الخميس، أكتوبر 14، 2010

أصغر جاسوس مصري عمره 12 عاما

طفل ضعيف البنية بشعر كثيف أسود وعينين توحيان بالغباء والبلادة ... إن هذا المظهر كان خادعا متناقضا مع ما يتمتع به هذا الغلام من ذكاء فطري وقدرة هائلة علي الملاحظة والتصنت . التقطه في أرض سيناء المحتلة بعد عام 1967 أحد تجار المخدرات الذي لم يكن في حقيقة الأمر سوي أحد ضباط المخابرات المصرية .
كان الضابط محمد علي كيلاني المتنكر في( زى أعرابي يتاجر في المخدرات) علي دراية كبيرة بالدروب والمسالك الصحراوية في سيناء وهذا ما أهله كي يتنكر في (مهنة تاجر مخدرات خطير) وكان ذلك مبررا قويا للنقود التي يصرفها بغزارة .
كان علي المخابرات المصرية بعد هزيمة يونيو 1967 أن تفكر مرات عديدة قبل أن تدخل في حرب مع المخابرات الإسرائيلية وقد أصبحت معظم أوراقها مكشوفة خاصة فيما يتعلق بالجانب العسكري حيث كانت لدي المخابرات الإسرائيلية معلومات شاملة عن وحدات الجيش المصري وتسليحاتها
في هذا الوقت كانت شبكات التجسس المصرية داخل إسرائيل تواصل عملها بنجاح علي الرغم من هزيمة يونيو 1967 إلا أن المخابرات المصرية كانت في حاجة إلي رصد حركة الجيش الإسرائيلي علي أرض سيناء ومن هنا كان الرصد اليومي المباشر للتحركات العسكرية الإسرائيلية داخل سيناء وعلي الضفة الشرقية لقناة السويس يحتاج إلي تكتيك وتخطيط خاص
من هنا كان أنبغ العملاء المصريين بل وأفضل جامع للمعلومات في التاريخ طفل لم يتجاوز عمره الثانية عشر
كان الغلام صالح يعمل في رعي الغنم وتربية الدجاج بجوار كوخ صغير يقطنه والده الشيخ عطية وأمه مبروكة علم الدين بالقرب من بئر ضحلة
واستطاع الضابط كيلاني المتنكر إقامة أواصر الصداقة مع والدي الغلام صالح عندما عرض استضافته لديهم لأنه في انتظار شحنة من تجارته التي تدر عليه ربحا كبيرا وأمام إغراء النقود وافق الشيخ علي استضافة الضابط المتنكر في زى تاجر مخدرات إلي أن ينتهي من مهمته
كان كل هدف الضابط كيلاني أن ينفرد بالغلام صالح ليباشر معه عمله بتجنيده ومن ثم تلقينه دروسا في الجاسوسية .وبعد أن اطمأن الضابط إلي أن الغلام قد استوعب كل ما طلب منه أعلن أن قافلته قد تتأخر ولابد له من الرحيل واتفق مع العميل الصغير علي اللقاء بعيدا عند صخرة بالقرب من الشاطئ.
وكان كل ما يشغل بال الضابط إيجاد وسيلة لهذا الغلام كي يتجول بين معسكرات الجيش الإسرائيلي في عمق سيناء
وأخيرا تطوعت دجاجة من دجاجات الغلام صالح التي يربيها في إرشاد الضابط كيلاني إلي الطريقة المناسبة عندما أطلقت صيحة مفاجئة
واهتدي ضابط المخابرات إلي ضالته التي أرهقت تفكيره وقرر أن يقوم الغلام صالح ببيع البيض البلدي الطازج إلي جنود الاحتلال الإسرائيلي ولكن من أين يأتي بالبيض.
قام الضابط كيلاني بتزويد الغلام صالح بعدد من الدجاج البياض حيث أن الجنود الإسرائيليين كانوا شرهين في استهلاك البيض ولم يكن صالح جشعا فقد كان يقبل نظير ثلاث بيضات علبة من اللحم المحفوظ أو من المربي
وداومت المخابرات المصرية علي تزويد الغلام صالح بالبيض الطازج وتلقي ما لديه من معلومات سبق تكليفه بها وكان الغلام يحصل علي المعلومات من خلال أحاديثه البريئة مع الإسرائيليين وكان لا يحمل معه في المرة الواحدة سوي ست بيضات يبيعها في الموقع ثم يعود غلي الكوخ لأخذ ست بيضات ويتجه إلي موقع جديد وعن طريق درب أخر وبدا الغلام صالح في وجه هؤلاء الجنود صديقا مهذبا وبائسا ولكنه مرح وكانوا يتنادون عليه بمجرد أن يظهر في الأفق وكان الغلام سعيدا بهذه الصداقة التي أتاحت له التجول داخل مواقع الجيش الإسرائيلي.
قدم الغلام صالح للمخابرات المصرية خدمات لا يمكن بأي حال من الأحوال مكافأته عليها ومنها أنه استطاع أن يتعرف علي الثغرات في حقول الألغام المحيطة بأربع مواقع مهمة للمدافع الثقيلة إضافة إلي كمولدات الكهرباء ووضع خزانات النابالم الحارق مع بيان لغرف الضباط المشرفين علي تشغيله وأماكن نوم الجنود وأعداد الحراسة الليلية أما نطاق الأسلاك الشائكة فكان يستطيع أن يرسمها بمهارة علي الرغم من انه لا يستطيع الرسم بل لا يقرا أو يكتب فسبحان من علمه ذلك في هذا الوقت بالتحديد
أما خدماته الكبرى التي لا تنساها له مصر فقد كان العامل الأساسي في مساعدة الفدائيين المتسللين خلف صفوف الجيش الإسرائيلي.
وهؤلاء الفدائيين كانت تصل مدة إقامتهم خلف صفوف العدو إلي ستة شهور متخفين فكان يحضر لهم الغداء الذي يسد الرمق وكان يرفع ما تخلف وراءهم من بقايا طعام خشية أن يقتفي اليهود أثرهم واستطاع أن يدخل قلوبهم وكان الحديث الأول للرئيس عبد الناصر مع أي منهم عند لقائه بعد عودته عن ما قدمه الطفل صالح من خدمات وما قام به من أعمال جريئة ساعدتهم علي الاستمرار ستة أشهر ونقلوا جميعا إلي الرئيس عبد الناصر رغبة الغلام صالح للقائه في القاهرة وكان عبد الناصر يقول سنذهب نحن له إن شاء الله .
واستطاع الطفل صالح وفق توجيهات الضابط كيلاني ومع مرور الوقت أن يميز بين أنواع الأسلحة وكان متفوقا في تحديد أنواع الذخيرة خصوصا مدافع الهاون.
وكان أبز أصدقاء صالح ضابط يهودي من أصل يمني يدعي جعفر درويش من مواليد جيحانة باليمن وكان قائدا للنقطة رقم 158 المسماة بموقع الجباسات وقد ربطت بينهما اللغة العربية المشتركة وكان هذا الضابط سخيا معه للغاية ولم تكن المعاملة الحسنة في انتظار صالح دائما فكثيرا ما تعرض للشتائم والمضايقات أو الضرب من بعض الجنود أو الضباط اليهود وكان الضابط كيلاني يشجعه دائما ويخفف من ألامه ويحث فيه روح البطولة.
ولم يكن يدري الغلام أنه بعد أيام قلائل سوف ينتزع من سيناء بالكامل بعد قيامه بأخر عملية أعدتها المخابرات المصرية بدقة متناهية ففي سبتمبر من عام 1973 وقبل الحرب بشهر واحد فقط زود الضابط كيلاني صالح ببعض القطع المعدنية الصغيرة ودربه علي كيفية وضعها في غرف القادة اليهود في المواقع التي يتردد عليها وطريقة لصقها من الوجه الممغنط في القوائم الحديدية للأسرة والدواليب المعدنية.
كانت هذه المهمة مليئة بالمخاطر ولكن الغلام الشجاع استطاع باقتدار القيام بها واستطاعت المخابرات المصرية الاستماع من خلال هذه القطع المعدنية الصغيرة والتي لم تكن إلا أجهزة تصنت وإرسال صغيرة إلي كل ما يدور داخل حجرات القادة من أحاديث وتخطيطات عسكرية كان لها أثرها أثناء الاشتباك الفعلي خلال الحرب بل وتمكن المصريون من خلال هذه الميكروفونات الصغيرة من توجيه إنذارات بالاستسلام إلي القادة اليهود .
وكانت المخابرات المصرية قد أصدرت أوامرها بنقل الغلام صالح إلي القاهرة مع والديه ولم يكن هذا عملا سهلا في مثل هذه الظروف وخاصة قبل الحرب بعشرين يوما فقط وعبر القناة نقل صالح ووالديه ومنها إلي قرية (ميت أبو الكوم )حيث بيت الرئيس السادات الذي كان في استقبال الغلام وعائلته ولاقي الغلام من التكريم الكثير.
وبد أيام قليلة وتحديدا في الساعة الثانية من ظهر يوم السبت الموافق السادس من أكتوبر 1973 العاشر من رمضان 1393 هجرية اندفع الآلاف من جنود مصر والأمة العربية يجتاحون قناة السويس أكبر مانع مائي في تاريخ الحروب وهم يهتفون الله أكبر الله أكبر وتساقطت حصون خط بارليف العسكري الواحد تلو الأخر في ست ساعات فقط وهنا أدرك الغلام الصغير مدي أهمية ما قام به من أعمال خارقة ساهمت في انتصار الجيش المصري وسأل صديقه المرافق من المخابرات المصرية عن مصير الضابط الإسرائيلي جعفر درويش فأخبروه أنه وقع في أيدي القوات المصرية أسيرا فطلب الغلام مقابلته وتقديم الطعام له
واستجابت المخابرات المصرية إلي الجزء الأخير من مطلبه وأرسلوا له مع مندوب خاص طعاما وملابس ورجوا من البطل الصغير أن يؤجل رؤية صديقه الأسير الإسرائيلي اليمني فالمعركة لم تنته بعد وعوضوه عن ذلك بهدية كبيرة عندما اصطحبوه إلي داخل مبني المخابرات المصرية لمقابلة صديقه ضابط المخابرات المصري المتنكر محمد كيلاني
ولم تطل دهشة الغلام الصغير وهو يري الأعرابي المهرب مرتديا زيا مدنيا وما كان من الضابط كيلاني إلا ان أسرع إليه واحتضنه بحب ولهفة ثم وقف الرائد كيلاني وقفة عسكرية وأدي للغلام التحية العسكرية قائلا : مرحبا بك في مكتب الرائد محمد كيلاني الذي لا ينسي لك ما قدمته من خدمات عظيمة لبلدك مصر
وتم تكليف الضابط كيلاني برعاية البطل الصغير فصداقتهم قديمة حافلة بأغلى الذكريات وبدأ معه رحلة التعليم حتى اجتاز الثانوية العامة ثم الكلية الفنية العسكرية ودارت السنون وإذا بالبطل الصغير يتولي نفس المنصب الذي كان يتولاه صديقه وأستاذه الضابط محمد كيلاني بل ويجلس في نفس الغرفة التي كان يجلس فيها وقت زمن الحرب من أكثر من ثلاثين عاما