الأربعاء، فبراير 17، 2010

حقيقة السعادة، ومطالب الرفاهية - ما هي؟

كثيرون هم المتشائمون، قتلهم التشاؤم الخادع.
كثيرون يشكون خوفهم من الحياة والمستقبل.
حين يجمعك المقام ببعض عامة الناس تراهم في وجل واضطراب، لا تسمع منهم إلا الشكوى من الحياة، ولا تحس منهم إلا الخوف من المستقبل. اليوم للأسف عصر القلق والحيرة.. عصر اتسعت فيه طموحات الناس اتساعاً جعلهم أحياناً عاجزين عن تحقيق هذه الطموحات، والعيش في رفاهيات يتطلعون إليها.
عامة الناس يشكون سوء ظروفهم.. قلة الدخل - كما يشعرون عن تلبية احتياجات الحياة لهم ولأسرهم، وإذا قلت له إن الدنيا بخير.. قال أسفاً: أين الخير؟! وما هي الدنيا من حولك صراع ونزاع.. وتكالب بالمخالب والأنياب.
الشباب وأبناء هذا الجيل هم أشد الناس إحساساً بالقلق، وعدم الثقة في المستقبل، وكل يريد أن يملك الدنيا بين يديه في ساعات.
لقد صار القلق عند الكثير منا رفيق عصرنا هذا، والخشية من المستقبل أصبحت من علاماته البارزة وسماته المميزة، فالقلق والتخوف من المستقبل مشكلة إنسان هذا الزمان، أينما حل أو ارتحل.
ولو سألت اليوم أي إنسان مهما كان شأنه ومركزه إلا القليلين الذين يسر الله لهم الحياة بكل جوانبها، أو رزقهم الله القناعة والرضا وهدوء البال لشكا لك من حاضره الذي يحياه، ولأطلعك على مدى القلق الذي يساوره، وهو يستشف المستقبل الذي هو مقدم عليه، ولأفاض في الترحم على ماض ولى، وزمان أدبر ورحل، وطوى معه سعادة كانت تغمر الإنسان، وراحة بال تسمع من محدثك قوله إننا افتقدناها في عالم اليوم الذي نحياه.
ينظر كثير من الناس اليوم إلى حالهم ومستقبلهم بمثل تلك النظرة القلقة، وهم يظنون أن هذا خاص بهم وحدهم، وبطبيعة عملهم، وبنمط حياتهم.. وتراهم في محاولات للخروج من هذه المشاعر القاتلة يطلقون لخيالهم العنان، فيصور لهم وضعاً مثالياً في مكان آخر، وينسج لهم صورة مشرقة في عمل مختلف.. بل ربما تسول لهم أنفسهم هدم كل ذلك الذي هم فيه، والبحث عما يرون أنهم جديرون بأن يعيشوه، ولكن سرعان ما يكتشف هؤلاء بملامستهم لأرض الواقع أن ما زينه لهم خيالهم ما هو إلا أوهام، وأن المشكلة عامة، وليست خاصة، فالكل في هذا العالم يشكو الزمان حاضراً ومستقبلاً، ويحمل الظروف شكواه، وسبب بلواه.
إن البحث عن مستقبل أفضل، وحياة أسعد، وراحة بال أكثر هي ليست مطلب إنسان هذا العصر وحده، بل هي مطالب أزلية قديمة.. فلقد بذل الإنسان منذ بدء الحياة محاولات من أجل تعديل الواقع، وتحسينه، بحيث يكون المستقبل أكثر اقتراباً وأسرع تحققاً.
ومن أبرز تلك المحاولات في الماضي البعيد محاولة فيلسوف الإغريق الشهير (أفلاطون) صاحب (المدينة الفاضلة) في عمله الخالد (جمهورية أفلاطون) الذي رسم فيه صورة لما ينبغي أن تكون عليه هذه المدينة التي ستحقق للناس السعادة والرفاهية.
وقد حدد علامات أو مقومات تحقيق المدينة الفاضلة لإقامة المجتمع السعيد حقاً على القيم الثلاث (الحق، الخير، والجمال)، وفيها مجموع كل القيم والأخلاقيات التي لو تحققت في كل إنسان وكل مجتمع لكانت فيها السعادة الحقيقية.. لكن ثبت أن هذا ضربٌ من الخيال يتعذر تحقيقه.
