الجمعة، يونيو 04، 2010

الفضيل بن عياض يعظ هارون الرشيد

قال الرشيد لوزيره انظر لي رجلاً أسأله، قلت: ها هنا الفضيل بن عياض؛قال: امض بنا إليه، فأتيناه؛ فإذا هو قائم يصلي، ويتلو آية من القرآن يرددها،قال: اقرع الباب فقرعت الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين،فقال: مالي ولأمير المؤمنين!
فقلت: سبحان الله! أما عليك طاعته؟ فنزل وفتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا، فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف هارون قبلي إليه.
فقال عياض: يا لها من كف، ما ألينها! إن نجت غداً من عذاب الله عزّ وجلّ. فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام من قلب نقي،
فقال له الرشيد: خُذ لما جئناك له - رحمك الله!
فقال عياض له: إن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبدالله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ - فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة.فقال له سالم بن عبدالله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم الدنيا. وليكن إفطارُك منها الموت. وقال محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً؛ فوقِّر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عزَّ وجلّ فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، وأكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت.
وإني أقول لك ( عياض ): إني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزل الأقدام، فهل معك - رحمك الله - مثل هؤلاء، أو من يشير عليك بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديداً، حتى غُشي عليه.
فقلت له/ الوزير : أرفق بأمير المؤمنين رحمك الله.
فقال عياض: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبدالعزيز شكى إليه، فكتب إليه عمر: يا أخي؛ أذكِّرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن يُنصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك.قال: لما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبدالعزيز؛ فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك؛ لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عزَّ وجلّ. فبكى هارون بكاءً شديداً ثم قال الرشيد له: زدني - رحمك الله!
فقال له يا أمير المؤمنين؛ إن العباس عمَّ النبي جاء إليه، فقال له: يا رسول الله؛ أمِّرني على إمارة. فقال له النبي: إن الإمارة حسرٌ وندامة يوم القيامة؛ فإن استطعت ألا تكون أميراً فافعل. فبكى هارون بكاء شديداً، ثم قال: زدني - رحمك الله!فقال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عزَّ وجلّ عن هذا الخلق يوم القيامة؛ فإن أردت أن تقي هذا الوجه من النار، فإياك أن تُصبح وتمسي وفي قلبك غش على أحد من رعيتك، فإن النبي قال: من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة. فبكى هارون وقال له: عليك دين؟ قال: دينٌ لربي لم يحاسبني عليه؟ فالويل لي إن سألني؛ والويلُ لي إن لم ألهم حُجتي، قال: إنما أعني من دين العباد! قال: إن ربي عزَّ وجلّ لم يأمرني بهذا، إنما أمرني أن أُصَدق وعده وأطيع أمره، فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريدُ منهم من رزق وما أُريد أن يُطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.فقال له: هذه ألف دينار، خُذها فانفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادة ربك. قال: سبحان الله أنا أدلّك على طريق النجاة، وأن تكافئني بمثل هذا! سلمك الله ووفقك، ثم صمت فلم يكلمنا.فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب، قال هارون: يا عباس؛ إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا! هذا سيدُ المسلمين.فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: يا هذا؛ قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال فتفرّجنا به، فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعيرٌ يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه.فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يُكلمه فلا يجيبه.قال الفضل: فبينما نحن كذلك إذ خرجت جاريةٌ سوداء؛ فقالت: يا هذا، قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله