرة، بصرف النظر عن لونها أو سنها.. إلخ، إلا إنهم تعنَّتوا وتشدَّدوا فشدَّد الله عليهم، وما ذلك إلا لحكمة أرادها سبحانه وتعالى، يقول ابن عباس رضي الله عنه: "فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شدَّدوا وتعنَّتوا على موسى، فشدَّد الله عليهم" (تفسير ابن كثير 1/ 296).
أما البقرة التي أُمروا بذبحها، والتي ظلوا يتشدَّدون في معرفة مواصفاتها وتفصيلاتها، وهي القصة الثانية معنا، فلم يجدوها إلا عند امرأة رجل تقي صالح تُوفي وترك لها أولادًا صغارًا (يتامى)، وهي القيِّمة عليهم!
فلما عرضوا على المرأة شراءها سألتهم أضعاف ثمنها، فذهبوا إلى موسى عليه السلام، فقال لهم: إن الله قد كان خفَّف عليكم فشدَّدتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها، ففعلوا، واشتروها بملء جلدها- بعد ذبحها- ذهبًا!
وتمام القصة أنهم أخذوها فذبحوها، فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجعت إليه روحه، فأخبر عن قاتله، وهو ابن أخيه، ثم عاد ميتًا كما كان، فلم يعط ابن أخيه من ماله شيئًا، فلم يورث قاتل بعد! وهو مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القاتل لا يرث" (رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني).
بعد هذا العرض فإن البداية التي تتفق مع منطقنا هنا هي:
"وإذْ قُتلت نفسٌ فسُئل موسى عمن قتلها فأمرهم أن يذبحوا بقرة ليعرفوا القاتل.."!
فالقتل هو الذي سبق، وذبْح البقرة إنما كان لكشف الحقيقة..
لذلك نجد أن هناك من المفسرين من أكد أنها ليست قصة واحدة، وإنما قصتان مختلفتان، ثم اتحدتا بعد ذلك في قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ (البقرة: من الآية 73)، ويرجع ذلك من وجهة نظرهم إلى أهمية ما في القصة الأولى من الدروس والعبر حول أسلوب ومنهجية بني إسرائيل في التعامل والتفاوض، والحياة عمومًا، ثم القصة الثانية وما فيها من عبر عابرة.
ولكن هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ وهل انكشف المستور أم لا نزال في البداية؟ بداية محاولة الفهم والتفهم والعلم والتعلم.. نعم من هنا نبدأ..
2- البداية العجيبة:
أنني أحترم كل الاحترام من برروا تلك البداية- من المفسرين- بأنها قصتان اتحدتا في النهاية، ولكنني أحاول البحث عن مزيد من الفهم لمعرفة الحِكم والعبر، والدروس العامة المستفادة.
وبصفة عامة وقبل الدخول في صلب الموضوع فإنني أقول بأن المشكلة الأساسية ونقطة الارتكاز في هذه القصة أو القصتين لم تكن موضوع القتل الذي كان قد استشرى في بني إسرائيل حينئذٍ، وإنما كان موضوعها البقرة، وبالأخص صاحب البقرة ومن تركهم من بعده، وإن أصل الموضوع وتكامله يتضح إذا أرجعنا أصل الأمر إلى ما أراده القرآن، وليس إلى ما رآه بنو إسرائيل ورواتهم، ومن تلاهم من المفسرين، وحتى المعاصرين منهم..
فقد اعتبر القرآن أن أصل الموضوع هو البقرة، وأن باقي الأحداث إنما هي مصنوعة في إطارها، وتقوم بدور أساسي ومكمل في القصة الأصلية، قصة البقرة وصاحبها الذي تركها لأولاده الصغار من بعده واستودعها الله لهم.. وكأن كل ذلك لم يتم إلا تكريمًا لهذا الرجل المؤمن التقي، وأولاده من بعده!!
وهنا تظهر قمة الترابط بين الأحداث التي قد لا تبدو أمام الكثيرين منا غير مترابطة في الحياة؛ إذ الحياة مجموعة من الأحداث والقصص المترابطة التي خلقها الله بقدر وعناية فائقة، ولكن لا ينكشف لنا من أسرارها إلا أقل القليل، لكن كل شيء عنده بقدر وبمقدار كما قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: من الآية 49).
فالترتيب القرآني إذن يلفت نظرنا إلى جوهر الأمر، حيث جعل الأصل هو البقرة، والمكمل له هم القتلة والقتيل، وحسْم أمر النزاع والشقاق.. فجعل الله تعالى أهل التقوى والصلاح هم أصل الموضوع، ومن عاداهم من أهل الحقد والحسد والعدوان والقتل.. هم خدم تابعين لا يحققون مرادهم الدنيء الخبيث بمكرهم وكيدهم، وإنما في الحقيقة يعملون بهذا الكيد والمكر لخدمة ما أراده الله من خير لأوليائه من أهل التقوى وأهل المغفرة، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)﴾ (الطارق).
ولعل هذا يبرز الأمر في إطاره الصحيح المتكامل كما رسمه القرآن الكريم.ومن هذا الأساس يمكن أن نبدأ في تلخيص ما يفتح الله به من دروس وعبر، والتي يمكن أن تنقسم إلى:
* دروس في البقرة وصاحبها وأبطالها.
