إن الخطوة الأولى في مشروع تجسير العلاقة بين المكونات المذهبية في الأمة، هي في تجاوز كل مقتضيات الرؤية النمطية، لأنها رؤية تؤبد الأحقاد والفروقات، وتسوغ لجميع الأطراف ممارسة الفرقة وتنمية التباينات الأفقية والعمودية في زمن الاصطفافات الطائفية والمذهبية الحادة، وفي زمن التراشق والتلاسن والحروب المفتوحة بين الجماعات البشرية، التي تشكلت من خلال انتمائها التاريخي.. في هذا الزمن المليء بالأحقاد والإحن، يتم تسويق النظرات والمواقف النمطية، التي تعمم الرأي والموقف على الجميع، دون الالتفاف إلى مسألة التباينات والفروقات والخصوصيات بين أفراد كل مجموعة بشرية.
ولعل أهم ميزات القراءات والمواقف النمطية على الآخرين، أنها تطمس بحالة قسرية المشتركات ومساحات التوافق والتداخل، ويتم التعامل مع الآخر بوصفه آخرا بالمطلق.. والآخر بالمطلق في الدائرة الإسلامية والإنسانية،قد يكون نادرا بندرة الكبريت الأحمر.. لأن مستوى التداخل الثقافي والإنساني بين البشر أصبح عميقا ويوميا، بحيث إن بعض ما لدينا ونعتبره من مختصاتنا، هو في حقيقة الأمر قد يكون من الآخر الذي نمارس بحقه فعل النبذ والطرد والاستئصال.. وهذه المقولة تنطبق على جميع الأطراف، فبعض ما لدى كل طرف هو من الطرف الآخر.. وهذا بطبيعة الحال، لا يعيب أحدا، ولا يفتئت على أحد، وإنما هو من طبائع الأمور والحياة الإنسانية المركبة والمتداخلة في كل دوائر الوجود الإنساني.
وبالتالي فإن الرؤية النمطية التي تطلق آراء ومواقف بالجملة على المختلف والمغاير لا تنسجم وحقائق الأمور.. لذلك ثمة قصور حقيقي تعانيه النزعات النمطية في إدراك جوهر المشاكل والأمور العالقة بين مكونات اجتماعية متعددة ومتنوعة.. لأن هذه النزعات بطبعها نزعات اختزالية، تعتني بتسويق التباين والتشظي والتذرر، وتعمل على بناء الحواجز النفسية والعملية بين المختلفين تحول دون التلاقي والتفاهم وتوسيع المشتركات.. فكل نزعة نمطية في أي دائرة من دوائر الاختلاف في الوجود الإنساني، هي تعمل على طمس المشتركات والتوافقات سواء التاريخية أو الراهنة، وتستدعي وتضخم كل التباينات والفروقات مهما كان حجمها أو دورها الفعلي في إيجاد حالة التباين سواء في الرأي أو الموقف.
لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع تجسير العلاقة بين المكونات المذهبية في الأمة، هي في تجاوز كل مقتضيات الرؤية النمطية، لأنها رؤية تؤبد الأحقاد والفروقات، وتسوغ لجميع الأطراف ممارسة الفرقة وتنمية التباينات الأفقية والعمودية.
وكسر الآراء والمواقف النمطية والثابتة تجاه بعضنا البعض يتطلب الالتفات إلى النقاط التالية:
1- إن المكونات الاجتماعية والمذهبية، ليست حالة جامدة، ثابتة، وإنما هي مكونات تعيش الصيرورة الإنسانية، وتكثر فيها الآراء والقناعات المختلفة وثمة مسارات ثقافية وسياسية عديدة تجري في فضائها الاجتماعي.. لذلك لا يصح التعامل مع واقع هذه المكونات بوصفها مكونات غير قابلة للتطور والتحول سواء على المستوى الثقافي أو السياسي.. وهذا الكلام ينطبق على جميع المكونات.. فنحن لا نتحدث عن أفراد، وإنما عن كتلة بشرية ذات خصوصيات ثقافية واجتماعية محددة، إلا إنها كتلة ليست متجانسة في كل شيء.. وليست شبيهة إلى نظام الحزب الواحد.. وإنما كأي كتلة اجتماعية تتشكل من روافد اقتصادية وثقافية وسياسية متنوعة.. وبالتالي فإن كسر المنظار النمطي لكل الملفات، هو الذي يحرر الجميع من الحمولات التاريخية السلبية، التي يحملها كل طرف عن الطرف الآخر.. فنحن جميعا لسنا مسؤولين عن أحداث التاريخ والحقبة الماضية، والباري عز وجل سيحاسبنا عن رهاننا، لأننا نتحمل مسؤولية مباشرة فيه.. يقول تبارك وتعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (النحل، 36) وقال تعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون، وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت) (الجاثية، 21_ 22).
