السبت، يوليو 11، 2009

ثقافة الإستهلاك الأسباب و الحل

يعتبر "الاستهلاك" من القضايا التي يطرحها الاقتصاديّون كمؤشرات للعديد من الأمور الاقتصادية، كمستوى رفاهية الأفراد، وقياس الدخل القومي وغير ذلك، ولكن حين يتحوّل "الاستهلاك " إلى "استهلاك غير رشيد"، ويؤثّر سلباً على قيم اجتماعيّة وثقافيّة، ويؤدّي إلى أمراض نفسية، فإنّ علماء الاجتماع هم من يطرح هذه القضية لمحاولة علاج هذه الظاهرة. فحين لا يوازن الفرد بين دخله و مصروفاته، أو أن يحرص على السلع الكمالية على حساب السلع الضروريّة، ويصمم على شراء السلع، ويتعلق بها، وحين يكون للسلع معنى آخر غير الوظيفة التي تؤديها، ولا يتمّ الحفاظ عليها بعد اقتنائها، وحين ينتشر الاقتراض وتسهيلات الشراء مع غياب خيار الادّخار والاستثمار، يطرح علماء الاجتماع والاقتصاد قضيّة "الاستهلاك" كمشكلة ينبغي التعمّق في معرفة أسبابها، وآثارها على الفرد وعلى المجتمع.
ولقد تناول علماء الاجتماع الغربيّون هذه الظاهرة، وتحدثوا عن أسبابها ضمن إطار ثقافتهم المادية أصلاً، و نشأت مدارس فكرية تحاول سبر هذه الظاهرة، و لقد أفادت كثيراً في معرفة الأسباب والآثار، حتّى للمجتمعات التي تختلف عنها في ثقافتها .
هذه الظاهرة - غربية المنشأ - بدأت في الانتشار في المجتمعات الإسلاميّة عموماً، وأصبح ظاهراً للعيان الكثير من السلوكيّات اليوميّة التي تصنّف ضمن "الاستهلاك غير الرشيد"، فنحن على سبيل المثال نرى انتشار ظاهرة الشراء من الماركات ذات الأسعار العالية حتّى لو كانت قيّمة، هذه المنتج تصل لنصف الراتب الشهري، ونرى كذلك توسّع الفئة التي تعلقت بعملية "الشراء"، حتى أضحت رغبة قوية تتحوّل إلى تصميم كبير للحصول على كل جديد من السلع والمنتجات، ونرى تزايد عدد الأفراد الذين يقضون الوقت الطويل في الأسواق من أجل التعرف المتواصل على المنتجات واقتنائها، وانتشرت كذلك مفاهيم تربط اقتناء المنتجات والخدمات بالرضا النفسي عن الذات، والثقة بالنفس، هذا بالإضافة إلى ربط بعض المنتجات - كالماركات والسيّارات المرتفعة الثمن - بمستوى اجتماعي معيّن، وادّعاء الأفراد أنهم من هذا المستوى عبر اقتناء هذه المنتجات.
وعند الحديث عن هذه الظاهرة في مجتمعاتنا فإنه ينبغي أن نراعي خصوصيّة الظروف التي مرّت و تمر بها، والثقافة التي تسودها أصلاً، و التي قد تعطي أبعاداً أخرى تختلف عن تلك التي يتحدّث عنها علماء السلوك الاستهلاكي في الغرب.أنها خمسة عوامل رئيسة:
العامل الأوّل: - غياب المفاهيم الإسلامية التي كانت حاضرة في المجتمع والتي لا تتوافق مع مثل هذه السلوكيّات، فالإسلام يحتوي على قواعد و مفاهيم عامة تبعد الملتزم بها عن هذه الأنماط، كالنهي عن التعلّق بالدنيا، والإخلاد إليها، و النظر إليها كمعبر و ليس كدار للقرار، والتقليل من شأنها وشأن المتع فيها، وجعل الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية، والحثّ على التطلع المستمرّ إليها - مع الأمر بالتمتع المعتدل في الدنيا، قال تعالى: }وَابْتَغِفيماآتاكَاللَّهُالدَّارَالْآخِرَةَوَلاتَنْسَنَصيبَكَمِنَالدُّنْيا [1]{ و قال تعالى :}زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشّهواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنينَ وَ الْقَناطيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [2]{ وقال تعالى :} الْمالُوَالْبَنُونَزينَةُالْحَياةِالدُّنْياوَالْباقِياتُالصَّالِحاتُخَيْرٌعِنْدَرَبِّكَثَواباًوَخَيْرٌأَمَلاًوكالنهي عن لبس ثوب الشهرة، فاستخدام الأشياء هي فيما وضعت له، وليس لمعنى آخر فيها، و كالنهي عن الإسراف، وغيرها من المفاهيم التي تشكّل حصانة ضدّ هذه الأنماط.