* دروس في بني إسرائيل ومنهجيتهم في التعامل.
* دروس في المتعجلين من أهل الكيد.
* وغيرها من الدروس العامة.
الدرس الأول: ما بين الجوهر والمظهر:
لا شك أن لكل أمر من الأمور مظهرًا وجوهرًا، والعاقل الحكيم هو من يركِّز على الجوهر قبل المظهر، لكن هناك من الناس من يشغله المظهر عن الجوهر، وفي مجال الإدارة كثيرًا ما نرى بعض المديرين يقضي كل وقته بالانشغال بالتفاصيل التافهة، وينغمس في دائرة الحياة اليومية الروتينية المتكررة، ويترك ما هو مهم وضروري، ويحسب أنه يحسن عملاً.
فإن كان في مستوى الإدارة الإستراتيجية العليا فإن المصيبة تكون أكبر؛ حيث كثيرًا ما نرى أن أغلب هؤلاء الذين يشغلون مناصب إدارية عليا لا يمارسون في الحقيقة إلا مهام من مستويات الإدارة الدنيا التي كانوا يشغلونها فيما سبق، وعادة ما تكون من النوع الروتيني المتكرر.
وكثيرًا ما رأيت في مواقع عدة أشخاصًا قد تمَّ ترقيتهم من وظيفة دنيا إلى وظيفة عليا، لكنهم ظلوا منغمسين من رأسهم إلى أخمص قدمهم في شكليات ومظاهر الوظيفة الدنيا التي كانوا يشغلونها من قبل..
أتدرون لماذا؟!
لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يشغل فردان وظيفة واحدة..!! ومن ثم ينشأ الصراع أو الاستسلام، وفي كلا الحالتين سوف تكون الغلبة بالطبع للمدير الأعلى الذي لا يزال يشغل نفسه بمهام الوظيفة الأدنى ومظاهرها، وبالطبع سيظل يقنع نفسه بأنه قد استحال العثور على شخص آخر يمكن أن يحل محله بنفس الكفاءة..
وإنني أوافق هؤلاء تمامًا في أنه لا يمكن العثور على من سوف يصلح من وجهة نظرهم لشغل الوظيفة التي كانوا يشغلونها!!
والحل الأسهل والأفضل من وجهة نظري لمثل هذه الحالة، وطبقًا للتشخيص السليم للمشكلة المتكررة في أماكن كثيرة، هو أن يظل هؤلاء في وظيفتهم التي يعشقونها، وليكون البحث ليس عن وظيفة مدير أدنى، وإنما ينصبّ البحث عن وظيفة المدير الأعلى!!
لأن صاحبنا لا يعرف في الوظيفة الأعلى إلا مظهرها، ولا يتمسك إلا بشكليتها وروتينيتها، بل ويتمسك بكل تلابيب الوظيفة الدنيا، ومن ثم يغيب الاهتمام بجوهر الوظيفة الإستراتيجية الأعلى، الذي يعد بمثابة العقل الإستراتيجي للمنظمة.
ولعل هذه المنهجية الغريبة هي التي سيطرت على عقلية ونفسية أولئك الذين سألوا موسى عليه السلام؛ فبدلاً من أن يعمدوا إلى جوهر الطلب، وهو ذبح أي بقرة، أخذوا يتمحَّكون في أسئلة شكلية تفصيلية، بل قد لا يكون لها معنى أصلاً، وهو ما يشير إلى تخبطهم وتفاهتهم، ومدى جدالهم للحق، وبُعدهم عن امتثال أوامر الله وأوامر رسوله الذي أُرسل إليهم..
فما معنى أن يطلب منهم نبيهم طلبًا هم المستفيدون منه في الأصل، ثم يكون ردهم عليه بسؤال مثله، وليس باستجابة وفعل وامتثال؟!
ما معنى أن يطلب منهم نبيهم أن يذبحوا بقرة، ثم يكون ردهم الأول: أتتخذنا هزوا؟!
وليس من العجب أن تأتي أسئلتهم بعد ذلك بلهاء لا معنى لها، إلا أن تكون إضاعة للوقت، حيث سألوا وقالوا: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾(البقرة: من الآية 68).
والحقيقة أن الإجابة الطبيعية لهذا السؤال هي: ﴿إنَّهَا بَقَرَةٌ.. ﴾!!
والبديهي كذلك أن السؤال هنا ما كان ينبغي أن يكون عن الماهية؛ حيث سبق وأن حدد لهم نبيهم بشكل قاطع وواضح المطلوب ذبحه، وكان "بقرة"!
إلا أنهم أخذوا يستدركون ويسألون عن مزيد من التفاصيل والشكليات مثل: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا﴾ (البقرة: من الآية 69)، ثم عادوا مرةً ثانية وسألوا عن ماهيتها فقالوا: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ (البقرة: من الآية 70).
