الثلاثاء، يونيو 09، 2009

ثقافة القضاء و القدر

هذه قصة أعجبتنى يرويها مواطن مصرى صميم قصه من واقع حياتنا اليوميه إقرؤها ومن فضلكم علقوا عليها إن أعجبتكمالقصه بعنوان ميكروباص وسنوبيزم وأشياء أخرى
لأسباب تتعلق بالنحس، اضطررت ذات مرة إلى العودة من القاهرة إلى طنطا في ساعة متأخرة بعد رحيل آخر القطارات.. وهكذا ركبت إحدى سيارات الميكروباص الواقفة في ميدان رمسيس والتي يصرّ رجال المرور على أنه لا وجود لها
منذ البداية لاحظت أن السائق محمر العينين يتكلم بالضبط على طريقة اللمبي.. نموذج فريد جدًا يصلح لشرح الإدمان عليه لطلبة الطب.. شاب عجن شعره لأعلى بالفازلين، وارتدى سوارًا جلديًا ويعاني حالة متقدمة من الإحساس بالفتونة والعافية والفخر بشاربهانطلق الميكروباص في تلك الرحلة السوداء التي يمكنك أن تتخيلها.. سرعة جهنمية حتى شعرت بأن الميكروباص لا وزن له تقريبًا.. أخطاء قاتلة.. فرملة حيث لا ينبغي أن تفرمل.. الأضواء كلها مطفأة على سبيل الحرفنة.. كل قاعدة مرور في الكتاب خرقها هذا الفتى.. إنه يسرع في المنحنيات برغم أن أول قاعدة قيادة سمعتها في حياتي هي التهدئة في المنحنيات، من ثم يتحول الميكروباص إلى دراجة أطفال لطيفة تجري على عجلتين
بهذه الطريقة في القيادة ليس الغريب أن يقع حادث من وقت لآخر.. المعجزة الحقيقية ألا يحدث حادث كل دقيقة.. المعجزة ألا تكون لدى كل سائق ميكروباص مرة واحدة يقود فيها في حياته ثم يموت ويأتي غيره
خلّص واخطفها.. كلمتان هما السبب الدائم لمشكلة المرور في بلدنا.. كل حادث لابد أن سببه واحد أراد أن: يخلص أو وجد فرصة وأراد أن: يخطفها
حتى هذه اللحظة كنت أرى الركاب هادئين مستسلمين، وقد قال لي أحد الجالسين جواري: هو دايمًا يسوق كده.. ما تركزش وبإذن الله نوصل بالسلامة.. لكن صبري كان قد نفذ، فلو كان هذا المخبول يتوق إلى تدمير الميكروباص والانتحار فهذا شأنه، أما أنا فليس ضمن برنامجي أن يصير أطفالي يتامى بسبب مدمن أفرط في شرب التوسيفان أو تلك الخلطة اللعينة التي يطلقون عليها: مزاج العربجيصارحته برأيي في قيادته وكيف إن الميكروباص كاد ينقلب سبع مرات على الأقل.. فقال في غلظة وتحد: مش انت اللي سايق يا أستاذ.. أنا اللي وازن الدركسيون وعارف أنا بعمل إيه بالضبط.. يعني أنا عاوز أقلب عربيتي؟
أخبرته بحقيقة حسبتها مفهومة، هي أن كل من انقلبت به السيارة كان يزن عجلة القيادة ويعتقد أنه يعرف ما يفعله ..وبالتأكيد لا أحد منهم تمنى أن يحطم سيارته.., كل هذا مألوف للقارئ ولا يبرر كتابة هذا المقال، لكن ما ليس مفهومًا هو تلك الثورة العامة التي عمت السيارة، وكيف هبت كل تلك الخراف النائمة تصيح بي بمزيج من الغضب الحقيقي ومداهنة السائق: يا عم ما تفوّلش.. تف من بقك.. بشّروا ولا تنفّرواكان رأسي يوشك على الانفجار من الغيظ.. تأمل معي هذا المنطقالتحذير هو الذي سيقلب السيارة ويرسلنا إلى الجحيم، بينما كل هذا الذي يمارسه السائق شيء طبيعي والرجل يعرف ما يفعله.. الحوادث لا تقع لأن هناك مستهترين، وإنما لأن أمثالي من الأفندية كغربان البين يصرون على التفويل.. طبعًا تمت الرحلة على خير بدليل أنني أكتب هذه السطور، وإن حققت رقمًا قياسيًا جديدًا هو ساعة إلا الثلث من القاهرة لطنطا، لكن هذه القصة ذكرتني بقصة للراحل العظيم يوسف إدريس اسمها: سنوبزم، عن أستاذ الأنثروبولوجي الذي اعتاد ركوب الأتوبيس المزدحم، وفي يوم راقب مشهدًا غريبًا.. رجل يتحرش بامرأة إلى درجة محاولة نزع ثوبها.. لما استغاثت المرأة هب ركاب الحافلة كلهم.. على من؟.. على المرأة طبعًا.. وتم رميها من السيارة في أول فرصة