عجيب أمر هذ الإنسان.. كلما تحقق له مطلب شقي طالباً مطلباً آخر، وليت إنسان هذا العصر ينظر إلى ماضي أجداده، ومكابدتهم ظروف الحياة، فعلى سبيل المثال: كان آباؤنا وأجدادنا يقضون الشهور على ظهور الإبل لأداء فريضة الحج، وقد يلقى بعضهم ربه أثناء هذه الرحلة - أما اليوم فقضاء مناسك الحج والعودة منه لا تستغرق إلا أياماً قليلة.
وإني من كل هذه الصور التي تتراءى أمامي أؤكد أن القناعة ليست هي الضعف، وأن الطموح والتطلع للأفضل هو سر الحياة وواجبنا جميعاً فيها، وها أنا واحد ممن غمرتهم نعم الله في كل مجالات حياتي.. وكمثلي صار كثير من أقراني.. البون شاسع بين ما كنا فيه عند بدء حياتنا.. وبين ما نحن اليوم نحياه من رغد، وخير، ورضاء في كل المجالات حولنا، وأن الحياة قد استقرت بنا..
وفي يوم من الأيام حين رأى شدة تذمري أجلسني بجواره، وقال: كم عمرك؟ مع أنه يعرفه - قلت: ثلاث عشرة سنة، قال: عدّ لي كل من هم في بلدتنا في مثل عمرك - أو قريب منه، وكنت أعرفهم جميعاً - وبعد أن ذكرت معظمهم - إن لم يكن جميعهم له - قال: مَن فيهم يبزك صحة، ومعيشة، وتعلماً؟ لم أجد جواباً شافياً؛ إذ لم يكن في المجموع غير ثلاثة يساوونني في هذه النعم التي كنت فيها، فكأنه أراد أن يعلمني الرضاء، والقناعة، والحمد عملياً
وشيء آخر في حياتنا اليوم: هل تلك المخترعات، والمنجزات الحديثة التي كان من المفروض أن تحقق الرفاهية والسعادة للإنسان أصبح الكثير منها مصدراً للقلق والخوف؟ هل كل هذه الأدوات الحربية المتطورة التي تفتك بالإنسان هي السبب فيما ينتاب العالم من قلق؟
نعم إذا كان الإنسان قد حقق من الإنجازات العلمية، والمبتكرات التي تستخدم في السلم، ومن أجل الرفاهية فإن ما حققه في ميدان الدمار والخراب أعظم وأخطر.
إن مكمن القلق هو أن الإنسان قد اعتمد في مخترعاته وابتكاراته على الجانب المادي فقط، وأهمل الجانب الروحي، وهو جانب الدين، والخلق، والمثل، والمبادئ، وبذلك فإن نفس الإنسان المعاصر قد ضعف فيها وازع الدين واليقين الذي يحميها من القلق المدمر، وخفت المبادئ الروحية التي تشفي النفس من الخوف المرعب: حتى صارت لا تثق في بعض الأحيان في الخير المستمر على هذا الوجود من الله تعالى، وأصابهم القنوط، وقل الرضا بالحياة وما فيها، ناسين قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقنطوا من رحمة الله).
سبحان الله.. لم أجد في هذه الدنيا أي شيء إيجابياً كله، ولا سلبياً كله.. لكني حين أتامل حالة آبائنا من سنوات وما قبلها كانوا في رضاء وقناعة بحياتهم، لم يعرفوا شيئاً من هذا القلق، وقد كان ذلك نتيجة ما يبذلون من جهد وكد، لم يترك لهم وقتاً للتبرم والشكوى، مع أنهم كانوا يعيشون حياة محدودة، لا تفاجئهم أحداث العالم المتصارعة اليوم، ولا يعرفون عنها شيئاً بحكم انقطاع وسائل الاتصال بالعالم الخارجي.
وقد تأكد لي من خلال الملاحظة والرصد أن أكثر الناس تعاسة هم العاطلون - الذين لا عمل لهم يشغلهم عن التفكير في تطوير أنفسهم وعملهم.. بدلاً من الهواجس والأوهام التي تملأ وقتهم.