وفي كل مرة تكون الإجابة ببيان بعض صفاتها التي يتم السؤال عنها، مثل سنها ولونها وحالها.. وبالطبع هم لا يدرون نتيجة التمسك والتمحك بهذه التفاصيل، هم يعتقدون أن ذلك سوف يسهل الأمر عليهم، وفي الحقيقة فإنه قد صعَّب الأمر عليهم كثيرًا.. لماذا؟
لأنه كلما دخلنا في دهاليز التفاصيل الدقيقة ضاقت البدائل التي يمكن الاختيار من بينها، وكلما ضاقت البدائل في مثل هذه الحالة، فسوف يكون المطلوب نادرًا!!
فإن أسئلتهم الكثيرة عن صفات البقرة التي ستُذبح أدَّت بهم إلى أن تتقلص الاختيارات وتتمحور حول بقرة واحدة ليس لها بديل، بينما كان يجزئهم ويكفيهم أن يعمدوا إلى أية بقرة منذ الأمر الأول فيذبحوها ويحققوا الهدف.
وهكذا نجد عاقبة مَن يترك الجوهر ويغرق في تفاصيل شكلية مظهرية لا قيمةَ لها، فإنها لن تؤدي به إلا إلى المزيد من تصعيب الأمور وتعقيدها، فيصبح السهل صعبًا، وربما يتحول إلى مستحيل!
الدرس الثاني: في التفاوض:
لعل ما سبق أن أشرنا إليه في الدرس السابق يؤكد درسًا آخر في تفهُّم النفسية اليهودية عند التفاوض، وتتلخص في أنهم يغرقون الطرف الآخر في غابة من التفاصيل والشكليات، دون الدخول في جوهر الأمر.
ولعل هذا ما نراه واضحًا مثلاً في تعاملهم في القضية الفلسطينية حتى الآن؛ فهم لا يريدون أن يتكلموا في جوهر المشكلة وحلولها مثل: حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، وإعادة كل شبر محتل إلى أصحابه، ومستقبل القدس، وتعويض المتضررين، والإفراج عن الأسرى..وتراهم يتمسكون بأمور شكلية عجيبة من قبيل: خارطة الطريق، المعابر، الخدمات اليومية، الشرطة والسلاح، المقاومة، الاعتراف بحقهم في الوجود.. إلخ.
ومن ثمَّ فعلى المفاوض العربي أن يُحبط هذه الإستراتيجية ولا يدخل في متاهتهم، وأن يكون تركيزه محددًا وواضحًا وقاطعًا على الكليات، ولعل هذا ما فطن إليه الفلسطينيون أخيرًا من خلال مواجهتهم بمشروع حماس بعد اختيار الشعب الفلسطيني لها؛ لأنها ركزت على الجوهر الإستراتيجي، ورفضت التعامل في تلك التفاصيل والشكليات، وهذا ما يزعج الطرف الآخر ومن يدعمه!
الدرس الثالث: في الشفافية:
إن من أصعب الأمور والحالات في أي مجتمع أو منظمة هي تلك الحالة التي تغيب فيها الشفافية والوضوح؛ حيث يكون البديل في هذه الحالة هو الغموض، ومن ثم التحفظ، والاضطراب والظلم، والقرارات الخاطئة عمومًا.
وللأسف الشديد فإن مثل تلك الحالات التي تغيب فيها الشفافية هي السائدة الآن في عالمنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية، بل إن آخر تقارير الشفافية التي تصدر من منظمات عالمية متخصصة أظهر أن أكثر الدول افتقارًا للشفافية في العالم الآن هي الدول العربية، وكثير من الدول الإسلامية، وهذا حال مؤسف ليس فقط لأنه على مستوى الدول، ولكنه أيضًا على مستوى كثير من المنظمات التي تغيب فيها تمامًا الشفافية والوضوح وشيوع المعلومات والحقائق، رغم أن ذلك أصبح من أبسط أبجديات الإدارة الصالحة الحديثة، وكان كذلك منذ بدأ الإسلام..وفي المجتمع الذي تدور فيه أحداث هذه القصة نلاحظ غياب الشفافية..فهناك حالة قتل..وهناك اتهامات ظالمة..وهناك متَّهمون بُرآء..وهناك قاتل يرتدي ثوب البراءة!! بل ويبكي بحرارة ومرارة ظاهرة على المقتول، ويتهم غيره بقتله..!!!
فأين الحقيقة..؟!
إن البقرة هنا هي رمز كامل للشفافية والوضوح الذي يجب أن يتوافر في أي مجتمع أو منظمة؛ ليتحقق فيها العدل ويزول الظلم، ويسود الحق والوضوح، ويغيب التخبط والشك والظنون.. فكيف لإدارة حديثة تعتبر نفسها صالحة وهي تعمل في بيئة مظلمة حالكة الظلمة، يعتبر كل ما فيها أسرار ودهاليز غامضة؟!
لا شك أننا لا نحتاج بالضرورة إلى بقرة لنذبحها ونضرب بقطعة منها الحقيقة الغائبة والميتة لتدب فيها الحياة، وإنما نحن في حاجةٍ إلى مديرين ناضجين فاهمين أصحاب رسالة، يثقون في أنفسهم وفيمن يعمل معهم، يكون ظاهرهم كباطنهم، وسريرتهم كعلانيتهم، ينشرون المعرفة والحقائق لتكون واضحةً تمامًا في ذهن الجميع، إنها الإدارة المعرفية المحترمة التي نريدها.
