التنوع والتعدد في الآراء والقناعات والميول ، ظاهرة أصيلة وراسخة في حياة الإنسان الفرد والجماعة ، ولايمكن أن نتصور حياة إنسانية بدون هذه الحقيقة .. فإذا تشابه واتحد الناس في اللون ، فهم مختلفون ومتنوعون في القناعات الدينية والثقافية .. وإذا تشابه الناس في القناعات الدينية والثقافية ، فهم متعددون في القوميات والأثنيات .نحن مع احترام كل أشكال التنوع في الوجود الإنساني ، والذي نعتبره جزءاً من الناموس الرباني ، ولكننا في ذات الوقت لا نرى أن ظاهرة تصنيف الأفراد اجتماعياً بفعل انتماءاتهم التاريخية ظاهرة صحية ، بل نعتبرها من الظواهر التي تساهم في تمزيق مجتمعاتنا، وخلق الإحن والبغضاء بين أطرافه وأطيافه
وهكذا تصبح حالة التعدد والتنوع ، حالة طبيعية في الوجود الإنساني .. ولكن هذه الحالة الطبيعية ، قد تتحول إلى عبء على استقرار الناس وأمنهم .حينما لا يتم التعامل مع هذه الحالة الطبيعية بعقلية استيعابية ، تبحث عن سبل لإدارة هذه الحالة ، دون توسل أساليب عنفية وقسرية لاستئصالها .فالتعامل الإنساني الخاطئ مع هذه الحقيقة الإنسانية ، هو الذي يحولها ، من مصدر جمال وحيوية للوجود الإنساني ، إلى فضاء للتناحر والتقاتل .. ومن منبع للخير المعرفي والاجتماعي ، إلى مبرر للنبذ والاستئصال وتغييب المختلف .وبفعل هذه الممارسة الخاطئة والقاتلة في آن ، تجاه هذه الحقيقة الملازمة للوجود الإنساني ، تنشأ ظاهرة تصنيف البشر وتوزيعهم ضمن دوائر انتمائهم التقليدية .. وبفعل هذا التصنيف الاجتماعي ، تبرز الفروقات والتمايزات الحادة بين أبناء المجتمع الواحد ، وتزداد الحواجز النفسية بينهم ، وتتغذى الإحن والأحقاد فيصبح لدينا وتحت سماء الوطن الواحد والمجتمع الواحد ، مجموعة من المجتمعات ، لكل مجتمع عالمه الخاص ورموزه الخاصة وهمومه واهتمامه الخاص ، مع انعزال وقطيعة تامة مع المجتمع الخاص الآخر وهكذا تتحول التعددية الدينية والمذهبية والقومية ، من حالة طبيعية في الوجود الإنساني ، إلى مصدر للشقاء والتباغض والإحن المفتوحة على كل احتمالات الخصومة والنزاع
لهذا فإننا نفرق بين ظاهرة التنوع والتعدد في الوجود الإنساني ، التي نعتبرها ظاهرة صحية وحيوية وذات آفاق ثرية على أكثر من صعيد .. وبين خلق الحواجز بين الناس وتصنيفهم التصنيفات الحادة على أساس انتماءاتهم التاريخية والتقليدية ، والتي نعتبرها ظاهرة مرضية ، ومؤشراً على فشلنا في إدارة تنوعنا بطريقة سلمية وحضارية فنحن مع احترام كل أشكال التنوع في الوجود الإنساني ، والذي نعتبره جزءاً من الناموس الرباني ، ولكننا في ذات الوقت لا نرى أن ظاهرة تصنيف الأفراد اجتماعياً بفعل انتماءاتهم التاريخية ظاهرة صحية ، بل نعتبرها من الظواهر التي تساهم في تمزيق مجتمعاتنا، وخلق الإحن والبغضاء بين أطرافه وأطيافه .. ولن نتمكن من إنجاز هذه المعادلة التي تحترم التنوع الإنساني ومقتضياته ، دون عدم السماح بأن تبرز ظاهرة التصنيف الاجتماعي ، التي توزع الناس وتفصل بينهم شعورياً واجتماعياً ، على أساس انتماءات لا كسب حقيقياً للناس فيها .وعلى المستوى المعرفي من الطبيعي أن يلتزم الإنسان الفرد والجماعة بمنظومة عقدية وفكرية واجتماعية ، لأن الإنسان بطبعه يبحث عن من يشترك معه ويتشابه معه في فكرةٍ أو انتماء أو أي دائرة اجتماعية أو معرفية ، لكي يلتقي معه ، ويحوّل الاشتراك في الدوائر المعرفية والاجتماعية إلى شبكة مصالح تديم العلاقة وتطورها أفقيا وعموديا
لهذا فإننا ننظر من هذه الزاوية المعرفية إلى حقيقة الانتماء الفكري والاجتماعي نظرة طبيعية وصحية .. ولكن هذه الظاهرة الصحية والطبيعية ، قد تتحول إلى ظاهرة سلبية ومرضية .. وحينما يتحول الانتماء إلى مبرر للاعتداء على حقوق الآخرين المادية أو المعنوية ، تتحول هذه الظاهرة إلى ظاهرة سلبية .. وحينما أمارس التعصب بكل صنوفه ، بحيث أرى شرار قومي أفضل من خيار قوم آخرين ، يتحول الانتماء إلى ظاهرة مرضية .لهذا فإننا نعتقد أن التصنيف العقدي أو الفكري أو الاجتماعي في حدوده الطبيعية ظاهرة صحية ، ومستساغة معرفيا واجتماعيا .. ولكن هذه الظاهرة تتحول إلى ظاهرة سلبية حين يتصف أهل هذا الانتماء بالصفات والممارسات التالية :
1- الانغلاق والانكفاء والديماغوجية في النظر إلى الأمور والقضايا ، بحيث لا يتسع عقل الإنسان إلا لمحيطه الخاص ، ويمارس نرجسيته المرضية تجاه قناعات وانتماءات الذات.
2- التعصب الأعمى للانتماء الخاص ونبذ كل المساحات المشتركة التي تجمعه إلى أبناء المجتمع والوطن .
3- ممارسة الاعتداء على الحقوق المادية أو المعنوية للآخرين بدعوى خروجهم عن الانتماء الصحيح أو ما أشبه ذلك .
حين تتوفر هذه القيم والممارسات (الانغلاق المرضي - التعصب الأعمى- الاعتداء على الحقوق) تتحول هذه الظاهرة الإنسانية الطبيعية إلى ظاهرة سلبية ومرضية .وفق هذه الرؤية المعيارية ، نتعامل مع ظاهرة التصنيفات في المجتمع المصرىوهي ظاهرة تتوالد باستمرار ، بحيث ينتقل التصنيف من العنوان الكبير إلى العنوان الصغير ويستمر في سياق دوائر صغيرة عديدة ، بحيث يهدد هذا التصنيف المرضي نسيج المجتمع والوطن .
ولا خيار للعودة بهذه الانتماءات إلى حالتها المعرفية والطبيعية والمقبولة اجتماعيا ، إلا ببناء وعي اجتماعي وطني جديد ، لا يحارب الانتماءات التقليدية للإنسان وإنما يشبعها لدى كل إنسان دون أن ينحبس فيها ، يحترم خصوصياته دون أن يتحول هذا الاحترام إلى مبرر لبناء كانتونات اجتماعية مغلقة .
والطريق إلى ذلك هو بناء حقائق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.. بحيث يتحول هذا العنوان بحمولته الدستورية والقانونية والحقوقية إلى مرجعية عليا لكل مواطن.