لقد تعرض المجتمع إلى فترات كان من الممكن أن تنتشر فيها هذه الأنماط بصورة كبيرة، لكن حضور مثل هذه المفاهيم أدت إلى حمايته، وتضييق دائرة المتأثرين.
العامل الثاني:الانفتاح الاقتصادي المواكب للثورة الاقتصادية العالمية الحالية، المسماة بـ:"العولمة الاقتصادية" والتي تتسارع وتيرته اليوم في العالم أجمع، و تنضم إليه الدّول، بالتوقيع على اتّفاقيات منظمة التجارة العالميّة، وفتح أسواقها للشركات المتعددة الجنسيات. والأهم هو تبنيها للنظام "الرأسمالي" بمفاهيمه وتصوراته، والذي يعولم الشعوب ويجمعها على مفاهيم الرأسمالية، وخياراتها.وكانت الدول الإسلامية ممّن انضم إلى العالم المعولم اقتصادياً، ففتحت الأسواق للشركات المتعددة الجنسيات، وامتلأت الشوارع بالإعلانات، و رعت التخصصات الجامعية التي تناسب سوق العمل فحسب، وتحولت أحلام الشباب من النجاح إلى الثراء، و انتشر نمط الاستهلاك غير الرشيد الذي يغذيه هذا النظام، والذي لا يقوم إلاّ على أكتاف المستهلكين. نعم، لا ننكر أن ما قام به هذا النظام هو مجرّد إعطاء الحريّة للمستهلك أمام خيارات كثيرة، لكن هذا النظام يحرص على استثارة المزيد من السلوك الاستهلاكيّ لضمان استمراريته.
إن العولمة الاقتصاديّة وإن كانت ليست هي السبب الوحيد في انتشار هذه الأنماط، لكنها من الأسباب الرئيسة.
العامل الثالث:وهو عامل اجتماعي يطلق عليه الباحثون:"المحاكاة و التقليد"، وهذا العامل يعني أن الأفراد في طبقة ما يميلون إلى محاكاة الطبقة الأعلى منهم في الثراء. وتزداد هذه الظاهرة في المجتمع إذا وجد فيه "الحراك الاجتماعيّ"، ويعني صعود طبقة ما إلى أعلى السلّم الاجتماعيّ، ونزول أخرى، ذلك أنّ الطبقة الصاعدة تسارع في اقتناء المنتجات التي تبرهن على وصولها إلى الطبقة العليا، بينما تحاول الطبقة النازلة اقتناء المنتجات التي كانت تقتنيها لتبرهن على أنها لازالت في الطبقة العليا، وتقتني الطبقة المتوسطة نفس المنتجات ادعاءً أنها من الطبقة الصاعدة في المجتمع، وهكذا يصبح للمنتجات معنى ودلالة اجتماعيّة، وتنتشر أنماط الاستهلاك في سائر المجتمع للدّلالة على أنّها من طبقة اجتماعيّة أعلى، و أكثر ثراء، و هنا يغيب العقل في تقييم المنتجات، والحاجة إليها، و يرتبط بمجرّد تقليد الطبقة الأكثر ثراء في المجتمع.العامل الرابع:وهو عامل نفسي، ويعني ارتباط الاستهلاك بالسعادة، وتحقيق التوازن النفسي للفرد، عبر الإيحاء بأنّ امتلاك المنتجات واستهلاكها يعني تحقيق النجاح في الحياة.هذه النظرة هي من صميم النظرة الماديّة للحياة، والتي تربط معنى السعادة والنجاح، وتحقيق الذات، بامتلاك المزيد والمزيد من المنتجات.بالإضافة إلى أن كثيرا من المنتجات تربط بحاجات نفسية أخرى غير حقيقية، كالحصول على الجمال إذا استخدم مستحضر ما، أو الحصول على القبول الاجتماعي إذا استُخدم عطر ما، أو "شامبو" ما، ويعمل الإعلام و الإعلانات على خلق هذه الحاجات.العامل الخامس:
الإعلام والإعلان، وهذا العامل يلعب على الأوتار الاجتماعيّة والنفسية، فهو الذي يعطي الصورة الذهنية للنجاح والثراء، ويقدم النماذج الجاهزة للتقليد للطبقة العليا الثرية، وهي كذلك تخلق الحاجات النفسية لدى المتعرضين له. و هذا العامل من أكثر العوامل التي تحفز الأفراد على الاستهلاك، وتلحّ عليهم به عبر خلق الحاجات، والإيهام بالمنافع، وتحصيل اللذّات، وذلك بطريقة بسيطة وسهلة الاستيعاب، وتذكرهم باستمرار بالمنتجات في البيت و الشارع و العمل .