الدرس الرابع: القيمة الحقيقية:
إن القيمة الحقيقية للأشياء ليست في ظاهر ما نراه، وإنما فيما أودعها الله سبحانه وتعالى بداخلها.
ولعل من الأمور التي أصبحت معلومةً بالضرورة أنه كلما زاد ندرة شيء ما زادت قيمته؛ فالذهب أعلى قيمةً من الرمل ليس لأنه أكثر أهمية، ولكن لكونه أكثر ندرةً، وهكذا.
لذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى جعل الأشياء الأكثر أهميةً لحياة الإنسان وبقائه أكثر وفرةً وأقل ندرة، كالماء والهواء، بل إن الهواء الذي لا يمكن للإنسان أن يستغنى عنه لحظة جعله الله أكثر وفرةً حتى من الماء؛ لذلك لا نجد للهواء قيمة مالية أو مادية معروفة، وهو مبذول للجميع بنفس الإتاحة والفرصة..
وبالنسبة لبني إسرائيل هنا، فإنهم تسببوا دون قصد في جعل الشيء المطلوب أكثر ندرةً بعد أن كان أكثر وفرة، فهم ظنوا أنهم كلما أغرقوا موسى عليه السلام في تفاصيل البقرة المطلوبة، سهَّل ذلك عليهم التعرف عليها، بينما العكس هو الصحيح؛ حيث إن ذلك أدَّى إلى عدم انطباق هذه الصفات إلا على بقرة واحدة، بعد أن كان من الممكن أن تؤدي أي بقرة نفس الغرض لو ذبحوها منذ الأمر الأول.. لكنهم لم يفعلوا.
وهنا نجد أن هناك الكثير من الناس الذين يتفننون في تضييق الواسع وتشديد السهل، ومثل هؤلاء تجدهم في مجال الإدارة بشكل خاص، فتجد من يسمون بالشكليين أو البيروقراطيين الحرفيين، الذين يتشددون في الحرفيات والإجراءات على حساب الجوهر والأهداف، فيشقُّوا على أنفسهم وعلى مَن يتعامل معهم دون سبب منطقي، بينما نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ييسر ولا يعسر، ولم يُخيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
إذن فإن هذه البقرة قد أصبحت مختلفةً تمامًا عن سائر ما هو موجود من البقر، ليس فقط في مواصفاتها الشكلية التي أصبحت لا تنطبق إلا على بقرة واحدة، وإنما أيضًا في المنفعة أو القيمة المترتبة عليها لهؤلاء، فهي وحدها التي سوف تمكنهم من معرفة الحقيقة وكشفها؛ ولذلك كان الوضع الطبيعي أن ترتفع قيمة هذه البقرة، وأصبح الطرف الوحيد القادر على تحديد قيمتها هم أصحابها، الذين يحق لهم أن يطلبوا ما يشاءون، ولا بد من تلبية مطالبهم مهما كان مغاليًا فيها!
وهذا يعطينا درسًا مهمًا في قيمة الأشياء من السلع والمنتجات أو حتى الخدمات، فالعبرة ليست بمجرد وفرتها، وإنما بما تتمتع به من ميزة تنافسية تجعل المنفعة المترتبة عليها لمَن يستخدمها أعلى من غيرها، وبشكلٍ مستمر.
فهذه البقرة أصبحت مؤهلةً إذن لاستحقاق أعلى قيمة على أي بقرة على مرِّ التاريخ البشري على الإطلاق، ولكن لماذا هذه البقرة بالذات؟ ولماذا لهؤلاء الذين يملكونها بالذات؟ وهل فعلوا شيئًا أو بذلوا جهدًا ليحققوا مثل هذه القيمة التي لم يحلم بها أحد، ولم يحلم بها أصحابها أنفسهم؟!
الدرس الخامس: ابحث عن الكنز الذي بداخلك:لقد رأينا كيف آلت الأمور بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن الذهب ويعيشون للذهب ويلهثون وراءه، ليصبح هو وحده همهم وهدفهم وعليه مدار حياتهم، ولا يترددون في محاولة تحقيق ذلك بكل وسيلة، مشروعة كانت أو غير مشروعة.
لكننا هنا بصدد تلك القصة التي سميت السورة باسمها، محاولين استلهام الدروس والعبر التي تنير حياتنا في كل مجال ومكان وزمان..
فما القصة؟ وكيف بدأت؟ وما أحداثها؟ ونهايتها؟ وأبطالها؟ ودلالات وعبر كل ذلك؟
هذا ما نحاول التعرف عليه في هذه الرحلة، فهيا بنا..
1- القصة من البداية:
كما حدَّثنا القرآن الكريم، فلقد بدأت القصة بدايةً غير تقليدية، لا يمكن لأي قاصٍّ مهما اتسع خياله أن يبدأ بمثلها؛ حتى إن المفسرين حاروا في تفسير ذلك، وظهر سؤالهم: أهي قصة واحدة أم قصتان معًا؟!
يقول الله تعالى في كتابه الكريم في بدء سرد القصة: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)﴾ (البقرة).
فطبقًا للمنطق العام، فإن السياق الذي يتمشى مع عقولنا ومنطقنا، أن تبدأ القصة أولاً بسرد الأحداث منذ بدء وقوعها، والتي لخصتها معظم كتب التفاسير، مع اختلاف طفيف في التفاصيل فيما بينها، ومرجعها كما قال ابن كثير: "والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا نصدق ولا نكذب؛ فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا" (تفسير ابن كثير 1/ 298).
وتتلخص أحداث القصة (انظرها في: تفسير ابن كثير 1/ 294 وما بعدها) في أن شابًّا فقيرًا كان له عم عقيم وله مال كثير، وكان هذا الشاب هو الذي سيرث عمه الذي لا ولد له، فلما استبطأ موته قام بقتله، ثم رمي به على قوم آخرين ليدفعوا ديته، ثم أصبح يدَّعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علامَ يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ فعجبوا من ذلك- كما صور القرآن- وقالوا: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾!!.
ونتيجة لذلك فإنهم تلكأوا في طلب موسى عليه السلام، وأخذوا يكررون أسئلة لا علاقة لها بجوهر الموضوع الأصلي، وإنما هي غارقة في تفاصيل وقشور بعيدة؛ حيث قالوا: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ (البقرة: من الآية 68).
فكان بإمكانهم ذبح أي بقرة، بصرف النظر عن لونها أو سنها.. إلخ، إلا إنهم تعنَّتوا وتشدَّدوا فشدَّد الله عليهم، وما ذلك إلا لحكمة أرادها سبحانه وتعالى، يقول ابن عباس رضي الله عنه: "فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شدَّدوا وتعنَّتوا على موسى، فشدَّد الله عليهم" (تفسير ابن كثير 1/ 296).
أما البقرة التي أُمروا بذبحها، والتي ظلوا يتشدَّدون في معرفة مواصفاتها وتفصيلاتها، وهي القصة الثانية معنا، فلم يجدوها إلا عند امرأة رجل تقي صالح تُوفي وترك لها أولادًا صغارًا (يتامى)، وهي القيِّمة عليهم!
فلما عرضوا على المرأة شراءها سألتهم أضعاف ثمنها، فذهبوا إلى موسى عليه السلام، فقال لهم: إن الله قد كان خفَّف عليكم فشدَّدتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها، ففعلوا، واشتروها بملء جلدها- بعد ذبحها- ذهبًا!
وتمام القصة أنهم أخذوها فذبحوها، فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجعت إليه روحه، فأخبر عن قاتله، وهو ابن أخيه، ثم عاد ميتًا كما كان، فلم يعط ابن أخيه من ماله شيئًا، فلم يورث قاتل بعد! وهو مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القاتل لا يرث" (رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني).
بعد هذا العرض فإن البداية التي تتفق مع منطقنا هنا هي:
"وإذْ قُتلت نفسٌ فسُئل موسى عمن قتلها فأمرهم أن يذبحوا بقرة ليعرفوا القاتل.."!
فالقتل هو الذي سبق، وذبْح البقرة إنما كان لكشف الحقيقة..
لذلك نجد أن هناك من المفسرين من أكد أنها ليست قصة واحدة، وإنما قصتان مختلفتان، ثم اتحدتا بعد ذلك في قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ (البقرة: من الآية 73)، ويرجع ذلك من وجهة نظرهم إلى أهمية ما في القصة الأولى من الدروس والعبر حول أسلوب ومنهجية بني إسرائيل في التعامل والتفاوض، والحياة عمومًا، ثم القصة الثانية وما فيها من عبر عابرة.
ولكن هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ وهل انكشف المستور أم لا نزال في البداية؟ بداية محاولة الفهم والتفهم والعلم والتعلم.. نعم من هنا نبدأ..
2- البداية العجيبة:
أنني أحترم كل الاحترام من برروا تلك البداية- من المفسرين- بأنها قصتان اتحدتا في النهاية، ولكنني أحاول البحث عن مزيد من الفهم لمعرفة الحِكم والعبر، والدروس العامة المستفادة.
وبصفة عامة وقبل الدخول في صلب الموضوع فإنني أقول بأن المشكلة الأساسية ونقطة الارتكاز في هذه القصة أو القصتين لم تكن موضوع القتل الذي كان قد استشرى في بني إسرائيل حينئذٍ، وإنما كان موضوعها البقرة، وبالأخص صاحب البقرة ومن تركهم من بعده، وإن أصل الموضوع وتكامله يتضح إذا أرجعنا أصل الأمر إلى ما أراده القرآن، وليس إلى ما رآه بنو إسرائيل ورواتهم، ومن تلاهم من المفسرين، وحتى المعاصرين منهم..
فقد اعتبر القرآن أن أصل الموضوع هو البقرة، وأن باقي الأحداث إنما هي مصنوعة في إطارها، وتقوم بدور أساسي ومكمل في القصة الأصلية، قصة البقرة وصاحبها الذي تركها لأولاده الصغار من بعده واستودعها الله لهم.. وكأن كل ذلك لم يتم إلا تكريمًا لهذا الرجل المؤمن التقي، وأولاده من بعده!!
وهنا تظهر قمة الترابط بين الأحداث التي قد لا تبدو أمام الكثيرين منا غير مترابطة في الحياة؛ إذ الحياة مجموعة من الأحداث والقصص المترابطة التي خلقها الله بقدر وعناية فائقة، ولكن لا ينكشف لنا من أسرارها إلا أقل القليل، لكن كل شيء عنده بقدر وبمقدار كما قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: من الآية 49).
فالترتيب القرآني إذن يلفت نظرنا إلى جوهر الأمر، حيث جعل الأصل هو البقرة، والمكمل له هم القتلة والقتيل، وحسْم أمر النزاع والشقاق.. فجعل الله تعالى أهل التقوى والصلاح هم أصل الموضوع، ومن عاداهم من أهل الحقد والحسد والعدوان والقتل.. هم خدم تابعين لا يحققون مرادهم الدنيء الخبيث بمكرهم وكيدهم، وإنما في الحقيقة يعملون بهذا الكيد والمكر لخدمة ما أراده الله من خير لأوليائه من أهل التقوى وأهل المغفرة، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)﴾ (الطارق).
ولعل هذا يبرز الأمر في إطاره الصحيح المتكامل كما رسمه القرآن الكريم.ومن هذا الأساس يمكن أن نبدأ في تلخيص ما يفتح الله به من دروس وعبر، والتي يمكن أن تنقسم إلى:
* دروس في البقرة وصاحبها وأبطالها.
* دروس في بني إسرائيل ومنهجيتهم في التعامل.
* دروس في المتعجلين من أهل الكيد.
* وغيرها من الدروس العامة.
الدرس الأول: ما بين الجوهر والمظهر:
لا شك أن لكل أمر من الأمور مظهرًا وجوهرًا، والعاقل الحكيم هو من يركِّز على الجوهر قبل المظهر، لكن هناك من الناس من يشغله المظهر عن الجوهر، وفي مجال الإدارة كثيرًا ما نرى بعض المديرين يقضي كل وقته بالانشغال بالتفاصيل التافهة، وينغمس في دائرة الحياة اليومية الروتينية المتكررة، ويترك ما هو مهم وضروري، ويحسب أنه يحسن عملاً.
فإن كان في مستوى الإدارة الإستراتيجية العليا فإن المصيبة تكون أكبر؛ حيث كثيرًا ما نرى أن أغلب هؤلاء الذين يشغلون مناصب إدارية عليا لا يمارسون في الحقيقة إلا مهام من مستويات الإدارة الدنيا التي كانوا يشغلونها فيما سبق، وعادة ما تكون من النوع الروتيني المتكرر.
وكثيرًا ما رأيت في مواقع عدة أشخاصًا قد تمَّ ترقيتهم من وظيفة دنيا إلى وظيفة عليا، لكنهم ظلوا منغمسين من رأسهم إلى أخمص قدمهم في شكليات ومظاهر الوظيفة الدنيا التي كانوا يشغلونها من قبل..
أتدرون لماذا؟!
لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يشغل فردان وظيفة واحدة..!! ومن ثم ينشأ الصراع أو الاستسلام، وفي كلا الحالتين سوف تكون الغلبة بالطبع للمدير الأعلى الذي لا يزال يشغل نفسه بمهام الوظيفة الأدنى ومظاهرها، وبالطبع سيظل يقنع نفسه بأنه قد استحال العثور على شخص آخر يمكن أن يحل محله بنفس الكفاءة..
وإنني أوافق هؤلاء تمامًا في أنه لا يمكن العثور على من سوف يصلح من وجهة نظرهم لشغل الوظيفة التي كانوا يشغلونها!!
والحل الأسهل والأفضل من وجهة نظري لمثل هذه الحالة، وطبقًا للتشخيص السليم للمشكلة المتكررة في أماكن كثيرة، هو أن يظل هؤلاء في وظيفتهم التي يعشقونها، وليكون البحث ليس عن وظيفة مدير أدنى، وإنما ينصبّ البحث عن وظيفة المدير الأعلى!!
لأن صاحبنا لا يعرف في الوظيفة الأعلى إلا مظهرها، ولا يتمسك إلا بشكليتها وروتينيتها، بل ويتمسك بكل تلابيب الوظيفة الدنيا، ومن ثم يغيب الاهتمام بجوهر الوظيفة الإستراتيجية الأعلى، الذي يعد بمثابة العقل الإستراتيجي للمنظمة.
ولعل هذه المنهجية الغريبة هي التي سيطرت على عقلية ونفسية أولئك الذين سألوا موسى عليه السلام؛ فبدلاً من أن يعمدوا إلى جوهر الطلب، وهو ذبح أي بقرة، أخذوا يتمحَّكون في أسئلة شكلية تفصيلية، بل قد لا يكون لها معنى أصلاً، وهو ما يشير إلى تخبطهم وتفاهتهم، ومدى جدالهم للحق، وبُعدهم عن امتثال أوامر الله وأوامر رسوله الذي أُرسل إليهم..
فما معنى أن يطلب منهم نبيهم طلبًا هم المستفيدون منه في الأصل، ثم يكون ردهم عليه بسؤال مثله، وليس باستجابة وفعل وامتثال؟!
ما معنى أن يطلب منهم نبيهم أن يذبحوا بقرة، ثم يكون ردهم الأول: أتتخذنا هزوا؟!
