الثلاثاء، مارس 09، 2010

ياقوت الحموى


عاش فى بداية عهد الدولة الإسلامية الكثير من البشر الواجب علينا معرفتهم حق المعرفة، وكذلك معرفة حجم بل كم التضحيات التى ضحوا بها من أجل رفعة دين الله الإسلام ونصرته، فقهاء ومحدّثين وعلماء ومؤرخين وغيرهم فى عديد من المجالات الأخرى، كان منهم ياقوت الحموى.
عاش ياقوت فى بر الشام فى بلدة تدعى حماة، وكان عبداً مميز بين العبيد بشدة سواد لون بشرته، وكانت العبيد تنادى بأسماء ساداتها وملاكها، وكان هذا العبد شديد العزم قوى البنيان، فكان يبذل من المجهود فى عمله ما يفوق الكثير من نظيره من العبيد الأخرى، فكان حين يعمل بكد يظهر على وجهه شىء من حُمرة الوجه ومع لونه الأسود فكان ذلك لون مميز، شبّهه أهل حماة فى ذلك اللون بلون الياقوت الأحمر -الحجر الكريم المعروف- ومن حينها أطلق عليه ياقوت، ونسب إلى بلدته حماة، فأصبح أسمه ياقوت الحموى.
بجانب أعمال العبيد الكثيرة التى كان مكلفاً بها ياقوت، كان مهتماً بعلمى الحديث الشريف وعلم التاريخ أو التأريخ على وجهه التحديد -أى كتابة التاريخ- فإجتهد كثيراً من أجل الإبحار فى علومه المحببه إليه، حتى أصبح ياقوت من أشهر المحدّثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى زمانه، وكذلك أصبح من المؤرخين العظام، ويرى علماء التاريخ الآن وفى كل العالم أنه من القليلين اللذين كتبوا فى التاريخ بحياد تام ودون أى إنحياز.
وإشتهر ياقوت الحموى فى كل البلدان المجاورة، إشتهر برجاحة عقله وصدقه فيما ينقل إليهم من أحاديث وأخبار الأمم السالفة، فتوافد عليه طلاب العلم من شتى الأنحاء، فكان يسرع فى عمله وخدمة أسياده حتى يذهب ويجلس مع تلاميذه المتوافدين عليه من بقاع بعيدة، ويلقى عليهم العلم مرات ومرات حتى يفيدهم، حتى أصبح مجلس ياقوت من أشهر مجالس وحلقات العلم فى العالم الإسلامى أجمع.
كل هذا ومازال عبداً لسيده يخدمه ويطيعه بلا أنفٍ أو ضيق، ولم يضق صدره يوماً بالإسترقاق أو إذا جاز لنا القول بالعبودية، إلى أن فكر بأن يجعل كل وجلَ وقته للعلم، يعلم ويتعلم، يلقى ويتلقى، يبحث ويستقصى، ففكر بأن ينهى عبوديته، فكيف ينهى هذا العالم الجليل هذا الرق وما سبيله إلى ذلك، كان السادة اللذين يملكون عبيداً واجب عليهم إطعام تلك العبيد خاصتهم، إما بتقديم القليل من الطعام إليهم، أو إعطائهم القليل جداً من المال ليطعموا أنفسهم، فما كان من ياقوت إلا أن لجأ إلى ما يُعطى إليه مال ليأكل وبدأ بالإدخار والتدبير، فعاش ياقوت أوقاتٍ طويلة لا يأكل إلا القليل، عاش حياةً من التقشف الشاق من أجل حريته، الحرية التى يتمتع بها الكثير فى كل آنٍ وأوان، فى كل زمانٍ ومكان وللأسف لا يدركون معانيها، عاش ياقوت هكذا طويلاً إلى أن إدخر مبلغً من المال كان يكفى لشراء أقوى وأشد العبيد من سوق النخاسة، فذهب إلى سيده وطلب بكل أدب وإحترام أن يسمح له سيده بشراء حريته منه، بأن ياخذ السيد هذا المال ويشترى غيره ما يحتاج من العبيد، وأن يسّرح ياقوت.
وبالفعل ما كان على السيد إلا أن وافق وأخذ المال ومنح ياقوت الحرية المرجوة، فأكمل ياقوت مسيرته ولكن كان قد مضى من عمره قدراً، بعد أن لاقى الكثير من العذاب والتعب والهوان، الكثير من الكلل ولم يصب باليأس أو الملل وبعد حياة مليئة بكل ماسبق وعزم وإصرار من رجل علم معنى الصبر بل ويعلمه لكل من جاء بعده، يلخص ياقوت حياته فى بيتين من الشعر، أقر كل الشعراء اللذين جاءوا من بعده أنهما من أروع ماكتب فى الشعر العربى، كيف لهذا الرجل أن يشمل حياة طويلة فى بيتين شعر، كيف له وهو لم يكن شاعراً، ووقفوا جميعاً أمام قوة البيتين عاجزين، إذ قال ياقوت:
تنكرَ لى دهرىٍ ولم يدرى أننى أعزُ وأحداثُ الزمانِ تهونُ
فباتَ يرينىِ الخطبُ كيفَ إعتداؤهُ وبت أريهِ الصبرَ كيفَ يكونُ
هذا هو ياقوت الحموى بعلمه وصبره وكفاحه وجَلَده، بإصراره وعزيمته، وبإيمانه بالله تعالى، فأين نحن من هذا الياقوت، أين نحن من كل تلك الصفات، ندعوا الله العظيم أن يرحم عبده ياقوت، وأن يرحمنا معه، وندعوه أن يمن علينا بمثل ما من به على ياقوت من علم وصبر وعزيمة، علينا الدعاء ----- ومن الله الإجابه