وأثناء تسجيلي لبعض ما يملأ بعض الناس اليوم من هذه المشاعر الغامضة، الشاكية، البائسة، اليائسة، تذكرت هذه القصيدة العصماء في موضوعها لللشاعر المهجري إيليا أبي ماضي، والتي أطلق عليها (فلسفة الحياة).
لنتدبر معاً ما يأتي من أبياتها فما جاء فيها سوف يغنيني عن الكلام ويغنيك عن البحث عما يحيط بك من قضايا:
أيهذا الشاكي وما بك داءُ
كيف تغدو إذا غدوت عليلا
إن شرَّ الجناة في الأرض نفسٌ
تتوقَّى قبل الرحيل الرحيلا
وترى الشوكَ في الورود، وتعمى
أن ترىَ الندى فوقها إكليلا
هو عبء على الحياة ثقيل
من يظن الحياة عبئاً ثقيلا
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
هكذا يؤكد الشاعر أن أشقى الناس هو من يشعر بالشقاء، أو يتخيل أنه شقي.. ومثل هذا المنقبض نفساً.. المتجمد روحاً.. هو حقاً عبء على الحياة كلها، وهو أقل فهماً لما فيها من عصفور صغير.. عصفور فهم الحياة حق فهمها؛ فانطلق مغرداً تحت أي ظروف تواجهه:
أدركتْ كنْهها طيورُ الروابي
فمن العار أن تظلَّ جهولا
ما تراها والحقلُ ملْكُ سواها
اتخذت فيه مسرحاً ومقيلا
تتغَنَّى والصقر قد ملكَ الجوَّ
عليها، والصائدون السبيلا
فاطلب اللهو مثلما تطلب الأ
طيارُ عند الهجير ظلا ظليلا
وتعلَّم حُبَّ الطبيعة منها
واتركْ القالَ للورىَ والقيلا
فالذي يتقي العواذل يلقى
كل حين في كل شخص عذولا
إن الحياة كلها إلى فناء، ولا خلود لمخلوق.. (كل من عليها فان) وإذا كانت هذه هي النهاية الحتمية فالحكمة تفرض علينا أن نحيا ما نحياه من العمر حياة هانئة.. حياة هي للخير والسعادة، لا للكدر والشقاء.. لأن من يقضون عمرهم مع أوهام التعاسة والتشاؤم.. لا يشعرون بسعادة، ولا يقدِّمون لأحد سعادة، هم يعذبون أنفسهم بأنفسهم، ويضيعون حياتهم هباء بأفكارهم السوداء، ومشاعرهم العمياء وهم بذلك لا يستطيعون الخروج من مآزقهم إن كانت هناك مآزق.
حقيقة لم يخلقنا الله الرحمن الرحيم.. للشقاء.. لكن خلق لنا كل شيء ، وسخر لنا كل مظاهر الحياة لنعبده موحدين ألوهيته، ونحن سعداء في هذا العالم المليء بالخير.. والذي يجب أن نحياه متفائلين.. سعداء.. آمنين.. نصنع الخير لأنفسنا والعالمين من حولنا، لا نشعر بشقاء.. ولا نعكر صفو الحياة للآخرين.. بل نحيا بفلسفة الحب، والخير، والجمال.
ما أتينا إلى الحياة لنشقَى
فأريحوا أهل العقول العقُولا
كلُّ من يجمعُ الهمومَ عليه
أخذتْه الهموم أخذاً وبيلا
كن هزاراً في عشه يتغنىَّ
ومع الكبل لا يبالي الكبولا
لا غُراباً يطاردُ الدودَ في الأرض
وبُوماً في الليل يبكي الطلولا
إننا يجب أن نخرج من ظلام النفس البشرية إذا ما كان أحدنا هكذا.. يجب أن نترك مشاعر الانقباض والأسى، إذا ما سيطرت على نفس من نفوسنا، ونعود للتفاؤل والسعادة، نعود كالصباح الجميل، لا نحيا كالليل الحالك البهيم:
مات النهار ابن الصباح، فلا تقولي: كيف مات؟
إن التأمل في الحياة يزيد آلام الحياة
فدعي الكآبة والأسى، واسترجعي مرح الفتاة
قد كان وجهك في الضحى مثل الضحى متهللا
فيه البشاشة والبهاء
ليكن كذلك في المساء
وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.