وليس من العجب أن تأتي أسئلتهم بعد ذلك بلهاء لا معنى لها، إلا أن تكون إضاعة للوقت، حيث سألوا وقالوا: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾(البقرة: من الآية 68).
والحقيقة أن الإجابة الطبيعية لهذا السؤال هي: ﴿إنَّهَا بَقَرَةٌ.. ﴾!!
والبديهي كذلك أن السؤال هنا ما كان ينبغي أن يكون عن الماهية؛ حيث سبق وأن حدد لهم نبيهم بشكل قاطع وواضح المطلوب ذبحه، وكان "بقرة"!
إلا أنهم أخذوا يستدركون ويسألون عن مزيد من التفاصيل والشكليات مثل: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا﴾ (البقرة: من الآية 69)، ثم عادوا مرةً ثانية وسألوا عن ماهيتها فقالوا: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ (البقرة: من الآية 70).
وفي كل مرة تكون الإجابة ببيان بعض صفاتها التي يتم السؤال عنها، مثل سنها ولونها وحالها.. وبالطبع هم لا يدرون نتيجة التمسك والتمحك بهذه التفاصيل، هم يعتقدون أن ذلك سوف يسهل الأمر عليهم، وفي الحقيقة فإنه قد صعَّب الأمر عليهم كثيرًا.. لماذا؟
لأنه كلما دخلنا في دهاليز التفاصيل الدقيقة ضاقت البدائل التي يمكن الاختيار من بينها، وكلما ضاقت البدائل في مثل هذه الحالة، فسوف يكون المطلوب نادرًا!!
فإن أسئلتهم الكثيرة عن صفات البقرة التي ستُذبح أدَّت بهم إلى أن تتقلص الاختيارات وتتمحور حول بقرة واحدة ليس لها بديل، بينما كان يجزئهم ويكفيهم أن يعمدوا إلى أية بقرة منذ الأمر الأول فيذبحوها ويحققوا الهدف.
وهكذا نجد عاقبة مَن يترك الجوهر ويغرق في تفاصيل شكلية مظهرية لا قيمةَ لها، فإنها لن تؤدي به إلا إلى المزيد من تصعيب الأمور وتعقيدها، فيصبح السهل صعبًا، وربما يتحول إلى مستحيل!
الدرس الثاني: في التفاوض:
لعل ما سبق أن أشرنا إليه في الدرس السابق يؤكد درسًا آخر في تفهُّم النفسية اليهودية عند التفاوض، وتتلخص في أنهم يغرقون الطرف الآخر في غابة من التفاصيل والشكليات، دون الدخول في جوهر الأمر.
ولعل هذا ما نراه واضحًا مثلاً في تعاملهم في القضية الفلسطينية حتى الآن؛ فهم لا يريدون أن يتكلموا في جوهر المشكلة وحلولها مثل: حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، وإعادة كل شبر محتل إلى أصحابه، ومستقبل القدس، وتعويض المتضررين، والإفراج عن الأسرى..وتراهم يتمسكون بأمور شكلية عجيبة من قبيل: خارطة الطريق، المعابر، الخدمات اليومية، الشرطة والسلاح، المقاومة، الاعتراف بحقهم في الوجود.. إلخ.
ومن ثمَّ فعلى المفاوض العربي أن يُحبط هذه الإستراتيجية ولا يدخل في متاهتهم، وأن يكون تركيزه محددًا وواضحًا وقاطعًا على الكليات، ولعل هذا ما فطن إليه الفلسطينيون أخيرًا من خلال مواجهتهم بمشروع حماس بعد اختيار الشعب الفلسطيني لها؛ لأنها ركزت على الجوهر الإستراتيجي، ورفضت التعامل في تلك التفاصيل والشكليات، وهذا ما يزعج الطرف الآخر ومن يدعمه!
الدرس الثالث: في الشفافية:
إن من أصعب الأمور والحالات في أي مجتمع أو منظمة هي تلك الحالة التي تغيب فيها الشفافية والوضوح؛ حيث يكون البديل في هذه الحالة هو الغموض، ومن ثم التحفظ، والاضطراب والظلم، والقرارات الخاطئة عمومًا.
وللأسف الشديد فإن مثل تلك الحالات التي تغيب فيها الشفافية هي السائدة الآن في عالمنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية، بل إن آخر تقارير الشفافية التي تصدر من منظمات عالمية متخصصة أظهر أن أكثر الدول افتقارًا للشفافية في العالم الآن هي الدول العربية، وكثير من الدول الإسلامية، وهذا حال مؤسف ليس فقط لأنه على مستوى الدول، ولكنه أيضًا على مستوى كثير من المنظمات التي تغيب فيها تمامًا الشفافية والوضوح وشيوع المعلومات والحقائق، رغم أن ذلك أصبح من أبسط أبجديات الإدارة الصالحة الحديثة، وكان كذلك منذ بدأ الإسلام..وفي المجتمع الذي تدور فيه أحداث هذه القصة نلاحظ غياب الشفافية..فهناك حالة قتل..وهناك اتهامات ظالمة..وهناك متَّهمون بُرآء..وهناك قاتل يرتدي ثوب البراءة!! بل ويبكي بحرارة ومرارة ظاهرة على المقتول، ويتهم غيره بقتله..!!!
فأين الحقيقة..؟!
