يعدّ هنري أ.كيسنجر، أحد أهم المفكرين السياسيين الأمريكيين، الذين مزجوا النظرية بالتطبيق، كما أنه أحد الرموز الذي استحق بكل جدارة أن يوصف بأنه سيد الدبلوماسية الأمريكية، دون أن ينازعه أحد على ذلك، كان قد بلغ حداً من القوة والنفوذ مما يصعب على المتابع أن يجد له مثيلاً خلال قرنين من التاريخ الأمريكي، واستحق أن يكون إلى جانب أبرز الشخصيات في التاريخ والدبلوماسية الأوروبية، مثل ريشيليو ومترنيخ وبسمارك.
تتميز حياة كيسنجر عبر مراحلها المختلفة بلحظات فريدة في توجيه حياته الفكرية والعملية، ومع ذلك إن العنصر الهام والحاسم في تشكيل وتوجيه حياته كان قدراته الذهنية والفكرية الخاصة، والتي استطاع من خلالهما الوصول إلى ما وصل إليه. وشخصية كيسنجر إلى هذا، متعددة الزوايا، كما حياته متعددة المراحل، فهو رجل مثقف أمضى الجزء الأكبر في حياته في الجامعة، وأعطى معظم شبابه للدراسة والتحصيل وراح يتأمل ويكتب في التاريخ والسياسة الدولية، وينتقد الذين يمارسون سياسة الولايات المتحدة، ويقدم البدائل لما يراه صواباً. وهو أستاذ جامعي لم يكتف بأن يعيش حياته كلها في إطار الجامعة وحياتها وقواعدها، ولكنه مدّ اهتماماته ونشاطه إلى خارج حدودها، معتقداً أن ثمة خيرات وحياة أغنى، وفرصاً أوسع لممارسة وتحقيق قدرات الإنسان التي تقع خارجها، ومن الخطأ تجاهلها، وهو أيضاً رجل أوروبي لديه حساسية فائقة تجاه التاريخ والتقاليد الأوروبية. ورغم كل ما أحاط بكيسنجر من اهتمام وأضواء، وبشكل خاص منذ دخوله للبيت الأبيض، إلا أن القليلين هم الذين اهتموا بالجانب الفكري والثقافي لهنري كيسنجر، فواقعاً أنه شقّ طريقه في الحياة وإلى سلم المناصب والسلطة من خلال ما يتميز به من ذكاء وسحر الكلمة، وهو أمر تبدو أهميته أعظم في مجتمع مثل الولايات المتحدة، لا يرتقي فيه الآخرون إلا بالتطاحن والمؤامرات فبعد حقبتين من انتهائه من رسالة الدكتوراه التي درس فيها دبلوماسية القرن التاسع عشر وسياسته، أصبح كيسنجر وزيراً لخارجية أمريكا، والذين درسوا بعمق رسالته، ثم تابعوا أعماله السياسية والدبلوماسية لا بد أنهم لاحظوا أن دبلوماسيته، تكمن في أعماق تاريخه الأكاديمي، وتمثل التحاماً ملحوظاً بين شخصيته وتكوينه الأكاديمي، وبين شخصيته كسياسي ورجل دولة. ومن هنا فإنه يختلف عن معظم الساسة الأمريكيين، وعن الخمسة والأربعين وزيراً للخارجية الأمريكية الذين سبقوه في أن سياسته إنما تتأسس على نظرية محددة، وليست على مجرد الاستجابة اليومية للأحداث وهذه النظرية ترتكز على ثلاثة دعائم وهي: أولاً: أنه لكي يكون ثمة سلام، فلا بد أن تكون هناك تسوية قائمة على التفاوض يخرج منها الجميع في حالة توازن، يقوم على أن يحصل كل طرف على قدر من الرضا، وألا يخرج منه أحد وهو ساخط تماماً، وهكذا فإن أحداً لن يعمد إلى الإطاحة بهذه التسوية من خلال حرب أخرى. ثانياً: إن القوة المنتصرة لا يجب أن تعمد إلى الإبادة التامة للمنهزم، وإنما يجب أن تمنحه قدراً ومنفذاً لسلام مشرف. ثالثاً: أفضل ضمان للسلام هو التوازن، وما لا يقل عنه أهمية هو من يقوم بتحقيق عملية التوازن. ومذكراته التي هي بين يدي القارئ ويضيء هذه المناحي التي شكلت استراتيجية الدبلوماسية التي اعتمدها كيسنجر في مناوراته كوزير خارجية للولايات المتحدة الأميركية.
في الجزء الأول من هذه المذكرات يروي هنري كيسنجر أولاً عن بداية مشواره على درب سياسة أميركا الخارجية والتي كانت في عهد نيكسون. وكيسنجر في هذه المرحلة فإن ما مارسه على المستوى الشخصي هو الذي مارسه فيما بعد في السياسة الدولية وعلى المستوى العالمي تاركاً كل الاحتمالات مفتوحة وقائمة.و في الجزء الثاني من هذه المذكرات يرى هنري كيسنجر نفسه مكلفاً بمتابعة يومية لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية، وإبان ولاية ريتشارد نيكسون الرئاسية الثانية والتي كانت فترة من الفوضى لم يسبق لها مثيل في الأنظمة السياسية الأمريكية والغربية طوال تاريخ القرن المنصرم، القرن العشرين، أن رئيساً خرج لتوه متعب الأوصال من معركة انتخابية، ما كان ليظفر بسهولة، على الرغم من كثرة الأعباء الملقاة على عاتقه، وجد نفسه بعد فترة قصيرة من ذلك في خضمّ معركة أخرى لا نظير لها في التاريخ. إن الرئيس نيكسون وجد نفسه مقالاً من جميع مهماته وسلطاته، إثر فضيحة سببتها تصرفاته الخاصة، ولم يستطع بسلوكيته تهدئتها، وفيما كانت سلطة الرئيس الأمريكي تتدمر كلياً، كان هناك انقلاب حقيقي وحوادث غاية في القسوة والصعوبة تجري في الشرق الأوسط. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل ظهرت في الأفق خلافات وأزمات حادة، بين حلفاء الولايات المتحدة، في الوقت الذي كانت فيه قضية فيتنام لا تزال في طور المفاوضات لإنهائها، وأيضاً كان هناك جدل عنيف في داخل الولايات المتحدة حول موضوع العلاقات الأمريكية السوفيتية وقضايا التسلح ومفاوضات سالت الأولى والثانية.
كان لمشكلة واترغيبت نتائج خطيرة أثرت كثيراً على مسيرة الدبلوماسية الأميركية في جميع اتجاهاتها ومناحيها. فبشأن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وكما يبين كيسنجر في كتابه الذي بين أيدينا، خاصة إبان حرب تشرين الأول لعام 1973، فكانت تسير باتجاه إيجاد تخطيط لمشروع صلح وسلام، ويرى كيسنجر أن السياسة الخارجية الأمريكية حققت بعض النجاحات في مشروع الصلح في ذلك الوقت، على الرغم من بعض الإخفاقات التي تطرأ أحياناً.
رابط التحميل