الغريب أثار فضول عالم الأنثروبولوجي فسأل الناس بصوت جهير عن سبب هذا التصرف.. كانت النتيجة أنه تلقى علقة ساخنة وأُلقي من الأتوبيس بنفس الطريقةالسلوك الجماعي يتخذ مناحي غريبة أحيانًا، وهو في قصتي يكشف الكثير عن مفهوم القدر في عقولنا.. في هذا المفهوم يعتبر الحذر من الحوادث هو سبب الحوادث، ولا يوجد ما يمكن منعه على الإطلاق و: لو مكتوب لنا نعمل حادثة حنعمل.. حتى لو العربية واقفةياسلام على كل هذا الإيمان والزهد الجديرين بالدخول في تراث التصوف
يقود الرجل سيارته بسرعة ثمانين في الساعة وطفله السعيد على حجره خلف المقود، معرضًا الطفل لتهشيم جمجمته مع أول فرملة عنيفة، فلو أنه ارتكب هذه الفعلة في الخارج لشنقوهيترك الرجل طفله يتسلق سور الشرفة ويتدلى منها يناول الرجل صديقه كوب الشاي الساخن فوق رأس طفله.. فإذا تكلمت قال لك في حكمة إن الحذر لا يمنع القدر وإن: ربنا يستر.. فإذا وقعت الواقعة وهلك الطفل جلس في سرادق العزاء يبكي ويتحدث عن: الوديعة التي استردها الله منا.. و: هذا هو عمره
نعم.. كان مكتوبًا أن يتسلق الطفل سور الشرفة وتنزلق قدمه فيسقط في الشارع.. كان مكتوبًا أن ينفجر إطار الميكروباص وينقلب وهو يرمح بسرعة 120 كيلومترًا في الساعة.. كل هذا مكتوب كما كتب أنك أحمق مستهتر، ورعونتك سوف تقودك إلى المهالك
سبعون بالمائة من الحوادث يمكن منعه.. هذا ما يقوله الغربيون.. كم من حريق ينتظر أن يحدث بسبب عقب سيجارة أو ماس كهربي.. كم من كوب مليء بالبوتاسا الكاوية التي تبدو كاللبن ينتظر الطفل البائس الذي سيشربه.. حادث السيارة المروع الذي سيحدث فجر غد بسبب الرعونة.. كل هذا يمكن منعه.. حتى الأوبئة يمكن منعها لأن هناك فرعًا مهمًا من الطب اسمه الطب الوقائي، فلا تبقى إلا نسبة 30% يستحيل أن تفعل بصددها أي شيء، وهي قائمة البراكين والفيضانات والزلازل، وطبقًا لهذا كان ينبغي أن تكون مصر أكثر بلدان العالم أمنًا، فقد حفظها الله من الكوارث الطبيعية لكننا ملأناها بالكوارث البشريةأحيانًا تبلغ القدرية درجة تثير الجنون.. أذكر أن شابًا في العشرين من معارفي أجرى جراحة تافهة، وبسبب خطأ اعترف به طبيب التخدير توفي الفتى على مائدة الجراحة.. قلت لأقاربه إن من حقهم.. وربما واجبهم.. أن يتخذوا إجراءً قانونيًا.. كان ردهم متوقعًا هو أن التقاضي لن يعيد لهم من مات، ثم أن هذا عمره.. لقد كان مكتوبًا له أن يموت في هذه الساعة.. قلت لهم إنه لو أخرج طبيب التخدير سكينًا وأغمده حتى المقبض في صدر الفتى، فهذا عمره أيضًا.. ولو عممنا القاعدة فلا جدوى من معاقبة القاتل في أية جريمة.. بالطبع لم يكونوا مستعدين لسماع هذا الهراء ، وخبرات آلاف السنين لا يمكن تغييرها
تريد هذا
أعتقد أن هذه القدرية سوف تكبلنا للأبد، ما دام لا يمكن منع الحوادث، وما دامت فكرة الاحتياط اعتراضًا على القدر.. واجب علماء الدين أن يثبتوا مفهوم: أعقلها وتوكل.. في أذهان الناس منذ الصغر، وأن ينموا نوعًا من الوعي المروري ذي الطابع الديني في الأذهان.. إذا كان الناس فعلاً متدينين بالقدر الذي يحبون أن يتصوروا أنفسهم بهالخاطر الأخير الذي جال بذهني بعد مغامرة الميكروباص تلك هو صورة وطن كامل.. وطن كامل يندفع إلى الهاوية، بينما الناس نيام مستسلمون لقدرهم، و: ما تركزش وبإذن الله نوصل بالسلامة، فإذا فتح أحمق فمه للاعتراض هبوا غاضبين يخرسونه.. السائق يؤكد أنه يسيطر على عجلة القيادة تمامًا لكن الشواهد تكذبه.. ثم إنني استبعدت هذا الخاطر حتى لا يتهمني أحد بـ: التفويل، فلعلي إذا أسرفت في الحديث عن ضياع الوطن ضاع الوطن فعلاً