إن البقرة هنا هي رمز كامل للشفافية والوضوح الذي يجب أن يتوافر في أي مجتمع أو منظمة؛ ليتحقق فيها العدل ويزول الظلم، ويسود الحق والوضوح، ويغيب التخبط والشك والظنون.. فكيف لإدارة حديثة تعتبر نفسها صالحة وهي تعمل في بيئة مظلمة حالكة الظلمة، يعتبر كل ما فيها أسرار ودهاليز غامضة؟!
لا شك أننا لا نحتاج بالضرورة إلى بقرة لنذبحها ونضرب بقطعة منها الحقيقة الغائبة والميتة لتدب فيها الحياة، وإنما نحن في حاجةٍ إلى مديرين ناضجين فاهمين أصحاب رسالة، يثقون في أنفسهم وفيمن يعمل معهم، يكون ظاهرهم كباطنهم، وسريرتهم كعلانيتهم، ينشرون المعرفة والحقائق لتكون واضحةً تمامًا في ذهن الجميع، إنها الإدارة المعرفية المحترمة التي نريدها.
الدرس الرابع: القيمة الحقيقية:
إن القيمة الحقيقية للأشياء ليست في ظاهر ما نراه، وإنما فيما أودعها الله سبحانه وتعالى بداخلها.
ولعل من الأمور التي أصبحت معلومةً بالضرورة أنه كلما زاد ندرة شيء ما زادت قيمته؛ فالذهب أعلى قيمةً من الرمل ليس لأنه أكثر أهمية، ولكن لكونه أكثر ندرةً، وهكذا.
لذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى جعل الأشياء الأكثر أهميةً لحياة الإنسان وبقائه أكثر وفرةً وأقل ندرة، كالماء والهواء، بل إن الهواء الذي لا يمكن للإنسان أن يستغنى عنه لحظة جعله الله أكثر وفرةً حتى من الماء؛ لذلك لا نجد للهواء قيمة مالية أو مادية معروفة، وهو مبذول للجميع بنفس الإتاحة والفرصة..
وبالنسبة لبني إسرائيل هنا، فإنهم تسببوا دون قصد في جعل الشيء المطلوب أكثر ندرةً بعد أن كان أكثر وفرة، فهم ظنوا أنهم كلما أغرقوا موسى عليه السلام في تفاصيل البقرة المطلوبة، سهَّل ذلك عليهم التعرف عليها، بينما العكس هو الصحيح؛ حيث إن ذلك أدَّى إلى عدم انطباق هذه الصفات إلا على بقرة واحدة، بعد أن كان من الممكن أن تؤدي أي بقرة نفس الغرض لو ذبحوها منذ الأمر الأول.. لكنهم لم يفعلوا.
وهنا نجد أن هناك الكثير من الناس الذين يتفننون في تضييق الواسع وتشديد السهل، ومثل هؤلاء تجدهم في مجال الإدارة بشكل خاص، فتجد من يسمون بالشكليين أو البيروقراطيين الحرفيين، الذين يتشددون في الحرفيات والإجراءات على حساب الجوهر والأهداف، فيشقُّوا على أنفسهم وعلى مَن يتعامل معهم دون سبب منطقي، بينما نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ييسر ولا يعسر، ولم يُخيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
إذن فإن هذه البقرة قد أصبحت مختلفةً تمامًا عن سائر ما هو موجود من البقر، ليس فقط في مواصفاتها الشكلية التي أصبحت لا تنطبق إلا على بقرة واحدة، وإنما أيضًا في المنفعة أو القيمة المترتبة عليها لهؤلاء، فهي وحدها التي سوف تمكنهم من معرفة الحقيقة وكشفها؛ ولذلك كان الوضع الطبيعي أن ترتفع قيمة هذه البقرة، وأصبح الطرف الوحيد القادر على تحديد قيمتها هم أصحابها، الذين يحق لهم أن يطلبوا ما يشاءون، ولا بد من تلبية مطالبهم مهما كان مغاليًا فيها!
وهذا يعطينا درسًا مهمًا في قيمة الأشياء من السلع والمنتجات أو حتى الخدمات، فالعبرة ليست بمجرد وفرتها، وإنما بما تتمتع به من ميزة تنافسية تجعل المنفعة المترتبة عليها لمَن يستخدمها أعلى من غيرها، وبشكلٍ مستمر.
فهذه البقرة أصبحت مؤهلةً إذن لاستحقاق أعلى قيمة على أي بقرة على مرِّ التاريخ البشري على الإطلاق، ولكن لماذا هذه البقرة بالذات؟ ولماذا لهؤلاء الذين يملكونها بالذات؟ وهل فعلوا شيئًا أو بذلوا جهدًا ليحققوا مثل هذه القيمة التي لم يحلم بها أحد، ولم يحلم بها أصحابها أنفسهم؟!
الدرس الخامس: ابحث عن الكنز الذي بداخلك:لقد رأينا كيف آلت الأمور بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن الذهب ويعيشون للذهب ويلهثون وراءه، ليصبح هو وحده همهم وهدفهم وعليه مدار حياتهم، ولا يترددون في محاولة تحقيق ذلك بكل وسيلة، مشروعة كانت أو غير مشروعة.