فى معظم البناءات الفكرية التي يبنيها كل من طرفي السنة والشيعة عن بعضهم بعضا يمثل صورا مخيالية لا تجد لها على أرض الواقع أي أساس حقيقي.. وهذا يعود إلى أزمة متأصلة في الانتماء والهوية يعاني منها كل من الطرفين.. " لا أحد يعيش قلقا طائفيا سوى من يجد ذاته في طائفة أو يحصر انتماءه وشعوره بها " من جهة، وإلى أزمة حداثية ما زال معظم شعوب المشرق العربي يرفض الإقرار بها من جهة ثانية.. وهو الأمر الذي يؤدي إلى أن بناء الصور الطائفية لا يتم وفق الاستناد إلى حقائق ما، بل وفق الشروط التأزمية المتحكمة بالبنى الذهنية المخيالية المتوارثة جميعا لهما.. وهذا هو سر أن السنة والشيعة حينما يتصارعون، كما هو جار حاليا، يعيدون لا رسم وجودهم فحسب، بل كذلك إعادة اختراع صراعات ينسبونها إلى التاريخ: (سواء في سبيل امتلاكه، أو لدعم صراعات الحاضر بواسطة ذاكرات ميثولوجية مخترعة) (جريدة الحياة، صفحة 21، العدد 18384 / الأحد 4/8/2013 م)..
2- لا توجد على المستوى الواقعي حلول سحرية لمعالجة مشكلة التوتر الطائفي والمذهبي، الذي بدأ يجتاح المنطقة العربية والإسلامية.. ولكن ثمة خطوات ضرورية، تساهم في ضبط التوترات الطائفية، وإدارة التنوعات المذهبية بطريقة إيجابية، لا تدمر الأوطان والمجتمعات.. ومن هذه الخطوات هو العمل على إعلاء قيمة أخرى مشتركة تنظم العلاقة، وتكون هي مصدر الحقوق والواجبات.. وهذه القيمة هي قيمة (المواطنة) بكل ما فيها من واجبات ومسؤوليات وحقوق.. فكل المجتمعات الإنسانية التي كانت تعيش حالة تنوع ديني أم مذهبي أم إثني، لم تتمكن من إدارة هذا التنوع على نحو إيجابي إلا بإعلاء من قيمة المواطنة، بوصفها هي العنوان العريض الذي يجمع الجميع بكل تلاوينهم الدينية والمذهبية.. وأحسب أنه لا خيار حقيقيا أمام المسلمين جميعا لضبط نزاعاتهم المذهبية، إلا بالمواطنة الجامعة، التي تضمن حقوق الجميع، وتصون خصوصيات الجميع، دون الإضرار بالحياة المشتركة في مختلف دوائر الحياة.
3- ثمة ضرورات وطنية وقومية ودينية في زمن الفتن الطائفية، أن يرتفع صوت المطالبين بوأد الفتن الطائفية، والساعين صوب خلق حالة تفاهم عميق بين المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية والمذهبية.. فلا يصح أن تبقى الساحة الإسلامية أسيرة الصوت المتطرف والداعي إلى التأجيج وإحياء الخلافات المذهبية.. لأن هذه الأصوات المتطرفة، هي التي توفر باستمرار مبررات الاحتراب والاقتتال الطائفي.
بينما في الواقع الإسلامي ثمة أصوات كثيرة، تدعو إلى الاعتدال والوسطية وتحارب كل أشكال الاحتراب بين المسلمين، ولها دورها المشهود في وأد الكثير من الفتن.. إن هذه الشخصيات ولضرورات ملحة وطنية ودينية، معنية اليوم بتزخيم عملها الوحدوي والتفاهمي والتقريبي، كما أنها معنية برفع الصوت ضد كل الممارسات الطائفية وأشكال الاحتراب المذهبي..
إن تراجع الأصوات الإسلامية المعتدلة والوسطية في هذه الحقبة الحساسة، التي تعيشها الأمة الإسلامية، هو الذي يفسح المجال، لكي يرتفع الصوت المتطرف، الذي يغذي الأحقاد بين المسلمين.
لذلك ومن أجل حقن دماء المسلمين، ومن أجل منع الحروب العبثية بين المسلمين، ثمة حاجة قصوى لكي يتبوأ خطاب الاعتدال الإسلامي موقعه اللائق في توجيه العالم الإسلامي، وبناء حقائق التفاهم والوحدة في واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة.