قديما كان النخاس (تاجر العبيد) يجلب بضاعته بأحد طريقتين الأولي هي الخطف ، فهو يترصد لأي طفل صغير قوي وجميل ويخطفه من موطنه الأصلي البعيد ويفر به ، أو الشراء فقد كان بعض الأهالي يبيعون صغارهم هربا من شدة الفقر وخطورة الأوضاع خاصة في زمن الحرب وطمعا في مستقبل أفضل لهم.
تأتي بعد ذلك مرحلة التربية والإعداد ، كان النخاس لا يألو جهدا في العناية بالصغار من الجنسين ، يهتم بطعامهم وصحتهم وتعليمهم وتأديبهم وتنمية مهاراتهم وتلقينهم أصول الدين وتعاليمه وتهذيبهم بأرقي الآداب ، ثم يبيعهم في مرحلة الصبا وبدايات الشباب.
كان ولاء المملوك لأستاذه الذي اشتراه وولاء الجارية لسيدها ما دامت الأمور تجري برخاء ، ولكن رغم كل ما تعلمه وتدرب عليه المملوك إلا أنه كان دائم الخيانة لسيده إذا ألمت به محنة أو داهمته شدة ونفس الحال بالنسبة للجارية التي قد تشي بأسرار سيدها الذي أكرمها لعدوه من أجل مصلحتها ، احتار الناس في تفسير ذلك ولم يجدوا إلا تفسيرا واحدا (قلة الأصل وانعدام الجذور).
كان المماليك يتلقون أرقي وأرفع ألوان التعليم والتربية المتاحة ولكن يبقي داخلهم خواء ، فمن يعلمه أستاذه أو معلمه ولكن ليس له أب أو عائلة ينتسب إليها وليست له أم يجري الحنان في عينيها ، ليست له ذكريات طفولة يحن إليها ، ولا وطن يفخر بالانتماء له أبا عن جد ، ولا عشيرة يعرف أن دماؤه تحمل خصائصها من جدود الجدود ، كان انتماؤه لنفسه ومصلحته فقط وبالتالي من الطبيعي جدا أن يدور حيث دارت المصلحة ويتغير بتغيرها.
الأصل والجذور تعني الثبات قويا في وجه الريح والاحتماء بقبيلتك وأهلك وعزوتك ، أما انعدامها فمعناه عودا واحدا مخلوعا من جذوره في مهب الريح ، كانت الجارية وردة جميلة تزين المكان ولكن عمرها قصير داخل المزهرية وتختلف تماما عن تلك الزهور البلدية القوية التي تتمايل علي سيقانها في الحديقة وقد بللها الندي وزقزق العصفور فوقها وقبلتها الفراشات.
هل نتذكر ذلك ونحن نربي أبناءنا ؟
أشعر أننا نميل تدريجيا لتربيتهم بطريقة المماليك ، لا اهتمام بترابط عائلي ولا معرفة بالجذور ولا زيارات للأهل والأعمام والأخوال ، ولا مشاركة في مناشط عامة تعود بنفعها علي المحتاجين من أبناء الحي ولا اعتزاز بالوطن.
كل ما سبق صار ثانويا يعده الكثيرون مضيعة للوقت والجهد وكلاما قديما ألغاه منطق المصلحة اليوم ، المهم المذاكرة والمدرسة والتدريب في النادي والأكل الجيد الذي نقدمه لهم ونشعر أننا بذلنا أكثر مما في وسعنا من أجل تربيتهم ، حتى لو نشأوا معزولين مقطوعي الجذور ؟ حتى لو أصبح الصبي لا يعرف شكل عمه أو أسماء أولاده ؟ وحتى لو كانت البنت لا تعرف من أهلها إلا خالتها وجدتها لأمها ؟
تأتي دعوة لحضور زفاف أحد الأقارب في البلد يهتف الصغار فرحا وأملا في خروجهم من قبضة أمهم الحديدية والتي تربطهم في دائرة مكررة (المدرسة ـ الدرس ـ المذاكرة ـ النادي يوم الجمعة) تلقيها الأم جانبا ليس لدينا وقت لتلك الدعوات ، سفر وبهدلة وعطلة وتكاليف ولا نفع من ورائها ، ربما يذهب والدكم إن كان لديه وقت ويعود فورا أو نكتفي بتليفون أو رسالة قصيرة علي المحمول ، يبكي الصغار
تصرخ الأم: لا أريد خيبة لديكم دراسة ويجب أن تعرفوا مصلحتكم وتعملوا من أجلها وتجعلوها فوق كل اعتبار.
إن مصلحتهم الحقيقية هي أن يكونوا بشرا أسوياء يمارسون الانتماء ويشعرون بالأمان في وسط عائلة مترابطة ، مصلحتهم في العزوة والأسرة الممتدة ، مصلحتهم في معرفة العديد من النماذج المعادلة للأب (الأعمام والأخوال ومن في منزلتهم) والعديد من النماذج المساوية للأم (الخالات والعمات) ليعرفوا أن للحياة وجوها عديدة ويكتسبوا مهارات اجتماعية سوف تفيدهم في مجال العمل والحياة ربما أكثر من الشهادة الدراسية التي صارت لا تعني الكثير.
مصلحتهم في عدم التمركز حول الذات وفي معرفة أن قيمتك فيما تمنحه لمن حولك وللمجتمع كله ، أما إذا كنت سجين نفسك فلن يشعر بك أحد ، مصلحتهم في تقوية جذورهم وثباتها وتغذية قلوبهم حبا وترابطا وتعاطفا ورجولة ، نحن نعيش في بيوتنا كأسرة حانية متماسكة تمنح حبا غير مشروط وليس كمعسكر تدريب وإذا نجحنا في تربية ابنا بارا سنكون أول من نحصد زرعنا ، أما تربية المماليك فحتى لو أفلحت في تحقيق نجاح ما فسوف يعاني من يخالطها دائما من (قلة الأصل).